في الأوضاع الاقتصادية الماثلة، تحتاج مصر أن تصارح نفسها بالحقائق، وأن تتلمس سُبل التماسك الوطني حتى لا ينهار كل جدار ويدخل البلد في دوامات فوضى تهدم كل رجاء في المستقبل.

ما يحدث الآن على سطح الحوادث يشبه دوار سياسي وفكري يأخذ البلد إلى المجهول، ما هو جوهري يتراجع وما هو هامشي يقتحم المشهد المأزوم.

المساجلات المفتوحة على شبكة التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزيون، بكل العصبية المفرطة فيها، بدت تعبيرا عن بلد ضائع لا يعرف له أملا في مستقبل يتمسك به، ولا مرفأ تستقر عنده سفينته بعيدا عن أية عواصف وأمواج تتهددها بالغرق.

لا كانت أدوار واجتهادات الشيخ “محمد متولي الشعراوي”، أيا ما كانت حدة المواقف حولها، مسألة حياة أو موت تستدعي حسمها الآن بتجييش الرأي العام، ولا كانت القيمة الأدبية للكاتب الراحل “أحمد خالد توفيق” تتطلب حسما مماثلا، كأن التاريخ يقف على أبواب مصر منتظرا ما يتوصل إليه المتصارعون بالألفاظ المتفلتة من أحكام ونتائج!

سواء كانت مقصودة أو غير مقصودة، فإن الاستغراق في تجاذبات من هذا النوع خروج عن النص، نص المسؤولية المفترضة في أوقات حرجة.. ونص المستقبل الذي يكاد يداهمنا بأخطاره.

الأفدح غياب أي نص سياسي واقتصادي وإعلامي مقنع ومتماسك خارج إرشادات صندوق النقد الدولي، كأنه بات وصيا على مصيرنا.

غياب التنبه الكافي لمدى خطورة ما نحن مقبلون عليه كارثة بذاتها.

حسب ما يرشح عن تقارير الصندوق- انخفاض جديد في قيمة الجنيه المصري ورفع متوقع لأسعار الوقود وموجة تضخم عاتية.

المصارحة بالحقائق أفضل مدخل ممكن لمواجهة الأزمة.

الاعتراف بها بلا مواربة وتحمل مسؤوليتها بلا تهرب.

إذا لم يكن هناك مثل هذا الاستعداد فلا أمل بإصلاح أوجه الخلل في السياسات والأولويات وتخفيف وطأة المعاناة الاقتصادية.

لسنا في حاجة إلى انتحال أية أعذار تسحب من رصيد الثقة العامة في القدرة على إدارة الأزمة بأقل قدر ممكن من الأخطار.

عندما أخذت الأزمة الاقتصادية تلوح في الأفق لم يكن هناك استعداد في دوائر السلطة، أو شبه استعداد، للاعتراف بها.

تحت ضغط ارتفاعات الأسعار بصورة غير مسبوقة والضجر الاجتماعي من عدم القدرة على تلبية أبسط احتياجات المعيشة وتصدع قيمة الجنيه المصري بصورة غير مسبوقة جرى نوع من الاعتراف بالأزمة.

نصف اعتراف في حقيقة الأمر، اعتراف بوجودها وتغييب لأسبابها.

الاعتراف بالأزمة يعني تحمل مسؤوليتها ومراجعة السياسات والأولويات والرجال وفتح المجال العام لمشاركة الخبراء والمختصين من كافة التوجهات الوطنية في صنع رؤية واضحة للخروج من الأزمة المتفاقمة.

نفي المشاركة احتكار للحقيقة ونفي فرص الخروج الآمن من الأزمة.

“يا جماعة اسمعوا منا.. إننا ندرك حجم التحدي أكثر من غيرنا”.

هذه الكلمات، التي أطلقها الرئيس، تتطلب وقفة تفكير وتأمل، نقاش واختلاف.

موضوعيا فإنها تنطوي على فكرتين متضادتين.

الأولى، يصعب إنكارها، فهو بحكم موقعه على رأس الجهاز التنفيذي يعرف بالضرورة أكثر من غيره تفاصيل الأزمة.. والاستماع إليه بالاتفاق أو الاختلاف مسألة لا نقاش فيها.

والثانية، يصعب قبولها، إذ قد يفهم منها احتكار الحقيقة والاستخفاف بأية اجتهادات أخرى وإغلاق أبواب الحوار الجدي في الأزمة وطرق حلحلتها.

إذا صح هذا الاستنتاج فإنه خروج فادح عن أي نص يفترض أن يساعد البلد على مواجهة الموقف الحرج.

عندما يقال إن الدولة وحدها على دراية بتعقيدات الأزمة، “عندها المعلومات والبيانات والحلول”، وأن أي كلام آخر لا جدوى له، فالمعنى أنه لا قيمة لأي اجتهاد، فهو “قد يؤدي إلى بلبلة المجتمع”.

المعنى سحب أي شرعية وطنية أو أخلاقية عن كل من ينتدب نفسه للمساهمة في مساعدة بلاده على تجاوز أزمتها الخانقة.

المجتمع فعلا قلق وخائف، الرئيس نفسه أقر هذه الحقيقة.

لا تساعد المصادرة من عند المنبع لأي اجتهاد على بث أية طمأنينة في الشارع القلق والخائف.

احتكار الحقيقة يفضي إلى البلبلة وشيوع اليأس العام.

إذا لم يكن هناك استعدادا للاستماع إلى أية أصوات مختلفة، تجتهد بقدر خبراتها المتراكمة في سبل إصلاح أوجه الخلل، فالخشية أن تتمدد الأزمة وتندفع بتداعياتها إلى المجهول، فوضى ضاربة في البلد ليست من مصلحة أحد.

غياب المشاركة عمل سلبي لا يساعد على استدعاء أفضل ما لدى المصريين من خبرات اقتصادية وسياسية لتخفيف وطأة الأزمة وبث الثقة العامة أن البلد موحدة وقادرة على رد التحدي.

أخطر الأسئلة: لماذا وكيف تفاقمت الأزمة إلى حافة شبح الإفلاس؟!

عندما تدير الدول أزمات حرجة، كالتي تمر بها مصر الآن، فإنها تبحث في أسبابها والأخطاء التي ارتكبت، تراهن على تماسك شعبها، لا أن تتعلق بآمال على تدخل “الرعاية الإلهية”.

إذا ما أخفقت هذه الآمال فليس معناها أن الله تركنا، للنجاح والفشل أسبابا موضوعية.

المعنى- في هذه الحالة- إننا قد فشلنا، أو لم نأخذ بأسباب النجاح.

ليس مطلوبا من المواطنين العاديين الذين يضجرون من غلاء الأسعار واختفاء السلع الرئيسية وغياب الرقابة على الأسواق أن يكون كلامهم مرتبا وعباراتهم منضبطة.

الغضب المعلن بذاته رسالة لا ينبغي الاستخفاف بها.

هم أدرى من غيرهم بقسوة انفلات الأسعار وانخفاض قيمة الجنيه المصري.

أقصر الطرق للإقناع الاعتراف بالمسؤولية عن الأزمة.

“هل نحن دخلنا في أي حروب أو مغامرات ضيعنا فيها أموال مصر؟!”.

كان ذلك سؤالا طبيعيا لتبرئة الذمة السياسية من أية تصرفات عسكرية فاقمت الأزمة الاقتصادية، لكنه يطرح في نفس الوقت سؤالا آخر: كيف تفاقمت المديونيات الخارجية حتى وصلت إلى نحو (160) مليار دولار وانهارت قيمة الجنيه المصري بصورة غير مسبوقة في زمن قياسي؟

كانت الحرب الأوكرانية أحد الأسباب الجوهرية التي يعزى إليها تفاقم الأزمة الاقتصادية، هذا مما لا شك فيه، لكنها لا تصلح وحدها لتفسير ما جرى.

هشاشة البنية الاقتصادية وخلل الأولويات صلب الأزمة التي فاقمتها الحرب الأوكرانية.

هذه حقيقة لا بد من مواجهتها.

هناك دول أخرى في العالم الثالث تعرضت لنفس التأثيرات الاقتصادية السلبية للحرب دون أن يتهاوى اقتصادها.

في جميع السيناريوهات والاحتمالات والذرائع فإننا نتحمل مسؤولية ما جرى من تدهور.

يستلفت الانتباه في الأزمة الراهنة أن دول الخليج، التي هبت لمساعدة مصر عقب إطاحة جماعة “الإخوان المسلمين” من السلطة امتنعت عن أية مساعدة مماثلة، أو شبه مماثلة، بدعوى أن أموالا كثيرة قد أهدرت فيما لا جدوى منه.

ثم أخذت تستثمر في الأزمة الخانقة بشراء الأصول المصرية وإملاء مصالحها على القرار السياسي.

على خلفية بيع بعض الأصول هناك الآن أزمة شبه مكتومة مع السعودية امتدت إلى ملفات وقضايا إقليمية تتباين فيها المواقف.

حسب معلومات أولية، تسعى الكويت لاستيضاح حدود الأزمة بين البلدين، وإذا ما كان ممكنا حلحلتها دون أن تستبين مواقف الدول الخليجية الأخرى.

باليقين هناك خيبة أمل في الرأي العام من السلوك الذي تتبعه بعض الدول الخليجية في استثمار الأزمة بغض النظر عن معاناة المصريين.

لسنا في حاجة إلى أية ذرائع إضافية لتفسير الأزمة الاقتصادية.

الأزمة ضاغطة وتحتاج إلى مقاربات أخرى في إدارتها تفسح المجال أمام البلد أن يناقش أسباب الأزمة ومسؤوليتها ويقرر مصيرها بنفسه بتصحيح المسارات والأولويات المختلة بعيدا عن وصاية صندوق النقد الدولي.