تدخل مصر العام 2023 مثقلة بأزمة اقتصادية خانقة بارتفاعات متتالية في معدلات التضخم وأسعار متصاعدة على مستوى مختلف المنتجات. بينما لا يزال التقدم المأمول في ملف حقوق الإنسان فيها -رغم بوادر انفراجته في 2022- يشهد تباطؤا كبيرًا، ويزداد حاليًا تأزمًا بفعل الأزمة المالية وتأثيراتها فيما يتعلق بالحصول على الغذاء والحقوق الاجتماعية والاقتصادية الأخرى. خاصة مع استجابة مصر لشروط تتعلق بالدعم المقدم للمواطنين، يفرضها صندوق النقد، للموافقة على مدها بالقرض الذي طلبته مؤخرًا.

منظمة “هيومن رايتس ووتش” المعنية بحقوق الإنسان -مقرها نيويورك- قدمت حصادًا لوضع حقوق الإنسان في مصر ومدى تطوره خلال 2022. ذلك العام الذي أعلنته القيادة السياسية في البلاد “عام المجتمع المدني”، فأشارت إلى تجاوزات تشمل التعامل الأمني مع المحتجزين من المعارضين السياسيين، وكذا انتقادات تتعلق بأوضاع السجون وغياب التحقيق والمعلومات عن الوفيات داخلها، وأيضًا الحرمان من المحاكمات العادلة.

كما استعرض تقرير للمنظمة المشكلات التي لا تزال تواجه حرية تكوين الجمعيات، وحرية الرأي والتعبير والتجمع، وحقوق المرأة والهوية الجندرية. فيما استعرضت كذلك وضع اللاجئين وطالبي اللجوء.

التعامل الأمني مع المحتجزين

وفي استعراضه للتعامل الأمني مع المحتجزين، أشار تقرير “هيومن رايتس” إلى استمرار السياسة الأمنية بإخفاء المعارضين في أماكن احتجاز غير رسمية. حيث يتعرض المحتجزون للإكراه على الاعتراف. وقد حدد التقرير حالات بعينها، من بينها الباحث الاقتصادي أيمن هدهود، الذي “توفي في الحجز” في فبراير/ شباط 2022. كما لفت التقرير إلى “تقاعس السلطات” عن التحقيق في حوادث سوء معاملة، وكذا التحقيق في وفاة هدهود.

اقرأ أيضًا: النيابة تُسدل ستار التحقيقات على وفاة الباحث أيمن هدهود

ومنذ إبريل/ نيسان الماضي، أُفرج عن ما يزيد على ألف من المحبوسين احتياطيًا. كما تم العفو عن قرابة 15 سجينًا، كان آخرهم البرلماني السابق زياد العليمي في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

أوضاع السجون

أشار التقرير إلى ما وصفه بـ”الأوضاع المزرية في السجون ومراكز الاحتجاز”، والتي انتقد فيها حمايتها من الإشراف أو الرقابة المستقلين في 2022، رغم حملات الترويج لافتتاح سجون جديدة.

ولفت التقرير إلى أبرز الحالات، ومنها صلاح سلطان، الذي طلب رؤية طبيب مستقل والحصول على الأدوية والمعدات الطبية الضرورية. وقد نُقل في سبتمبر/أيلول، من سجن العقرب شديد الحراسة إلى مجمع سجون بدر الجديد شرق القاهرة. بينما قال لأسرته إن السلطات واصلت احتجازه في الحبس الانفرادي وأن ضابطًا قال له “إنه لن يغادر السجن إلا جثة”. وذكر التقرير أنه كغيره من مساجين سجن بدر، يتعرض لأضواء المصابيح الفلورية لـ 24 ساعة في اليوم وتوجد كاميرات مراقبة داخل زنزانته.

اقرأ أيضًا: بعد عام من إطلاقها.. اللجنة الدائمة لحقوق الإنسان تعلن نتائج الاستراتيجية

كذلك، تطرق التقرير إلى وضع المدوّن والناشط السياسي المصري-البريطاني علاء عبد الفتاح، الذي مُنع من التواصل مع الممثلين القنصليين وتلقي زيارات من محاميه.

سناء سيف في ندوة عن أخيها خلال مؤتمر المناخ (وكالات)
سناء سيف في ندوة عن أخيها خلال مؤتمر المناخ (وكالات)

وكان عبد الفتاح أنهى إضرابه عن الطعام منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني. بعد أن أثارت قضية ضجة كبيرة مع الإضراب الذي بدأه تزامنًا مع مؤتمر المناخ (COP 27) قبل أن يفضه.

وقد أشار لتقرير مشترك صدر في إبريل/ نيسان عن “الجبهة المصرية لحقوق الإنسان” و”مبادرة الحرية”، حول ممارسات تحمل عنفًا جنسيًا ضد محتجزين بمن فيهم الرجال، والنساء، ومتغيري/ات النوع الاجتماعي.

الحرب في سيناء

كذلك أشار التقرير إلى الوضع في سيناء، وذكر مجموعات مكونة من أفراد من القبائل المحلية، شاركت بشكل متزايد في القتال ضد جماعات داعش في شمال سيناء في 2022، متهمًا هذه المجموعات القبلية بتنفيذ عمليات قتل خارج إطار القانون.

وادعى التقرير أن الجيش نفذ حملة هدم موسّعة شملت تدمير أكثر من 12,300 مبنى من 2013 إلى يوليو/ تموز 2020 دون الوفاء بالتزاماته الحقوقية المتعلقة بالإخلاء القسري. مشيرًا إلى أن العديد من عمليات الهدم افتقرت إلى أدلة على ضرورة عسكرية “حتمية”، وأنه ما تزال مئات العائلات دون تعويض.

حقوق المرأة والتوجه الجنسي

وفيما يتعلق بحقوق المرأة والتوجه الجنسي، ذكر تقرير “هيومن رايتس” أن عام 2022، شهد موجة قتل شنيع للنساء على أيدي رجال، منهم قاض قتل زوجته الثانية وشوّه جسدها قبل دفنها سرا، وطالب طعن زميلته حتى الموت أمام جامعة المنصورة عندما رفضت الزواج منه. بينما ذكر التقرير أن العنف الجنسي لا يزال مشكلة متفشية في القاهرة ومدن أخرى.

كما استندت “هيومن رايتس” إلى تقارير حقوقية، توصلت إلى أن الطالبات المتزوجات الحوامل أو الأمهات في مصر لا يتمكن من مواصلة تعليمهن إلا في البيت. بينما لا تتلقى الطالبات اللواتي يحملن خارج الزواج عمومًا نفس الدعم والتشجيع لمواصلة تعليمهن في المنزل.

ولفت التقرير إلى تقوّيض حق المثليين/ات، ومزدوجي/ات التوجه الجنسي، ومتغيّري/ات النوع الاجتماعي (مجتمع الميم) في الخصوصية عبر استهدافهم رقميًا. ذلك بالإيقاع بهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات المواعدة، وعبر المضايقات و”إفشاء الهويات” والابتزاز عبر الإنترنت، ومراقبة مواقع التواصل الاجتماعي، والاعتماد في المحاكمات على أدلة رقمية تم الحصول عليها بشكل غير قانوني.

وذكرت “هيومن رايتس” أنها وثقت حالات استخدمت فيها قوات الأمن الاستهداف الرقمي، بناء على أحكام “الفجور” وقانون الجرائم الإلكترونية، للإيقاع بأفراد مجتمع الميم، واحتجازهم بناء على أدلة رقمية وُجِدت على أجهزتهم الشخصية، وإساءة معاملتهم أثناء احتجازهم.

نيرة أشرف إحدى ضحايا العنف ضد النساء في مصر خلال 2022 (وكالات)
نيرة أشرف إحدى ضحايا العنف ضد النساء في مصر خلال 2022 (وكالات)

التعامل مع الجمعيات

أشار التقرير أيضًا إلى أن السلطات واصلت استخدام منع السفر التعسفي لاستهداف أعضاء بارزين في المجتمع المدني بسبب عملهم السلمي، بمن فيهم محامو حقوق الإنسان، والصحفيون، والناشطات النسويات، والباحثون. وأن ذلك أدى إلى تشتيت العائلات، والإضرار بالمسيرات المهنية، وإيذاء الصحة العقلية لمن يخضعون لها. وقد واجه بعض هؤلاء الأعضاء في المجتمع المدني تجميد الأصول، ما أدى إلى عزلهم عن النظام المصرفي.

وفي يناير/ كانون الثاني 2022، أعلنت “الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان”، إحدى المنظمات الحقوقية المستقلة الرائدة في مصر، أنها سُتنهي عملها بعد قرابة 18 عامًا. وذكر التقرير أنها أُجبِرت على الإغلاق بسبب سلسلة من التهديدات والاعتداءات العنيفة وعمليات الاحتجاز من قبل قطاع الأمن الوطني. فضلًا عن المهلة التي تشارف على الانتهاء والمفروضة على جميع المنظمات غير الحكومية التسجيل بموجب قانون الجمعيات الأهلية الصارم.

وفيما يتعلق بمؤتمر تغير المناخ، ذكرت “هيومن رايتس” أن السلطات استخدمت هذا المؤتمر لتحسين صورتها بشأن حقوق الإنسان في البلاد. مع أنها فرضت عقبات تعسفية على التمويل والبحث والتسجيل أضعفت الجماعات البيئية المحلية، وأجبرت بعض النشطاء على الهروب إلى المنفى والبعض الآخر على الابتعاد عن العمل المهم.

وقد أسفر ذلك عن تقييد قدرة المجموعات البيئية على النشاط المستقل في مجال وضع السياسات والمناصرة والعمل الميداني إلى حد كبير.

اللاجئون وطالبو اللجوء

ذكر التقرير أيضًا أن اللاجئين وطالبي اللجوء، ولا سيما الأفارقة ذوي البشرة السوداء، يعيشون في مجتمعات ضعيفة داخل مصر. حيث يواجهون الاعتداء والاغتصاب وتقاعس السلطات عن حمايتهم، وعرقلة وصولهم إلى العدالة. إذ ترفض الشرطة تسجيل شكاوى الضحايا أو إجراء تحقيقات.

وسجل التقرير عددًا من الحوادث خلال 2022، للاجئين وطالبي لجوء سودانيين وإريتريين، ألقي القبض عليهم خلال مداهمات، وتعرض بعضهم لسوء المعاملة، ثم الترحيل بإجراءات موجزة.

الأزمة المالية ورفع الدعم

وفيما يتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، اعترفت المنظمة بالآثار الخطيرة للغزو الروسي الشامل لأوكرانيا على الوضع الاقتصادي المتدهور أصلًا في مصر.
ففي مصر يعيش حوالي ثلث السكان تحت خط الفقر الوطني. بينما البلاد نفسها مسجلة كأكبر مستوردي القمح في العالم، بنسبة 80% استيراد قمح من روسيا وأوكرانيا. واستيراد أكثر من نصف احتياجاتها من زيت دوار الشمس من أوكرانيا.

وفي ظل هذا الوضع، يشير التقرير إلى إجراءات الحكومة بتخفيض دعمها زيت دوار الشمس وزيت فول الصويا بنسبة 20% في يونيو/ حزيران 2021. الأمر الذي أدى إلى زيادة أسعار هذه السلع الأساسية. وهو ما حد من وصول السكان الأكثر فقرًا وضعفًا في البلاد إلى الغذاء.

يلفت التقرير كذلك إلى قرض صندوق النقد، الذي طلبته مصر في مارس/ آذار. ذلك للمساعدة في تخفيف التداعيات الاقتصادية المتعلقة بغزو روسيا لأوكرانيا. وقد أعلنت الموافقة عليه في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ضمن برنامج مدته ستة أشهر، بقيمة 3 مليارات دولار أمريكي.

وبدأت مصر التعاون مع الصندوق في 2016، من خلال برنامجين؛ الأول هو البرنامج الأساسي الذي استهدف الإصلاح الاقتصادي، وانتهى في عام 2019. بينما بدأ البرنامج الثاني في يونيو/ حزيران 2020 حتى يونيو 2021، وكان من أجل الحفاظ على استقرار النمو الاقتصادي، على حد قول رئيس الوزراء مصطفى مدبولي.

مصر تعيش أوضاعا اقتصادية خطيرة في السنوات الأخيرة (الصورة - وكالات)
مصر تعيش أوضاعا اقتصادية خطيرة في السنوات الأخيرة (الصورة – وكالات)

القرض الجديد

وبعد انتهاء برنامج التعاون مع الصندوق في يونيو/ حزيران الماضي، بدأت مشاورات جديدة من أجل التوافق على برنامج جديد، طلبت الحكومة بموجبه الدعم التمويلي، بعد أن أدت الحرب في أوكرانيا إلى زيادة مواطن الضعف الحالية في ظل زيادة صعوبات الأوضاع المالية العالمية وارتفاع أسعار السلع الأولية.

وبموجب التسهيل، سيقدم صندوق النقد الدولي لمصر نحو 700 مليون دولار في السنة المالية التي تنتهي في يونيو/ حزيران المقبل. وذكر الخطاب أن البنك الدولي سيغطي 1.1 مليار دولار من فجوة التمويل المتبقية لهذا العام البالغة 5.04 مليار دولار، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية 400 مليون دولار، والبنك الإفريقي للتنمية 300 مليون دولار، وصندوق النقد العربي 300 مليون دولار، وبنك التنمية الصيني مليار دولار، بينما ستغطي مبيعات الأصول العامة ملياري دولار.

التزامات مصر للصندوق

إلا أن جماعات حقوقية أعربت في السنوات الماضية عن مخاوف قوية بشأن عدم التشديد على ضرورة أن تقوم الحكومة المصرية بتوسيع الحماية الاجتماعية، وتعزيز استقلالية القضاء، والتصدي للفساد وأهمية الشفافية. خاصة في ظل شروط الصندوق التي تؤثر على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للشعب المصري.

وأظهر تقرير لخبراء صندوق النقد الدولي صدر، الثلاثاء الماضي، أن مصر التزمت -بموجب هذا القرض الجديد- بمرونة العملة، ودور أكبر للقطاع الخاص. بالإضافة إلى مجموعة من الإصلاحات النقدية والمالية، مقابل حزمة الدعم المالي بقيمة 3 مليارات دولار مع الصندوق.

وفي خطاب نوايا موجه إلى صندوق النقد الدولي بتاريخ 30 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، تعهدت الحكومة بإبطاء وتيرة الاستثمار في المشروعات العامة. بما في ذلك المشروعات القومية. كما أعلنت التزامها بالسماح لأسعار معظم منتجات الوقود بالارتفاع. وذلك حتى تتماشى مع آلية مؤشر الوقود في البلاد، لتعويض التباطؤ في مثل هذه الزيادات خلال السنة المالية الماضية.

اقرأ أيضًا: “التعويم” يغرق المصريين مجددًا.. وصايا الصندوق تهوي بالجنيه لأدنى مستوى في تاريخه

وأيضًا، تعهدت مصر بعدم التدخل في أسواق العملة الأجنبية لتحقيق الاستقرار أو لضمان سعر للصرف، إلا في حالات التقلب الشديد. وسُمح للجنيه المصري بالتقلب أكثر من ذي قبل منذ خفض قيمته للمرة الثالثة في أقل من عام الأسبوع الماضي.

وقد أنهى الدولار تعاملات البنوك الرسمية، الأسبوع الماضي، على صعود قياسي مسجلًا مستوى 29.75 جنيه في أعلى مستوى بتاريخه بعد ارتفاع وصل إلى 32 جنيهًا. وهو ما جاء عقب يوم واحد من المؤتمر الذي عقدته بعثة صندوق النقد إلى مصر. حيث كشفت فيه بشكل كامل عن جميع جوانب قرض الـ 3 مليارات دولار.