لم تكن الإشارات الأخيرة من جانب إيران -التي أبدت رغبتها في إعادة العلاقات مع مصر- الأولى، لكنها الأهم، نظرًا لمستواها. بعدما أعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني مطلع يناير/ كانون الثاني الجاري، عن حوار عابر بين وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، والرئيس عبد الفتاح السيسي، على هامش قمة “بغداد 2” في الأردن نهاية الشهر الماضي، قائلًا إنه “كان حوارًا إيجابيًا عبر عن رغبة الجانبين في الحوار”.

كان البلدان قطعا العلاقات الدبلوماسية بينهما عام 1980، أي بعد عام واحد من الإطاحة بالشاه الأخير محمد رضا بهلوي، الذي فر إلى مصر، وحصل فيها على حق اللجوء. واستؤنفت العلاقات بعد 11 عامًا، لكن على مستوى القائم بالأعمال ومكاتب المصالح.

لم يقتصر حديث الناطق الرسمي باسم الخارجية الإيرانية الأخير على الإشارة إلى الحوار الذي جرى بين السيسي وعبد اللهيان. فقد أضاف أن “العلاقات الثنائية مستمرة بين البلدين من خلال رعاية المصالح وليس هناك مشكلة بين البلدين لاستمرار الحوار”. وأشار إلى ترحيب رئيس الوزراء العراقي، شياع السوداني، بالتوسط لعقد لقاءات بين إيران ومصر. بينما أكد في الوقت ذاته على ترحيب بلاده بـ”أية مبادرات أو تحرك إيجابي يؤدي لأجواء إيجابية مع دول المنطقة لا سيما مصر”.

اقرأ أيضًا: العلاقات المصرية الإيرانية.. متى تتجاوز القاهرة ميراث مبارك؟

امتلأ حديث كنعاني بالإشارات، التي كان من بينها الحديث عن إجراء مفاوضات قنصلية بين البلدين، حيث تم الاتفاق على استمرارها لحل القضايا العالقة بين الطرفين.

المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني
المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني

إشارات للتقارب بين البلدين، لطالما تكررت، لكنها كانت دائمًا بحاجة إلى فضاء ومعززات تساعد على دفعها للاكتمال. لعل أهمها  هذه المرة -رغم فشلها طيلة 4 عقود- أنها  تأتي في ظل حكومة تابعة للمحافظين برئاسة إبراهيم رئيسي. وأن قرار القطيعة جاء بأمر المرشد الأول، الخميني. وبعد ذلك، لم تأت محاولات التقارب إلا من جانب حكومات الإصلاحيين.

وربما يدفع هذه العلاقات إلى التطور أيضًا ما تشهده إيران من أزمة وحصار وعزلة في الوقت الحالي. وهي تقود الجانب الإيراني إلى إبداء مزيد من الرغبة والحرص على عودة العلاقات مع القاهرة، بعدما باتت الحكومة الإيرانية أكثر “براجماتية” و”واقعية” في التعامل مع قضايا الإقليم، سعيًا لتجاوز الوضع الحرج الراهن داخليًا وإقليميًا.

دخول العامل الإسرائيلي

إن دخول العامل “الإسرائيلي” في المعادلة الجيو سياسة-والأمنية يمثل ضغطًا على القاهرة بشأن مستوى علاقتها مع طهران. لكنه أيضًا على الجانب الإيراني مثل حافزًا إيرانيًا للسعي إلى اقترابٍ موازٍ من محيط إسرائيل، التي دخلت إلى منطقة الخليج عبر “الإتفاق الإبراهيمي”، وتحاصر إيران في العراق عبر إقليم كردستان، فضلاً، عن التحالف الثلاثي بين إسرائيل وتركيا وأذربيجان لأهداف مشتركة محورها تحييد إيران أمنيًا واقتصاديًا، وكان الدعم الذي قدمته إسرائيل لأذربيجان في حرب ناجورنو كراباخ نتاج لهذه التحالف.

أبعاد اقتصادية للجانبين

قد تعزز الملفات الاقتصادية عودة العلاقات بين كل من القاهرة وطهران، في ظل الحصار الذي تعانيه إيران من جهة، والأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تواجهها مصر من جهة أخرى. وذلك بخلاف ما تمثله تلك الخطوة من فرصة لتحقيق توازن أمام قوى منافسة مثل تركيا وإسرائيل. خاصة وأن مصر تواجه تحديات مستقبلية كثيرة، منها أمنها المائي فيما تمثله قضية سد النهضة من مخاطر، وأمن ممراتها التجارية والمائية نحو قناة السويس.

ولا شك أن التوقف عند الحدود الإيرانية بسبب القطيعة الدبلوماسية، يمنع مصر من عبور تجارتها بسهولة إلى منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، ويجعلها في حاجة دائمًا، إما لروسيا أوتركيا للعبور. وهو ما يتعارض مع الطموحات المصرية التي تسعى لفتح آفاق علاقاتها مع كل المناطق الصاعدة ذات الأهمية، والتي منها إيران وما خلفها.

اقرأ أيضًا: مصر وإيران: سياقات إقليمية متغيرة تدفع بتقاطع المسارات

هذه المعززات الاقتصادية، أشار إليها رئيس مكتب رعاية المصالح الإيرانية بمصر، محمد حسين سلطاني، في وقت سابق. حين أكد على أن التطورات الراهنة تقتضي من البلدين رفع العلاقات الثنائية من مستوى رعاية المصالح للمستوى السياسي المنشود.

رئيس مكتب رعاية المصالح الإيرانية بمصر محمد حسين سلطاني
رئيس مكتب رعاية المصالح الإيرانية بمصر محمد حسين سلطاني

وفي وقت سابق، نقلت وكالة الأنباء الإيرانية “إرنا”، عن الدبلوماسي الإيراني قوله إن “الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وبعد المشاورات والرسائل المتبادلة، مستعدة لدخول أسواق مصر عبر إنشاء مصنع لإنتاج السيارات المحلية وعقد استثمارات مشتركة. بما في ذلك إعادة تشغيل البنك المصري الإيراني المشترك. وأيضًا، تأسيس شركات مشتركة في مجالات النسيج والملاحة البحرية وتجارة السجاد. ذلك إضافة إلى ما تخطط له شركات الطيران الإيرانية من تسيير رحلات عبر سماء مصر إلى عدد من الدول الإفريقية.

هي إذًا مغازلة اقتصادية إيرانية تأتي في وقت تتحرك فيه القاهرة شرقًا وغربًا من أجل جذب الاستثمارات الأجنبية، بهدف تحريك الاقتصادي المتأثر بحالة الركود العالمية جراء الحرب الروسية الأوكرانية.

سياحة الأضرحة للتقارب

من بين الرسائل والأبعاد الاقتصادية التي قد تقود إلى تحريك مياه العلاقات المصرية الإيرانية الراكدة ما يتعلق بالسياحة الدينية التي قد تكون محل اهتمام قطاعات واسعة من الإيرانيين.

وتزخر مصر بالكثير من أضرحة آل البيت، في الوقت الذي بدأت فيه مشروعًا متكاملًا لتطوير الأضرحة، وإنشاء مسار للزيارة من خلال مقترح لتنفيذ رحلات يومية، تبدأ من مسجد السيدة نفيسة، وتنطلق في شارع الأشراف الذي يطلق عليه البعض بقيع مصر أو مجمع الأولياء، لكثرة ما يضم من أضرحة ومقامات لآل بيت النبي وأولياء الله الصالحين، مرورًا بباقي الأضرحة الكبرى التي يجرى العمل على تطويرها، بهدف دعم خطط جذب السياحة الدينية.

القاهرة كحلقة وازنة

يرى السفير الإيراني الأسبق في ليبيا، جعفر قناد باشي، أن مصر تمثّل ركيزة أساسية في العالم الإسلامي. وقد أكد في تصريحات سابقة جاءت عقب محاولة الوساطة التي قادها رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي منتصف العام الماضي، أن إيران ومصر تتمتعان بموقع استراتيجي مهم في المنطقة، وأن تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية بينهما كفيل بقطع الطريق على الأطراف التي تراهن على وضع القاهرة في المعسكر المعادي لإيران.

السفير الإيراني الأسبق في ليبيا جعفر قناد باشي
السفير الإيراني الأسبق في ليبيا جعفر قناد باشي

حينها، وصف قناد باشي القاهرة بأنها “حلقة وازنة” بين كبرى الدول الإسلامية، نظرا إلى موقعها الجغرافي والسياسي. وأوضح أنه فضلًا عن نفوذ مصر في الاتحاد الإفريقي ومنظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية، فإنها تتمتع بمواني عدة على البحرين الأحمر والمتوسط، والتقارب معها ينعكس إيجابيًا على حركة عبور السفن الإيرانية من قناة السويس.

محددات عودة العلاقات

رغم تعدد محفزات ومعززات تطوير العلاقات بين مصر وإيران، إلا أن هناك محددات رئيسية من شأنها اختبار الإشارات الإيرانية المتعلقة بعودة العلاقات مع مصر.

وترهن مصر اتخاذ خطوات عملية نحو تطوير العلاقات مع إيران، بتغيير الأخيرة سلوكها وسياساتها تجاه الخليج. حيث أعلنت مصر التزامًا بأمن الخليج باعتباره جزءًا لا يتجزأ من الأمن المصري. ذلك بعدما حددت القاهرة بعض الثوابت في العلاقات مع إيران. وهي تلك القائمة على منع التدخل في الشؤون الداخلية للدول مثل العراق وسوريا ودول الخليج واليمن. مع التوقف عن تشجيع المد الشيعي، وتصدير الثورة الإيرانية.

وفي ظل إدراك إيران لارتباط الموقفين المصري والخليجي، شرعت في محادثات مع السعودية برعاية عراقية. وهي تدرك أن هذه المحادثات مفتاح علاقاتها مع باقي الدول العربية، وفي مقدمتها مصر.

صواريخ إيران ومسيراتها

جانب آخر من المخاوف التي لا تخفيها مصر، وربما تمثل إحدى عقبات عودة العلاقات بين القاهرة وطهران، يتمثل في مشاريع إيران العسكرية، سواء الخاصة بتطوير منظومة الصواريخ البالستية والمسيرات، أو السلاح النووي. وهو أمر يربك معادلة استقرار الإقليم بالكامل. خاصة في ظل تأثير التهديدات من جانب طهران أو الأذرع التابعة لها بشكل سلبي على منطقة البحر الأحمر، التي تمثل أهمية قصوى للقاهرة، كونها أحد أهم ممرات التجارة  العالمية، وترتبط بشكل وثيق بحركة المرور عبر الطريق الملاحي المار بقناة السويس.