فكرت طويلًا في التراجع، لم أجد في نفسي رغبة في أن أخوض مرة جديدة في الحديث عن هذا الموضوع، حين شرعت في التفكير في مقال الأسبوع المقبل، تذكرت أن موعده (اليوم) يوافق ذكرى ميلاد جمال عبد الناصر، لكني كنتُ مللتُ الوقوف موقف الدفاع طوال خمسين سنة لم يتوقف خلالها الهجوم على عبد الناصر.
أعترف أمامكم أنني مللت هذا الموقف الذي حُشرنا فيه طويلًا، وأنا واحد من هذا الجيل الذي تفتح وعيه في مواجهة أكبر حملة ممنهجة لها أهداف، ووراءها رعاة كبار، استهدفت اغتيال ليس جمال عبد الناصر، ولكن اغتيال كل ما كان يمثله رجل غادر مسارح الحياة ليتركها لورثته الذين خلفوه من بعده لتكون مهمتهم هي السير على خطه بممحاة كما تقول النكتة المصرية اللاذعة عما فعله أنور السادات ومن جاءوا بعده في الانقلاب على السياسات والانحيازات الناصرية.
لم يفتر حماسهم يومًا ولا تركوا مناسبة، -وأحيانًا بدون مناسبة- وكل همهم أن يعيدوا كتابة سيرة عبد الناصر ومسيرته، ليخرجوها في صورة رجل قادته أوهامه التي لابسته وأطماعه التي تلبسته وهزائمه التي جرها على البلاد ومصائبه التي أوقع فيها العباد.
يهيلون التراب على ثورة يوليو، حتى جعلوا منها النقطة الأسوأ في تاريخ مصر، يقدمونها على أنه قطعة واحدة من التاريخ، لا يفرقون بين عهودها جميعًا، ويضعون عبد الناصر في موقع المسئولية ليس عن فترة حكمه وحدها، ولكن عن كل المساوئ التي تتابعت من بعده في عهودٍ ثلاثة.
**
ما جعلني أعود مرة أخرى لاختيار موضوعي الذي فرضته مناسبة ميلاد عبد الناصر أنني لدى مراجعتي لأوراقي وقعت على محضر لقاء بين عبد الناصر والمفكر الفيلسوف الفرنسي الشهير «جان بول سارتر» مؤسس المدرسة الوجودية في الفلسفة، وكانت تصحبه في زيارته إلى مصر أوائل مارس سنة 1967 الكاتبة الفرنسية الكبيرة «سيمون دي بوفوار».
كان الحوار يفصح عن جانب من جمال عبد الناصر لا يعرفه كثيرون عنه، وهو أحد الجوانب التي يحاولون التشويش عليه، جانب عبد الناصر صاحب الرؤية المتجذرة في الواقع، وصاحب المشروع المتطلع إلى أفضل مستقبل لأمته وشعبه.
يوم 9 مارس 1967 كان موعد اللقاء بعد أن مكث الضيفان في مصر وقتًا استطاعا خلاله زيارة العديد من مشروعات الثورة، والتقيا العديد من المفكرين والكتاب والشخصيات العامة المصرية، وأجريا عدة حوارات.
**
كان المثقفان الكبيران يحملان إلى عبد الناصر العديد من الأسئلة، والكثير من التعليقات على ما شاهداه في مصر، وقد عبرا عن دهشتهما من الإنجازات التي تحققت على أرض مصر في تلك الفترة.
من ناحيته كان عبد الناصر مهتمًا بلقائهما وهما وقتها في طليعة حركة التجدد الثوري في فرنسا وفي أوروبا، وكانا يخوضان معًا معركة إعادة اكتشاف وتجديد حيوية المجتمعات الأوروبية في فترة منتصف الستينات وما حولها.
كان ضمن مجموعة الأسئلة التي طرحتها «سيمون دي بوفوار» على الرئيس «جمال عبد الناصر» سؤال عن مشكلة زيادة عدد السكان، وحسب محضر الاجتماع فقد تدخل «سارتر» مؤيدًا وقال إنه لابد من أن يوجد حل على مستوى الدولة لهذه المشكلة.
وأكد لهما عبد الناصر أن الحل الحقيقي لمشكلة زيادة عدد السكان يكمن في زيادة الإنتاج عن طريق التوسع في استصلاح الأراضي من ناحية، والاعتماد على سياسة التصنيع من ناحية أخرى، بالإضافة إلى التوسع في عملية التعليم الذي كان يراه هو أهم عنصر، «فالمتعلم ينظم حياته على أساس موارده وأما غير المتعلم فيترك المسائل للمصادفات».
وقاطعه «سارتر» قائلاً: «إن واحدًا من المحافظين المصريين قال لي إن المشكلة مشكلة كهرباء، فعندما يتم استكمال مشروعكم لكهربة الريف يدخل التليفزيون على أوسع نطاق، وسيكون من أثر هذا أن الناس سيجدون شيئًا أخر يُسليهم غير ممارسة إنجاب الأطفال» (لاحظ أن هذا الرأي تردد كثيرًا على لسان من حكموا مصر بعد جمال عبد الناصر).
محضر الاجتماع يثبت سخرية عبد الناصر من هذه الرؤية القاصرة، ضحك الرئيس وهو يقول لـ«سارتر»: «لكن المشكلة أنه حتى إذا عمَّمنا التليفزيون فإن برامجه تنتهي في الساعة الحادية عشرة والنصف، وبعدها فإن الليل طويل (ضحك).
استدرك عبد الناصر يقول: «لا يزال تقديري أن التعليم وزيادة الإنتاج يقدمان أحسن وسائل للحل، على سبيل المثال كان عندي عشر من الأخوة والأخوات، وصديقي المشير عامر كان عنده 13 أخًا وأختًا، ولكنني الآن عندي خمسة أولاد، وأتصور أن أيًا من أبنائي سوف يجد من الصعب عليه أن يكون عنده أكثر من اثنين أو ثلاثة».
**
انظر من فضلك إلى موقف ورؤية جمال عبد الناصر من قضية ظلت تثار من بعده، أثارها كل الحكام من الرئيس أنور السادات إلى الرئيس السيسي، كلهم يعلقون أزمات مصر الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية على شماعة مشكلة الزيادة المضطردة في عدد سكان مصر، ولم يقدم واحد منهم رؤية للحل، ولا اتخذ موقفًا صحيحًا وعمليًا في التعامل مع تلك المشكلة التي رأى عبد الناصر أن حلها في أمرين: التوسع في الإنتاج (زراعي وصناعي)، والتوسع في التعليم (عام وفني).
لم يستخدم عبد الناصر الزيادة السكانية شماعة يلقي عليها المسئولية عن تردي الأحوال، ولكنه امتلك رؤية واقعية وجذرية للتخلص من آثارها السلبية.
والحال أن تلك الرؤية كانت مطبقة على أرض الواقع، والأرقام لا تكذب، ويمكنك مراجعتها في مصادرها الموثوقة، وكلها تشهد بأن مصر شهدت خلال عصر عبد الناصر نهضة وقفزة كبيرة على المحورين، محور الإنتاج، ومحور التعليم، بنيت آلاف المصانع وآلاف المدارس، واستصلحت آلاف الفدادين، واستطاعت مصر أن تحقق الاكتفاء الذاتي في الكثير من المنتجات الصناعية والسلع الغذائية، في إطار خطة للتنمية المستقلة الشاملة.
ويمكنك أن تراجع مساحة الأرض التي وزعت، والأرض التي استصلحت، وما غيرته في حياة الريف وحياة الفلاح، أو عدد المصانع التي أقيمت وما فعلته في حياة العمال، أو عدد المدارس والمعاهد والكليات وما أثرت به في حياة مصر الثقافية، وكلها إحصاءات يعرفها الجميع، وينكرها المتربصون بسيرة ومسيرة جمال عبد الناصر.
**
ما فكرت فيه طويلًا أننا بعد مرور 52 سنة على رحيل عبد الناصر أمام جيلين من مواليد ما بعد وفاته لا يعرفون عبد الناصر على الحقيقة، لم يسمعوا ولم يقرأوا إلا ما يخرج من هذه الحملات عالية الصوت، الميسر لها التواجد النشط في مسح سيرة عبد الناصر من تاريخ مصر.
منذ 52 سنة تواجه سيرة عبد الناصر ومسيرته حملات منتظمة من التشوية والقتل المعنوي، تولى أمرها أعداؤه الطبقيين أو الأيديولوجيين، وهؤلاء الذين تضرروا من سياساته، ونالتهم إجراءاته، اجتمعوا في صعيد واحدة تحت عنوان وحيد هو تصفية وجود عبد الناصر، ومحو ذكره وتلطيخ سمعته، وتشويه تجربته.
أنت عرفت عبد الناصر من خلال رؤية إخوانية، أو عبر نظرة ماركسية، وربما لا تعلم أن كل الاخوان، وبعض الماركسيين يكرهون جمال عبد الناصر.
الاخواني يكرهه كراهة تحريم، والماركسي يكرهه كراهة تنظير.
**
شاركت في جلسة طويلة مع إخواني قبل عشر سنوات، لم يكن لنا سيرة طوال ثلاث ساعات غير عبد الناصر، كال للرجل كل التهم، ولم يترك نقيصة في رجلٍ أو في حاكمٍ إلا وألصقها بعبد الناصر، في آخر الجلسة قال لي مستغربًا نفسه:
-أنت ها تخليني أحب الراجل بتاعكم ولا إيه؟
مثال آخر لشاب صغير نشأ في بيت ينحاز إلى عبد الناصر، وقبل أن يشب عن الطوق كان قد التزم دينيًا ولبس الطاقية وارتدى السروال وقصَّر الجلباب، وانتمى إلى جماعة سلفية، وبعد حين انقلب عليهم وانضم إلى جماعة من الماركسيين.
صادفتُه مرة في الشارع وهو في حالته الأولى سألته عن أحواله، فقال لي: “الحمد لله تخلصت من الصنم الذي تعبدونه”، يقصد جمال عبد الناصر، وحين تمركَّس كان يقول لي وملْء عقله كراهية للرجل: “عبد الناصر بتاعكم هو سبب كل ما نعيش اليوم من أزمات”.
كان يؤمن في حالته الأولى أن عبد الناصر أمه يهودية، وأنه عميل السي أي إيه، وأنهم وظفوه للقضاء على الإسلام، وأن هناك خططًا تم الكشف عنها تؤكد أن الأمريكان هم من خططوا له ووضعوا أمامه كيفية التحرك للقضاء على الدين وأهله، ونشر العربدة والتغريب والعلمانية والشذوذ في مصر والعالم العربي.
وفي حالته الأخرى كان شديد الإيمان بأن عبد الناصر فوَّت على الطبقة العاملة فرصة أن تفرض حكمها وتحقق الاشتراكية، وحين سألته كم عدد العمال قبل أن يشرع عبد الناصر في سياسة التصنيع وكم عددهم بعدها لَمْ يُحْرِ جوابًا، وسكت غيظًا.
**
المشكلة التي تواجههم منذ رحيل عبد الناصر وحتى اليوم أنه ما يزال حاضرًا في ذاكرة العرب والمصريين وكثير من بلدان العالم، لدوره المؤثر في تاريخنا الوطني، وارتباط اسمه بمرحلة الاستقلال الوطني التي بدأت بالنضال ضد الاستعمار، ثم خوضه بشجاعة وإقدام معركة التحرر الوطني بمعناه الأعمق وهو التحرر من التبعية والتحرك على طريق إنجاز مهام بناء الاستقلال الوطني عبر السير في طريق التنمية الشاملة.
تحكي صديقة عزيزة عملت في الأمم المتحدة، أنها أثناء زيارة لها إلى كينيا خلال السنة الماضية فوجئت حين قدمت نفسها بأنها من مصر أن البعض قالوا لها من بلد عبد الناصر، وهي واقعة تمت بحذافيرها مع العديد من المصريين، رواها من حضروا مؤتمر الشباب العالمي في موسكو سنة 1985، وفيه وفود شبابية من شتى بقاع العالم، كثيرٌ منهم كان لا يعرف مصر إلا بأنها بلد جمال عبد الناصر.
**
في حادثة غريبة جرت وقائعها معي وجدت نفسي مصادفة في لقاء على الغداء مع رئيس دولة “جويانا” التي تقع على الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية، وكان في ضيافة الشيخ الدكتور سلطان القاسمي حاكم إمارة الشارقة وفي طريقه إلى زيارة إحدى دول الشرق الأقصى، وكنت في ضيافة الشارقة مدعوًا على معرض الكتاب في دورته التي أعلن فيها عن اختيارها عاصمة للثقافة العربية.
وجدتني أجلس على يسار رئيس جمهورية “جويانا”، وعلى يمينه وزير دفاعه ثم وزير خارجيته، وبادرني الرئيس يسأل عن جنسيتي، وحين ذكرت له أنني صحفي مصري، تهللت أسارير وجهه فرحًا، وراح يحدثني عن معرفته بالرفيق “محمد فائق” الذي تعرف عليه في دورة الأمم المتحدة التي حضرها عبد الناصر، وذكر لي أنه كان مندوبًا لبلاده في المنظمة الدولية، وأنه مع آخرين من مندوبي وممثلي دول العالم الثالث ودول عدم الانحياز ودول الجنوب نسقوا تحركهم في تلك الدورة، وأنه تشرف بمصافحة جمال عبد الناصر حين قدمه إليه الوزير محمد فائق ورجاني أن أحمل إليه سلامه ومحبته.
**
يسجل محضر الاجتماع بين عبد الناصر وسارتر أسئلة أخرى طرحتها سيمون دي بفوار، سألت عبد الناصر عن تعليم المرأة، وسألت عن تعدد الزوجات، وعن تأثير الدين في حياة المجتمع.
وكانت ردود عبد الناصر في عدة نقاط:
-لا أريدك أن تمضي وراء مقولة أن الإسلام يمكن أن يكون عائقًا للتطور، فميزة الإسلام في رأيي أنه دين مفتوح على كل العصور، وكل مراحل التطور، وأنا دائمًا أنقل عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قوله داعيًا الناس للاجتهاد إزاء مستجدات العصور: (أنتم أعلم بأمور دنياكم).
-بالنسبة لتعدد الزوجات فأنا لا أرى أن الإسلام يتركها رخصة مفتوحة، وإنما هي رخصة مقيدة بشروط تجعل التعدد صعبًا، بل تكاد تجعله مستحيلاً، والدليل على ذلك ما نراه عمليًا أمامنا ومؤداه أن ظاهرة تعدد الزوجات تتلاشى تدريجيا في المجتمع المصري.
-عن تعليم المرأة، أنا اعتبره الأساس الحقيقي لحريتها، وسوف أطلب من مكتبي أن يبعثوا إليك بإحصائيات عن عدد “البنات” في مراحل التعلم المختلفة، وكذلك في مجالات العمل، في المدارس والجامعات الآن أكثر من مليون فتاة، وفى مجالات العمل المختلفة الآن حوالي 2 مليون سيدة تعمل.
ختم عبد الناصر إجاباته على أسئلة “سيمون دي بفوار” بقوله:
-في رأيي أن حركة التطور حية ومرئية ومستمرة، وأنا أعرف أن بعض المشايخ قد يقفون على منابر مساجدهم ليقولوا كلاما آخر، ولكن كلامهم في اعتقادي غير مؤثر لأن ضرورات التطور أقوى من كل ما يقولون.
**
أوجه حديثي هذا إليك أنت يا من لم تعرف عبد الناصر إلا من خلال نظرة أعدائه ومنظارهم، وأرى أن واجبك ومن حقك أن تحقق وتدقق لتعرف ولتحدد موقفك وموقعك بنفسك.
جمال عبد الناصر ليس حدوتة مصرية فقط، ولا هو حكاية من حكاوي التاريخ نرويها للتسلية، والاحتفاء بذكرى ميلاد عبد الناصر ليس مطلوباً لذاته، وليس المقصود منه تحويل عبد الناصر إلى أسطورة تُحكى على مر الأيام، إنما هو على الحقيقة محاولة للتعلم في محراب التاريخ الحقيقي، واستخلاص دروسه، والوصول إلى النتائج التي تساعدنا على تطوير أدوات التعامل مع حاضرنا وصناعة مستقبلنا الوطني.