ذاكرة الإنترنت قصيرة؛ قبل عام بالتمام، ربما حتى أقل قليلا، اندلع نقاش مماثل تماما للنقاش الذي دار في الأيام الأخيرة حول قرار دار نشر “هن” إصدار نسخة مترجمة إلى العامية المصرية، من رواية إرنست همنجواي الأشهر “الشيخ والبحر” أو العجوز والبحر” (ترجمة مجدي عبد الهادي).

اقرأ أيضا.. في ضرورة الشعراوي على المسرح

لنتخذ أولا وقفة قصيرة أمام كلمتي “الشيخ” و”العجوز”، لقد جرى استخدام كلتا الكلمتين في التسمية العربية للرواية (والأفلام المأخوذة عنها) تقريبا على قدم المساواة، رغم أن اللغة العربية، إن شئنا التكلم عن أصولها، تقصر استخدام كلمة “عجوز” على المرأة المسنة، أما الرجل المسن فهو “الشيخ”، وفي القرآن تقول السيدة سارة زوجة النبي إبراهيم حين بشرت بإسحاق “قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخًا) [سورة هود: 72]”. ومن هنا فإن استخدام كلمة “عجوز” لوصف الرجل هو مما يمكن وصفه بالاستخدام العامي، ابن اللهجات المحلية كما نقول في مصر “راجل عجوز”، ونؤنث الكلمة حين نقصد النساء “ست عجوزة”، خصوصا وأن كلمة “شيخ” قد اكتسبت دلالتها مع الزمن معنى دينيا، فحين نقول “هذا شيخ” فإنه يُفهم من كلامنا عادة أننا نقصد رجل دين. والقصد إذن أن تغير وانتقال الدلالات لا يزيح المعاني داخل الفصحى وحدها أو العامية وحدها، بل قد يسبب الانزياح حتى بين اللغتين (إذا اعتبرنا العامية لغة).

كنا نقول إذن، إنه قبل عام من الآن، حين أقدم الناشر نفسه على طباعة نسخة مترجمة إلى العامية من رواية ألبير كامو الأشهر “الغريب”، من ترجمة هكتور فهمي، اندلع النقاش نفسه، والاحتجاجات – وحتى الاتهامات –  نفسها، وفي حوار مع موقع مصراوي، أجرته الصحفية المتميزة رنا الجميعي، أجاب هكتور فهمي على كثير من الأسئلة التي تطرح الآن كأن أحدا لم يجب عليها من قبل، في الحوار الذي أجرى في فبراير 2022، يقول هكتور: أرى أن اللغة المصرية مُختلفة عن اللغة العربية، فالمصرية لها قواعد وتراكيب مختلفة عن اللغة العربية، مثلًا الجُملة في اللغة المصرية تبدأ بالاسم وليس الفعل، وتلك القواعد تُدرّس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، كذلك يُدرّسها أساتذة في الخارج لتعليم الأجانب اللغة المصرية “. ويتابع هكتور قائلا: “أودّ أن أوضح أيضًا أن للغة المصرية مستويات؛ هناك المستوى الفصيح منها، وهو ما يتحدث به الأكاديميون والمسئولون، والعامي وهي لغة الناس في الشارع، فمثلًا يُمكن أن أقول تلك الجملة بثلاث مستويات، “من فضلك اديني القلم دي تركيبة جملة فصيحة، وما تجيب القلم ده يا أسطى دي تركيبة جملة عامية”. ويشرح هكتور أن ترجمته إلى “المصرية” لا تستبعد المرجعية العربية:  “دائمًا ما أستعين بجانب الرواية بلغتها الأصلية، بترجمتين إلى اللغة الإنجليزية “وفي الآخر باستقر على واحدة فيهم”، وبالإضافة إلى ذلك ثلاث ترجمات للغة العربية “وأشوف ازاي المترجمين اشتغلوا عليها وكل مدرسة للترجمة عاملة ازاي”.

أورد هذه الاقتباسات لا لمناقشتها، ولا لتأييدها ولا معارضتها، حتى لو شعرت أنت – عزيزي القارىء- أنني أتعاطف معها (وشعورك ربما يكون صحيحا). ولكني أردت إيراد تلك الاقتباسات لأوضح أن الترجمة التي أقدم عليها هكتور، وآرائه فيها وطموحاته من أجلها، هي عملية ثقافية بحتة، ليست تهديدا، ولا تخريبا، ولا – فيما رأيت – استسهالا. أن تعجب هذه الترجمة أو لا تعجب فهذا أمر آخر، أن تسهّل القراءة أو تصعّبها فهذه مسألة مختلفة، أن يكون قرار الدار بنشرها قرارا حكيما أو خاطئا فهذا شأن يحدده المستقبل، أما غير المفهوم، والذي لوحظ هذه المرة، بدرجة أشد كثيرا مما جرى قبل عام، فهو درجة العنف الهائل الذي استخدمه بعض المثقفين، ومنهم من له قدره واعتباره، ومنهم من له قيمته الكبرى في حياتنا الثقافية، إزاء “فكرة” الترجمة إلى العامية المصرية، إي إزاء المفهوم نفسه (فالطبعة العامية من العجوز والبحر لم تصدر بعد وبالتالي لم تُقرأ بعد)، لقد قرأت على مواقع التواصل هجوما بالغ القسوة، وسخرية جارحة بلا شك، إلى درجة أذهلتني، ودعتني إلى التأكد من الأمر عدة مرات، أحقا كل هذا الهجوم، وكل هذا العنف وهذه السخرية، يحدث ضد قرار بترجمة كتاب إلى لغة أو لهجة معينة، أين الجريمة إني لا أراها؟

هذا ما هو دفعني إلى إبداء اندهاشي هنا، لا مسألة الكتابة بالعامية في حد ذاتها، ولا استدعاء رواية مصطفى مشرفة الشهيرة “قنطرة الذي كفر”، ولا لغة فؤاد حداد وصلاح جاهين والأبنودي، ولا حوارتنا العذبة في تراث السينما المصرية، والمسرح، وبالطبع الأغنية، كل هذه الفنون التي قدمت لغتنا/ لهجتنا العامية في أبهى صورها، وقبلها جميعا تراثنا الشفهي العظيم، أمثالنا الشعبية، ولهجتنا السلسة الموسيقية الجميلة. لا أستدعي كل ذلك رغم أنه يستحق الاستدعاء والنقاش، ولكني فقط أتمنى نقاشا هادئا، لا غضبا غير مفهوم الأسباب.