في مطلع يناير الماضي سقط “محمود يوسف” (40 عاما) رسام جداريات، أثناء عمله من أعلى سقالة، وبعد نقله إلى أحد المستشفيات القريبة، تبين أنه مصاب بكسر في الحوض ويحتاج تدخلا جراحيا عاجلا وتركيب مفصل، ولتكلفة العلاج الكبيرة، قرر “محمود” التقدم بطلب للعلاج على نفقة الدولة.
في البداية خاف”محمود” من تأخر صدور قرار العلاج، لكن المحيطين به أقنعوه بتقديم الطلب، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، وقبل انتهاء اليوم الثالث بعد التقديم، فوجئ “محمود” بصدور القرار حتى قبل مرور 72 ساعة.
بعد إجراء الجراحة يقول “محمود” إنه تلقى اتصالا من موظفة بوزارة الصحة تسأله إذا كانت العملية أجريت في الموعد المحدد لها، وإذا كان قد تعرض لأي مشكلة. اعتقد”محمود” في البداية أن الاتصال مجرد “مقلب”، ولكن الموظفة شرحت له الدور الذي تقوم به من خلال مكتب متابعة مبادرة القضاء على قوائم الانتظار.
اقرأ أيضا.. ضحايا الألم والعلاج المجاني.. حكايات من “معهد الأورام”
في 6 يوليو 2018، أطلقت وزارة الصحة، المبادرة الرئاسية للقضاء على قوائم الانتظار للتدخلات الحرجة، وفي يناير 2019 أعلنت الوزارة إطلاق المرحلة الثانية من المبادرة التي تهدف إلى الانتهاء من قوائم انتظار مرضى الجراحات والتدخلات الطبية الحرجة لمدة ثلاث سنوات قادمة بالمجان، تمهيدا لضم المنظومة، لمشروع التأمين الصحي الشامل بعد وصوله إلى المحافظات كافة .
وزارة الصحة أعلنت وقتها إصدار 3 ملايين و524 ألفا و809 قرارات علاج على نفقة الدولة، في جميع محافظات الجمهورية، بتكلفة إجمالية بلغت 14 مليار و516 مليون جنيه، خلال عام 2022.
وبحسب الأرقام الرسمية، هناك 157 مستشفى مشارك في الحزمة الأولى من التدخلات الجراحية للقضاء على قوائم الانتظار، في 9 تخصصات تتضمن (جراحات القلب المفتوح، وقسطرة القلب، وزراعة قوقعة الأذن، وجراحات العيون، وجراحات العظام، وجراحات الأورام، وزراعة الكلى، وجراحات المخ والأعصاب، وزراعة الكبد).
الفئات المستهدفة
تستهدف منظومة العلاج على نفقة الدولة تحقيق نوع من الحماية الصحية لغير القادرين من الفئات التي لا تخضع للتأمين الصحى، وغير القادرين من العمالة اليومية والمؤقتين وأصحاب المهن الحرة، ممن لا يستطيعون دفع تكلفة العلاج على نفقاتهم الخاصة والبالغ عددهم 42% من المصريين.
يوضح الدكتور محمد حسن خليل منسق لجنة الدفاع عن الحق في الصحة، أن منظومة العلاج على نفقة الدولة تلعب دورا مهما في علاج من لم يشملهم نظام التأمين الصحي حتى اليوم، وأصحاب الأمراض المزمنة ويضمن لهم حماية ضد الكوارث والأزمات الكبرى، لكن أحد مثالبه- كما يوضح خليل- أنه نظام يعالج بالقطعة، غير متكامل لا يحمي المريض مدى الحياة.
وسجلت المنظومة إنجازا كبيرا خلال السنوات الأربع الماضية، واستطاعت توفير 12 ألف قرار علاج يوميا. وتعد منظومة العلاج على نفقة الدولة المرحلة الأولى في مشروع التأمين الصحي الشامل الجديد، والذي تستهدف الحكومة تحقيقه في كل المحافظات خلال السنوات المقبلة
ويركز العلاج على نفقة الدولة على الخدمات الطبية والعمليات المكلفة بشكل أساسي، لسد الفجوات الطبية للفئات “غير القادرة” بعد إجراء الكشف والتحاليل داخل المستشفيات الحكومية، ثم عرضها على اللجنة الثلاثية لفحص الحالة وتسجيلها على الشبكة القومية للعلاج وتأخذ الإجراءات من يومين إلى ثلاث أسابيع لإجراء العمليات أو صرف العلاج لأصحاب الأمراض المزمنة من مرضى الغسيل الكلوي والسكر والضغط وغيرها.
وفق الدكتور حيدر سلطان نائب رئيس المجالس الطبية المتخصصة بوزارة الصحة، فإن حجم الإنجاز بالمنظومة ارتبط بزيادة عدد العاملين فيها ومساهمة جهات مانحة من المجتمع المدني بنسبة 40% من قوائم العلاج على نفقة الدولة من خلال المبادرة الرئاسية، التي ساعدت في تقليل فترة الانتظار، ويضيف أن الدولة تتحمل فارق المساهمة بالجزء الذي كانت تشارك به الجهات المانحة.
ويشير دكتور خالد سمير عضو مجلس نقابة الأطباء سابقا، إلى أن منظومة قوائم الانتظار معمول بها في كل الدول، وتختلف وفقا لأرقام المرضى ومدد الانتظار، والإمكانيات المتاحة من أماكن وعاملين.
ويضيف أنه لا يجب تسويق “قوائم الانتظار” على أنه أزمة، واصفا ذلك بـ”المتاجرة السياسية”.
وقال سمير لــ”مصر 360″: “نسب القوائم تراجعت بعد قيام الحكومة بضخ مبالغ مالية منذ سنة 2018 للوصول بها للمعدلات الدولية، ويتم التعامل مع حالات الطوارئ وفقا لقرار رئيس الوزراء بإلزام المستشفى بإجراء المطلوب أولا ثم إخطار وزارة الصحة بالحالة وسعر الخدمة، مثل الحوادث والكسور والجلطات وغيرها”.
الخدمة وسعر التكلفة
مع الضربات المتلاحقة التي تعرض لها الجنيه نتيجة عمليات التعويم المتكررة، وارتفاع سعر الدولار زادت أسعار المستلزمات الطبية وتضاعفت تكلفة الخدمة الصحية بالمستشفيات، فأصبح هناك فارق كبير بين تقييم وزارة الصحة للخدمة والتكلفة الفعلية لها، ولم تحدث مراجعة للأسعار على قرارات العلاج على نفقة الدولة منذ 2018 حتى الآن، ما أحدث أزمة داخل المستشفيات في نقص المستلزمات.
تشير إلى ذلك “ماجدة عبد الكريم” مريضة كلى من محافظة أسوان، إذ قالت إن العلاج على نفقة الدولة استطاع أن يوفر العلاج لمثل حالتها بالإضافة إلى جلسات الغسيل، لكن تظل هناك مشكلة ترتبط بنقص بعض أنواع الأدوية المناعية المهمة التي لا توفرها الخدمة مثل دواء (prograf) والذي يضطر المريض إلى شرائه على نفقته بسعر 1200 جنيه شهريا.
كما تشير إلى مشكلة أكبر تتمثل في حصر أماكن صرف الأدوية ضمن المشروع في مستشفيات معينة قد تكون بعيدة جدا عن محل سكن المرضى، تقول: “بصرف علاجي مرة كل شهر من مستشفى أسوان العام والذي يبعد عن كوم أمبو الذي أسكن فيها 50 كم ما يمثل مشقة كبيرة، لأنهم يرفضون صرف العلاج من مستشفى المركز القريب مني”.
ويوضح منسق لجنة الدفاع عن الحق في الصحة أن نظام العلاج على نفقة الدولة يتعامل مع صرف الأدوية وفقا للقائمة المدرجة بالجدول وفقط، أما فيما يخص الأدوية غالية الثمن، فهي خارج هذه القائمة ولا يتم صرفها ضمن قرار العلاج لأن الميزانية لا تتحمل.
وبحسب دكتور خالد سمير عضو مجلس نقابة الأطباء سابقا، فإن هناك مشكلة كبيرة ترتبط بتعديل قائمة أسعار الخدمة المقدمة، بعد الزيادات المستمرة في سعر الدولار مقابل الجنيه والتي تسببت في ارتفاع أسعار المستلزمات الطبية. يضيف المنسق: “الأمر يستوجب مراجعة الأسعار كل ثلاث سنوات على الأقل”.
وقال حيدر لـ”مصر 360″: “نسعى حاليا للحفاظ على المؤشرات التي تم تحقيقها، هدفنا القضاء على قوائم الانتظار، ونستهدف العام المقبل الحصول على ما يقرب من 13 مليار جنيه من ميزانية الوزارة لهذا المشروع للعام 2023”.
تقليص الخدمة بالمستشفيات الخاصة
وتوازيا مع المشكلات السابقة، أصدر وزير الصحة دكتور خالد عبد الغفار في 1 سبتمبر/ أيلول 2022 القرار رقم 310 لسنة 2022، بشأن تعديل بعض أحكام قرار وزير الصحة والسكان رقم 290 لسنة 2010، بإعادة تنظيم قواعد وإجراءات العلاج على نفقة الدولة.
ونص القرار على ألا يزيد ما يصدر من قرارات للعلاج على نفقة الدولة بالمستشفيات والمراكز الطبية الخاصة على 10% من مجموع القرارات الكلية، شريطة أن تكون الخدمة العلاجية غير متوفرة بالمستشفيات الحكومية.
يأتي تحديد عدد القرارات الصادرة لصالح المستشفيات الخاصة بعد انتهاء المبادرة الرئاسية للانتهاء من قوائم الانتظار، لكن نائب رئيس المجالس الطبية المتخصصة أوضح أن الاستعانة بالمستشفيات الخاصة عملية نسبية ترتبط بكثافة القوائم. كما يقول إنها جاءت بهدف حل أزمة الانتظار لفترات طويلة وبعد انتهاء المبادرة الرئاسية لم يعد لها دور، لأن الأصل في العلاج على نفقة الدولة تتحمله المستشفيات الحكومية والمعاهد والمستشفيات التعليمية.
“هبة البحراوي” تبلغ من العمر 36 عاما تعمل في التربية والتعليم لديها 3 أطفال، أصيبت بسرطان القولون وأُجري لها جراحة استئصال للورم على نفقة الدولة وتتلقى جلسات العلاج الكيميائي بمركز المنصورة للأورام، لكنها تحتاج وبحسب إرشاد الطبيب المعالج، إلى حقنة بقيمة 14 ألف جنيه، لتحسين نسبة الشفاء ومقاومة الخلايا السرطانية. لكن قرار العلاج لم يشمل هذه الحقنة، يقول طبيبها المعالج إن نسبة الشفاء بدون الحقنة لا تتجاوز الـ50%.
ويتوقع دكتور خالد سمير، عضو مجلس نقابة الأطباء سابقا تراجع معدلات الإنجاز الذي تحقق في المنظومة بسبب نقص التمويل في تغطية الأجور والمستلزمات الطبية، يقول: “لابد أن تزيد قدراتنا الاستيعابية في قطاع الصحة بمعدل يتماشى مع الزيادة السكانية لمواكبة المتطلبات الإضافية في احتياجات المرضى وطلبات العلاج”.
يوضح “سمير” أن الأزمة اشتدت حاليا، حيث خفضت المستشفيات طاقة العمل إلى أدنى مستوى له مع أزمة ارتفاع أسعار الدولار ومشكلة الإفراجات الجمركية التي انعكست على أسعار المستلزمات الطبية في المستشفيات. حيث أوقفت الشركات التوريد وفق الأسعار القديمة، وتطالب بتغيير الاتفاقيات ما أدخل المستشفيات في مشكلات قانونية.