لما تمثله قناة السويس من كونها مرفقًا حيويًا لحركة التجارة الدولية، صدر مؤخرًا كتاب عن الكاتبين كارميلا لوتمار وزيف روبينوفيتز كتاب “قناة السويس: دروس الماضي وتحديات المستقبل”. وهو يتناول قناة السويس من زوايا مختلفة، ويمثل نتاج مؤتمر علمي عُقد في جامعة حيفا عام 2019، بمناسبة مرور 150 عامًا على افتتاح هذا الشريان الحيوي محليًا ودوليًا.

كان هدف أبحاث المؤتمر استكشاف ووصف وتحليل الجوانب المختلفة المتعلقة بقناة السويس، بما في ذلك تطورها التاريخي علي مر السنين، لتصبح شريان التجارة الدولية. وقد وصفت القناة في الكتاب كما يلي: “مرفق حيوي يستخدم علي نطاق واسع في حركة التجارة الدولية: ناقلات البضائع السائبة، سفن الحاويات، الناقلات، سفن الركاب. وهي أسرع وسيلة للعبور بين المحيط الأطلسي والمحيط الهندي، وتمثل رسوم العبور بها دخلًا مهمًا للحكومة المصرية، كما عززت من مصر كأحد أهم الركائز الجيوسياسية في الشرق الأوسط”.

قُسم الكتاب إلى أربعة أجزاء: الجزء الأول يتناول التحديات الاستراتيجية والجيوسياسية المتعلقة بالقناة، مع التركيز على التحديات التي تواجه مصر في العقود القادمة، وكذلك كيفية تأثير القناة على كل من شرق البحر المتوسط والبحر الأحمر.

هنا، تتعلق التحديات بقدرة القناة على خدمة السفن الكبيرة التي تواجه مشكلات في المرور من ممر القناة، والتجارة المتنامية حاليا بين الصين وأوروبا بسبب مبادرة الحزام والطريق، وعدم الاستقرار الإقليمي الذي يمنع بناء بدائل لقناة السويس، واستثمار الصين في منطقة القناة، ما يوحي بأنها قد تصبح مركزًا تجاريًا رئيسيًا.

وتشمل التهديدات تعرض القناة لمخاطر الإرهاب، وأيضًا فتح مسار الشمال من القطب الشمالي.

كما يستعرض الكتاب دراسة لإيهود جونين حول القناة في سياق مبادرة الحزام والطريق الصينية، وجهود الصين لتعزيز استثمارتها في الشرق الأوسط، وكيف تستخدم القناة في هذا الإطار.

في حين ناقش يهودا بلانجا العلاقة بين قناة السويس وحرب فيتنام، وركز على التوتر بين الحاجة الاستراتيجية لفتح قناة السويس في أعقاب حرب 1967 والحاجة لإبقاء القناة مغلقة لتأخير الإمدادات السوفيتية العسكرية واللوجستية لفيتنام في حربها ضد الولايات المتحدة. وبالتالي ساهم إغلاق القناة في دعم الولايات المتحدة في حربها بفيتنام، التي كان الهدوء النسبي في أحداثها عام 1971 واتجاه الولايات المتحدة للانسحاب من الحرب عبر المفاوضات، سببًا في التعاطي مع مبادرة السادات للسلام في انتهاء الحرب مع إسرائيل في 1975 وجاء مواكبًا لإعادة افتتاح القناة في 1975.

يستكشف الجزء الثاني من الكتاب الطاقة وعلاقتها بقناة السويس، حيث يناقش كريستوفر ديتريش التفكير الاستراتيجي للولايات المتحدة بشأن النفط والسياسة الدولية وقناة السويس، خلال النصف الأول من الحرب الباردة، وحتى أزمات النفط في السبعينيات.

ويجادل بأن النفط أثر على سياسة الولايات المتحدة خلال الحروب العربية الإسرائيلية 1956، 1967، 1973. ويحلل ديتريش استراتيجية الولايات المتحدة وتصوراتها خلال الحرب الباردة فيما يتعلق بأهمية قناة السويس باعتبارها شريانًا اقتصاديًا رئيسيًا، خاصة مع مرور النفط عبرها.

ناقش الكتاب عبر طرح يوسي مان التأثير الاقتصادي لقناة السويس على الاقتصاد العالمي، وتحديدًا على سوق النفط، وكيف تؤثر الصراعات الإقليمية وعدم الاستقرار على موقع القناة كطريق رئيسي للنفط.

وكان للجوانب القانونية حضورها في الكتاب، إذ قدم بنيامين سبانييه الخصائص المختلفة التي تفرق قانونيًا بين المضيق والقناة كما هي في الاتفاقيات البحرية التي تحدد قواعد الحق في الملاحة عبر قناة أو مضيق.

لكننا نستطيع أن نتوقف كثيرًا وننقد ونحلل ما قدمه الباحث أرنون صوفر حول تأثير القناة على الجغرافيا والاقتصاد المصري منذ افتتاحها عام 1869، مثل زراعة الأراضي القريبة من قناة السويس، والتأثير السلبي على البيئة في البحر المتوسط، والنمو السكاني، وأنشطتهم في منطقة القناة.

الكتاب بهذا لا يجعل ممر القناة فقط هو محوره بل الفضاء الذي توثر فيه القناة وتتأثر به، وبهذا فهو يعد من أفضل الكتب التي صدرت في السنوات الأخيرة حول القناة.

إذا نحن أمام عدة دراسات في كتاب له أهداف، أبرزها تأطير وضع القناة على الصعيد الدولي. وبالتالي فهم أبعادها ودورها. وقد خلصت الأبحاث إلى عدد من النتائج، جاءت على النحو التالي:

كانت قناة السويس كطريق للتجارة الدولية مرتبطة بسياسات القوى العظمي في العالم.

ويرى الباحثون أن هذا الارتباط سيظل قائمًا في المستقبل. بينما يحدد هذا استخدام هذه القوى للقناة في حركة سفنها التجارية والحربية، ويرون أن القناة ارتبطت بهم أكثر من ارتباطها بأي قوى إقليمية في المنطقة.

زاد حجم السلع التي تمر عبر القناة بشكل كبير على مر السنين، وأصبح ممر القناة أكثر من مرة غير قابل لمرور السفن الضخمة التي لم تكن تستطيع المرور فيها بسبب ضيق المجرى وضحالته. غير أن مصر جددت المجرى عام 1975، وفي عام 2015 من خلال مضاعفة القناة في الجزء الشمالي منها، للسماح بمزيد من حركة مرور السفن.

يشير هذا إلى أن القناة لديها القدرة على الاستمرار في خدمة حركة الشحن الدولي واستيعاب احتياجاتها المتزايدة.

يرى الباحثون المشاركون في الكتاب أن مستقبل قناة السويس، ليس فقط في يد القوى العظمى أو الإقليمية، لكنه الآن في يد التغير المناخي (الاحتباس الحراري)، فالمنافسة القادمة الشرسة للقناة ستأتي عبر افتتاح الممر الشمالي بسبب ذوبان جليد القطب الشمالي، ما سيسمح بمرور السفن عبره. لكن تجمده في فصل الشتاء سيعطي القناة ميزة نسبية خلال هذا الفصل، وإن كانت فكرة عمل ممر الشمال في حد ذاتها ستؤثر سلبًا على إيرادات القناة ودورها.

أيضًا، تظهر تحديات أخرى للقناة بسبب مبادرة الحزام والطريق الصينية، أو بدرجة أقل عبر نقل البضائع بالطريق البري من إسرائيل. هذا ما يجعل هناك تحديات للقناة تتطلب سرعة الاستجابة لها.

من هنا، فالأبحاث والمناقشات التي دارت حول القناة ذهبت في هذا الكتاب إلى التفاعل مع الوضع الراهن للقناة، مع طرح تصورات عديدة حولها. هذا ما يجعل طرح هذا الكتاب متعلقًا باستراتيجيات القناة واقتصادياتها على النحو التالي:

منطلق الكتاب هو التفكير الاسرائيلي في قناة السويس بوصف مصر والقناة في الجوار الجغرافي الجنوبي. وبالتالي لها أهمية كبرى في أطروحات الكتاب، وهو يحمل عدة تساؤلات حاول الإجابة عليها.

وهذه التساؤلات جاءت على النحو التالي:

في ظل أية ظروف تختار القوى العظمى التدخل في النزاعات الإقليمية من أجل تشكيل مسارها، وحتى نتائجها؟ هل يمكن تكييف الدروس المستفادة من قناة السويس لحالات مماثلة؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فهل يمكننا القيام بذلك بشكل واضح سواء بصورة كلية أو جزئية؟ ليطرح تساؤلًا حول ديناميكيات تفاعل القوى العظمي مع الشرق الأوسط، والتي ترتبط بطبيعة المنطقة.

هذا يعني أن الإسرائليين يحاولون رسم سيناريوهات مستقبلية حول المنطقة. وهو ما يجب أخذه في الحسبان، في الوقت الذي أجهضت فيه في مصر كل محاولات توطين الدراسات المستقبلية في مصر، مثل تجربة مكتبة الاسكندرية التي جرى إجهاضها عام 2019، وتجربة مركز معلومات مجلس الوزراء التي أجهضت في عام 2018.

يمثل التشغيل السلس لقناة السويس أحد المحاور الهامة في الكتاب، فاستقرار منطقة القناة والاستقرار في مصر حيويان لحركة التجارة الدولية. وتربط أبحاث الكتاب هذا أيضًا بالتحالفات الإقليمية لمصر وقدرتها على ضمان استمرارية هذه التحالفات، فضلًا عن استقرار الجوار الجغرافي لمصر واستمرارية عملية السلام في الشرق الأوسط.

من المهم طرح تساؤلات حول مستوى الدراسات المصرية المنشورة حول مرفق القناة مقارنة بمستوى هذه الدراسة، وليبقى سؤال آخر حول مدى اهتمامنا بإنجاز دراسات مماثلة حول إسرائيل وغيرها من الدول في محيطنا الجغرافي، بما يجعل لنا رؤية وطنية حول واقع مصر مع إقليميها.