عندما يحدث حالة من عدم الاستقرار للاقتصاد الكلي في بلد ما، مع زيادة جامحة في مستويات التضخم تتخطى قدرات البنك المركزي على مواجهته، وتنخفض قيمة العملة الوطنية أمام العملات الصعبة، مع صعوبة إيجاد بعض السلع، فإن تلك الأسباب تؤدي في الأغلب لإسراع المواطنين وبعض الوحدات الاقتصادية لاكتناز الدولار، صاحب السيادة الأكبر بين العملات الصعبة، وتظهر زيادة في حجم الودائع الرسمية وغير الرسمية بتلك العملة بدلًا من العملة الوطنية.

اقرأ أيضا.. فخ الديون المتكرر بين الجاني والمجني عليه

هذه الحالة تسمى ” الدولرة” لأنها في الأغلب ترتبط باكتناز الدولار الأمريكي تحديدًا، والتعامل معه باعتباره مخزن وملاذ آمن لحفظ القيمة وشراء السلع، وذلك كنتيجة لانهيار قيمة العملة المحلية وانخفاض مستويات ثقة المواطنين بها.

عملية الدولرة قد تكون رسمية أو كاملة، أي القيام بعملية الاستبدال الكامل للعملة المحلية بالعملة الأجنبية حتى تصبح العملة الرسمية القانونية داخل البلاد، وتنتهي وظيفة العملة الوطنية نهائيًا، وهو تمامًا ما انتهجته كولومبيا في مطلع الألفينات، ولحقت بها غواتيمالا والسلفادور في عام 2001.

وقد تكون عملية الدولرة غير رسمية أو جزئية، أو ما يسمى بدولرة الأمر الواقع، وهي استخدام الأفراد والوحدات الاقتصادية للعملة الأجنبية بشكل واسع في التعاملات، مع بقاء العملة الوطنية كأداة قانونية وحيدة لتبادل النقود والقيام بوظيفتها، وهي الحالة التي ظهرت في معظم دول أمريكا اللاتينية مثل الأرجنتين والبيرو والمكسيك، فضلًا عن دول أخرى قريبة منا كما حدث في لبنان.

في الحالتين إذًا التضخم الجامح الذي يعيد إنتاج نفسه بشكل مستدام يمثل حافزا قويا للتحول لتلك الدولرة الرسمية أو غير الرسمية، وبالتالي فإن مواجهة الدولرة تتطلب دومًا سياسات استباقية فعالة من الحكومات والبنوك المركزية، لمنع انهيار العملة الوطنية وكبح جماح التضخم التي تقود إلى الدولرة، عبر الأدوات المختلفة للسياستين النقدية والمالية.

في الحالة الأكثر وضوحًا وهي حالة الإكوادور في مطلع الألفينيات قررت الدولة التخلي عن عملتها الوطنية بشكل نهائي والتحول الكامل نحو الدولار، نتيجة صدمات اقتصادية عديدة لبلد كانت تحقق صادرات نفطية كبيرة في السبعينيات، لكن صدمات رفع أسعار الفائدة في أمريكا، ولجوء الإكوادور كغيرها لسياسات الاقتراض الشره غير المنضبط، تسبب في ضغوط كبيرة على ميزان مدفوعاتها، وأدى لانهيار العملة الوطنية أمام الدولار، من 25 سوكر للدولار في عام 1970 إلى 18 ألف سوكر للدولار في عام 1999م.

بناءًا على تلك الضغوطات المستمرة قرر الرئيس جميل معوض البدأ في خطة الدولرة، وبرغم الإطاحة به بعد أسبوعين فقط من ذلك القرار بفعل المظاهرات وأعمال الشغب وتدخل الجيش، إلا أن خلفه لم يغير القرار بل استمر فيه ولكن دون خطة مدروسة، ودون الاستماع لوجهات نظر الخبراء والفنيين، فكانت النتيجة أن خطة الدولرة تمت سريعًا، ونجت في بداية الأمر في امتصاص معدلات التضخم نتيجة تعميم التعامل بالدولار، وساهم في التحسن أيضًا الارتفاع الذي صاحب صادرات البترول الإكوادورية، لكن سرعان ما تعرض الاقتصاد الإكوادوري في 2008 لتبعات الأزمة المالية العالمية والتي جعلت أكثر من 70% من مواطنيه تحت خط الفقر، دون أي أمل في إنقاذ الوضع، فالدولة تفقد تحكمها في التأثير في الأسواق لأنها لا تتحكم في عملية طبع العملة ولايوجد دور حقيقي للبنك المركزي، وبالتالي باتت الإكوادور أكثر تأثرًا من ذي قبل بأي تقلبات في أسعار الفائدة أو قرارات الفيدرالي الأمريكي.

ولأن نموذج الإكوادور وبنما وفنزويلا من الدولرة الرسمية هو أمر غير مسبوق، وتجربة يصعب معها العودة لإصدار عملة وطنية يثق بها المواطنين بعدما تم التخلص منها في عهد سابق، فإن هذا النموذج الخطير لم يتكرر بحذافيره، لكن أشكال الدولرة الجزئية باتت سمة واضحة في العديد من الدول النامية ذات الاقتصادات الضعيفة، والتي بمرور الوقت دون إيجاد حلول جذرية لمشاكل الاقتصاد الكلي واستمرار هدر الموارد وضعف الإنتاج والتصدير والاعتماد على الأموال الساخنة، تندفع نحو مزيد من اتساع عمليات الدولرة غير الرسمية للتحوط أمام مخاطر التضخم، وتفقد الدول شيئًا فشيئًا أحد أهم رموز سيادتها وهي عملتها الوطنية.

بالحديث قليلًا عن مصر فلا يمكن أن نخمن حجم الدولرة في المجتمع المصري، فهناك غياب للبيانات الرسمية، لكن بحكم متابعة الأمر الواقع فالحكومة والبنك المركزي يلجآن لعدة خطوات تساهم في الحد من اتساع نطاق الدولرة، بدءًا من الملاحقات الأمنية لمعاقبة متداولي العملات في السوق الموازية لمخالفتهم قانون البنك المركزي، وإجراءات أخرى تحد من تسرب الدولار داخل البنوك مثل تقييد حدود السحب الدولاري من البطاقات الائتمانية، وتشجيع المواطنين على الإيداع الدولاري مقابل فائدة بالجنيه المصري، ومبادرات استيراد السيارات وغيرها من محاولات الحصول على الدولار ومنع تداوله بين المواطنين، والتي توجت أخيرًا بقرار طرح شهادات ادخارية لمدة عام بنسبة 25% لتشجيع المواطنين على الهروب من الدولرة واللجوء للودائع ذات النسب المرتفعة لحفظ قيمة أموالهم، بالإضافة لتحريك سعر الصرف.

لايزال هناك وقت كبير للحكم على نجاح تلك الإجراءات من حيث فاعليتها، خاصة مع تذمر العديد من الفئات جراء القيود العديدة التي يتم تطبيقها مؤخرًا، لاسيما في أوساط الطلاب المصريين بالخارج أو المسافرين للعلاج أو أصحاب الأعمال الباحثين عن الدولار بشدة في السوق الموازي، لكن يظل الأمر الأهم هو حجم الرهان على حدوث انفراجة تساهم في تخفيف حجم الضغط على الدولار وتهدئة ارتفاع سعره في السوق الموازي الذي يخضع للتسعير العشوائي، وإتاحة الدولار لمن يحتاجه في عمليات الاستيراد أو أغراض السفر المشروعة.

صحيح أن الاقتصاد المصري لايزال في مرحلة بعيدة عن مصير فنزويلا أو غيرها، فبرغم انخفاض قيمة العملة بأكثر من 70% في أقل من عام، إلا أنه لاتزال هناك إمكانيات للإصلاح والعلاج على المدى المتوسط والطويل، لكن ذلك يستلزم الكثير من سياسات الإصلاح الهيكلي، عبر جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تعطي قيمة اقتصادية حقيقية، يرتبط معها ضبط وترشيد الإنفاق الدولاري على المستوى الحكومي والبحث عن آليات وحوافز لزيادة الإنتاج الصناعي والزراعي وتصدير السلع والمنتجات، وجذب أعداد أكبر من السياح بما يساهم في تحسين الميزان التجاري وتخفيف آثار الأزمة الاقتصادية الحالية. والدرس الذي يجب على الحكومة التفاعل معه هو كيفية عدم الوصول لاتساع الدولرة وفقدان الثقة في العملة الوطنية، فضلًا عن إيجاد أوعية ادخارية واستثمارية تعطي الأمل للمواطنين في حفظ أموالهم بطريقة سليمة، سواءًا بتنمية سوق الأوراق المالية وأدوات الاستثمار المختلفة، وضبط الأسواق المنفلتة بما قد يعطي بصيص أمل للمواطنين، ويمنع من تدهور الأوضاع بشكل يصعب علاجه.