لم يكن ما جرى يوم الأربعاء الماضى عاديا، عندما ارتفع سعر الدولار ليكسر حاجز 30 جنيها مصريا لأول مرة رسميا ويتجاوزه لحدود الـ32 جنيه قبل أن يعود للاستقرار عند حدود 29 جنيه ونصف تقريبا، ومع هذا الصعود غير المفاجئ تصاعد منسوب القلق العام لدى المصريين مما قد تصل إليه الأوضاع الاقتصادية خلال الأسابيع والشهور المقبلة.

بعيدا عن الأرقام والإحصائيات، وآراء الخبراء الاقتصاديين وتقديرات المحللين الماليين، فإن آثار التحرك الأخير لسعر الدولار، وما سبقه من تحركات متتالية على مدار العام الماضى والتي وصلت نسبة زيادته إلى الضعف تقريبا خلال عام واحد حيث كان سعره في بداية عام 2022 بمتوسط 15 جنيه تقريبا والآن يكاد يقترب من الـ30 جنيه، هي الآثار المحسوسة والملموسة على معيشة وحياة عموم المصريين بمختلف طبقاتهم الاجتماعية، وعلى موجات الغلاء المتتالية بما في ذلك أسعار سلع أساسية ووجبات غذائية، والتأثر الواضح للقدرة الشرائية، والتراجع الواضح لقيمة المدخرات لدى الأسر ميسورة الحال أو ما كنا نسميه بالطبقة الوسطى والطبقة الوسطى العليا.

القلق الذي انتاب ولا يزال ينتاب الغالبية العظمى من المصريين ليس مشروعا فحسب بل هو واجب، وما نمر به من أوضاع اقتصادية الآن، مع كل التفهم لأنها نتيجة سلسلة من الأزمات العالمية، وتراكم لنتائج السياسات في عهود سابقة، إلا أنه في جانب رئيسي منه أيضا هو حصاد للسياسات الاقتصادية الحاكمة خلال السنوات الماضية، ونتاج لأجندة ما يسمى بالإصلاح الاقتصادى الذي انتهج مسار روشتة صندوق النقد الدولي رغم فشله في معالجة مشكلات الاقتصاد المصري، وهو نفسه الصندوق الذي اعترف ضمنا في تقريره الأخير الأسبوع الماضي بعد الموافقة على قرض جديد لمصر في ديسمبر الماضي أن برامجه لم تنجح في معالجة ما وصفه بـ(اختلالات كانت موجودة بالفعل من قبل بداية الحرب الروسية الأوكرانية، التي أظهرت فقط تلك الاختلالات المتراكمة، وبلورت ضغوطا موجودة مسبقا).

تقرير الصندوق تعرض أيضا للكثير من السياسات والإجراءات التي يفترض أن تقوم بها مصر خلال الفترة المقبلة، وهى في كثير منها سيكون لها أثر أكبر في زيادة معاناة المصريين اقتصاديا واجتماعيا حتى وإن نجحت في ضبط الأرقام، فالاقتصاد ليس أرقاما فحسب، وإنما هو بشكل مباشر قدرة الناس على أن تعيش وتحصل على احتياجاتها الأساسية، فضلا عن أن تتمكن بجهدها وكسبها من بناء قدرات تمكنها من الترقى الاجتماعى. وبهذه المعايير الواضحة المباشرة، بغض النظر عن تشابك وتداخل أسبابها، فإن أوضاع الناس ترجع للخلف بكل وضوح ودون مواربة.

هذا الوضع، الذى لا تبدو له في الأفق حلول مباشرة وناجعة، لكن على الأقل هناك ضرورة لسياسات تخفف آثار الأزمة وتحد من معاناة المصريين، لكن بالإضافة إلى ذلك فإن هذا الوضع يحتاج إلى عدة خطوات بالغة الأهمية جنبا إلى جنب، أولها هو الاعتراف بوجود أزمة دون التقليل منها ولا من آثارها، الشفافية والمصارحة، والقدرة على المبادرة للاعتراف بالأخطاء هو المطلوب الآن، ووجود خطاب مسئول يشعر الناس بالإحساس بمعاناتهم ومشاركتهم فيها وليس التقليل منها أو الإصرار على أن السياسات الحالية لم تكن جزءا من الوصول لهذه الأزمة.

قرارات الحكومة الأخيرة قد تبدو في جانب منها جزءا من الاعتراف بالأخطاء، لكنها لا تكفي وحدها، فالحديث عن قواعد لترشيد الإنفاق الحكومي، وتأجيل تنفيذ أي مشروعات جديدة لها مكون دولاري، وتأجيل الصرف على أي احتياجات لا تحمل طابع الضرورة القصوى، كلها تبدو تحت وطأة ضغط الأزمة وسعيا لتوفير مصادر العملة الأجنبية، لكنها أيضا في جانب منها اعتراف غير معلن ومباشر بأن أولويات المرحلة السابقة لم تكن صحيحة تماما، وربما لو كانت تلك القرارات قد جاءت في وقت سابق كان أثرها يبدو أفضل. التأخر في الاعتراف بالأخطاء يزيد الأزمة لا يساهم في حلها، وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق العام هي أولوية قصوى الآن.

بالتزامن مع ذلك كله، فإن هناك حاجة لوجوه اقتصادية لديها مصداقية سياسيا ومجتمعيا، هناك حاجة لخبراء حقيقيين من أهل الخبرة والكفاءة، وأن تكون آرائهم ومقترحاتهم محل تنفيذ جاد ودراسة حقيقية، بغض النظر عن مدارسهم الفكرية وخلفياتهم السياسية، مصر أحوج ما تكون الآن، لحلول حقيقية، ولإجراءات عاجلة، ولخطوات كبيرة مختلفة تخفف من آثار الوضع الراهن وتعيد قدر من الثقة والإطمئنان الحقيقى بسياسات وإجراءات وأفعال وآثار محسوسة وملموسة لعموم الناس ولقطاعات رئيسية منه.

الهم الأساسي والرئيسي والضاغط على الجميع الآن اقتصادي واجتماعي، ومع صعوبته والتوقعات المرجحة لاستمرار ذلك الوضع لفترة قد لا تكون قصيرة، فالناس بحاجة لما يمنحهم الأمل فيما هو قادم، كى لا تنسد أمامهم السبل والمنافذ فتتحول طاقة القلق إلى طاقة غضب تنفجر في وجه الجميع، ولا أحد سيتحمل توابع انفجارات في هذه الأوضاع، وبالتالي فالسياسة تظل مدخلا أساسيا ومهما، بإطلاق الحريات وفتح الباب لتعدد الآراء، وقبول الاختلاف مهما بلغت حدته، والتفاعل مع وجهات النظر المختلفة بشكل حقيقى، الانفتاح السياسي الآن ليس ترفا ولا رفاهية بل ضرورة واجبة لخلق مسارات سياسية آمنة بديلة عن انفجارات اجتماعية أو عشوائية، وخلق أطر سياسية للتعبير عن الآراء ولتخليق الأفكار والاقتراحات وبلورة الرؤى والتصورات هو واجب اللحظة دون تأخير أو تباطؤ، ولا يمكن هنا أن يتم ذلك في أجواء انسداد وتأزم سياسي، ولا يمكن أن يتم ذلك دون تسوية ملفات لا تزال عالقة مثل ملف سجناء الرأي، ولا يمكن أن يتم ذلك دون أن يكون الهدف الحقيقي هو أوسع توافق ممكن على خطوات جادة لإصلاح سياسي واسع وشامل وليس شكليا ولا جزئيا.

مصر تعاني من القلق الذى يقترب من الغضب، وتحتاج للحرية والعدل والشفافية والمصارحة، مصر تئن من الغلاء والتضخم، وتحتاج إلى سياسات مختلفة وإجراءات عاجلة وشاملة، مصر تعاني من الخوف من المجهول وتحتاج إلى طاقة أمل في المستقبل، مصر هي الناس لا السلطة ولا المعارضة، ونحتاج جميعا الآن لنسمع صوت الناس وآلامهم ومعاناتهم ونفتح الأبواب لكل أصحاب الرؤى والآراء لتقديم تصوراتهم عن حلول أوجاع وآلام الناس أو على الأقل تخفيفها، وهو ما لن يحدث إلا بعودة السياسة وفتح المجال العام بشكل حقيقي وجاد.