ارتبطت الحارة المصرية في الأدب والسينما، وفي الثقافة العامة أيضا، بالشرف والكد و”الجدعنة” والحفاظ على تقاليد الأخوة والشهامة والتعاون، وبالأمانة رغم الفقر وضيق ذات اليد. هكذا اتفق المصريون ضمنيا في أغلب الأحيان، وتصريحا في أحيان أخرى. وغالبا ما اصطلح الأدباء والسينمائيون على أن الحارة تمثل مصر في أبهى صورها، وفي أعرق تقاليدها وقيمها، وأن قيم الخير تكتسح قيم الشر لتبقى الحارة في أيدي أولادها. علما بأن لا شيء يتغير، ولا شيء قد تغير أصلا. حتى نجيب محفوظ أخرج “حميدة” من زقاق المدق، لينزع عنها الحماية الاجتماعية والميثيولوجية، ويرفع عنها الغطاء القيمي.

وفي الحرافيش كشف نجيب محفوظ عن واحدة من أعمق مشاكل العقل المصري عبر الحارة التي ينتظر سكانها “المستبد العادل” الذي يغدق على أهل حارته بعدله و”حكمته” وقوته وجبروته و”نَبَّوُته”. لكنهم على مدى عدة أجيال لم يتعلموا أي شيء، وظلوا ينتظرون “المستبد العادل الحكيم المستنير” وهم يتغنون بحب الحارة وقيمة الحارة وشرف الحارة، وأمانة الحارة رغم الفقر والجهل وضيق ذات اليد.

لقد استهوت “الحارة” الكثير من الكتاب والمثقفين والنقاد والروائيين والقصاصين، وعلى رأسهم نجيب محفوظ الذي تناول الحارة المصرية على خلفية العديد من الحقب التاريخية والسياسية وعلى خلفية التحولات الاجتماعية. لكن الكاتب نجيب محفوظ توقف عن الكتابة منذ ما يقرب من ثلاثين عاما. وربما كان آخر تناول له للحارة المصرية في ستينيات أو سبعينيات القرن العشرين، أي منذ ما يقرب من نصف قرن تقريبا. ومع ذلك، وحتى عشرينيات القرن الواحد والعشرين، تظل الحارة المصرية تلعب دورا خطيرا في منظومة القيم المصرية، وفي الصورة الذهنية التي يطرحها المصريون عن أنفسهم وعن قيمهم وعن أوضاعهم الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية، بل وتتزايد هذه “النغمة” في أوقات الشدة والإحساس العام بالظلم والاضطهاد والقمع والفقر، أو في مواجهة التحولات الاجتماعية والاقتصادية المفاجئة التي تحمل بعض الملامح الأخلاقية.

ويبدو أن الكتاب المصريين والسينمائيين يحتمون هم أنفسهم بالحارة كغطاء اجتماعي وأخلاقي وقيمي مثل حميدة في زقاق المدق، وربما أيضا يتخذون “الأسرة” الشعبية كغطاء مثلما كان الأمر مع نفسية في “بداية ونهاية”.

وفي الواقع، فإن الحارة المصرية متنوعة مثل الحياة، لأن حارة مصر الفاطمية تختلف تماما عن حارة الزاوية الحمراء وعين شمس، والحارتان تختلفان تماما عن أي حارة في الزمالك أو أي ممر في جاردن سيتي. لا أحد يمكنه أن يضع الحارة في تصنيف طبقي أو اجتماعي أو اقتصادي. ولكن الصورة الذهنية التي خلقها المصريون عن “حارتهم” كانت قوية لدرجة الاستقطاب، ولدرجة تشويه الهوية وتزييف الوعي. بل واستخدمها الكتاب والسينمائيون في أغراض تتعارض مع الأهداف السامية والإنسانية للأدب وللفن عموما، ووظفوها لخدمة الأنظمة السياسية ومجموعات المصالح وطواغيت المال، ولمصلحة الفساد السياسي والإداري، ولتبرير الفقر وغياب القانون، أو العكس لتبرير تطبيق القانون انتقائيا أو الثراء بما يرضي الله، ومن أجل محاولات إحداث تغييرات نفسية لحظية خادعة لدى الرأي العام أو إجراء تحولات اجتماعية وهمية. وبالتالي، لم يختلف العديد من الكتاب والسينمائيين المصريين عن “حميدة” و”نفيسة”. علما بأن كلتيهما كانت لديها أسبابها الاجتماعية والإنسانية، وربما النفسية أيضا.

إن الصورة الذهنية لدى الكتاب والسينمائيين المصريين عن الحارة ساهمت في تمجيد الفقر والجهل، وعمقت من مفاهيم أن “الفقر حشمة”، وأن “الجهل ينهار أمام حكمة الأم والأب والشيخ، وأمام حكمة وخبرة الطيبين ذوي الأخلاق الجميلة”، وأن “التعليم مهما كان من غير أخلاق نقمة ولا يجلب إلا الخراب والدمار” و”أن الغنى من دون تدين وخشوع لعنة”، وأن “الغنى غنى النفس” وأن “الحلاوة هي حلاوة الروح”.. وبما أن الأدب والسينما مجدا الفقر والجهل، كان لابد وأن يكون هناك شيطنة للثراء وللفن وللعلم المرتبطين بالعهر والسكر والعربدة والنساء والخمر والقمار وعصيان المولى عز وجل أو مخالفة العادات والتقاليد المصرية المجيدة. وتمت صياغة منظومة أخلاقية- قيمية تلعب لصالح “العدم”، ولمصلحة كل ما هو ضد منظومات القيم الإنسانية العامة، وضد مصالح سكان الحواري أنفسهم. إن المنظومة الأخلاقية- القيمية التي صاغها الأدب والسينما في مصر هي التي جعلت المصريين يفاضلون بين القانون والأخلاق، وبين القيم الإنسانية والقيم الأخلاقية، ويتبنون “الأخلاق” و”القيم” الأخلاقية” ولا يرون في الفقر عيبا أو انتقاصا من الكرامة، ولا يرون في الظلم والتمييز خروجا على حركة الكون.

لا يزال الأدب والسينما في عشرينات القرن الواحد والعشرين يتناولان الحارة بنفس الصورة الذهنية القديمة مثل العالم، ويؤكدان أن الحارة هي موطن القيم ومصدر الشرف والأمانة والكفاية. ولا يقلقهم إطلاقا أن العالم يتقدم ويصعد إلى القمر والمريخ، وأن الحارة صارت مصدرا للعشوائية والقذارة، وباتت مقلبا للزبالة ومجرد خرابة لا تصلح حتى لمعيشة القطط والكلاب الضالة. لم يعد يقلقهم أن الكون يتقدم وفق منظومات قانونية وقيمية عامة وأن الحارة الكونية باتت أوسع بكثير ولديها متطلبات وضرورات واحتياجات تتناسب مع رقي الإنسان، بينما الحارة المصرية في الواقع مجرد صورة كئيبة وفقيرة وعشوائية، بل وتختلف اختلافا جذريا عن الحارة في الصورة الذهنية التي يصر على طرحا الكاتب أو السينمائي المصري بكل صورها الساذجة والمضحكة، وبطريقة كلام سكانها القدماء جدا، وبنفس التعبيرات التي لا يمكن أن يسمعها أحد إلا في المسلسلات والأفلام الحمقاء والروايات والقصص التافهة.

هناك مشاكل حقيقية في العقل المصري الذي لا يزال متوقفا عند عصور المماليك، وعند أفكار “الحكم وفق الشريعة” بصرف النظر عن الحاكم وشكل الحكم وأحوال الناس. ومن الواضح أن عدم القدرة على قبول الواقع أو عدم القدرة على تجاوز المسافة الواسعة بين موطئ قدم المصريين وبين الواقع الذي تجاوزهم، جعلهم ينكصون إلى الوراء، ويتمسكون بالماضي باعتباره الأفضل، وباعتباره المستقبل أيضا.

إن التكريس للقيم الرجعية والماضوية، وتمجيد الفقر وتبرير الهزيمة مؤشرات خطيرة على عطب ما في العقل (أداة النظر والتقييم والرؤية) يجب تحديده بدقة للخروج من هذا المأزق التاريخي- الوجودي الذي يقف عائقا أمام حركة عقل هذا الشعب، وأمام قبوله أي تغيير إلى الأمام. لماذا الإصرار على طرح التصورات الذهنية عن الحارة؟ ولماذا التمسك بفكرة الحارة وشكل الكلام وطريقة نطقه لدى سكان الحواري في الصور الذهنية وليس في الواقع؟ وما هي علاقة الحارة المصرية الحالية، بالحارة المصرية في الصور الذهنية، ولماذا كل هذا الإصرار والتصميم على طرحها بهذا الشكل الغريب الذي يمجد الفقر والجهل ويتمسك بالأخلاق وبمنظومة قيم ميتافيزيقية؟

أما السينما المصرية الغيبية صاحبة الخدع والضلالات منذ ستينيات القرن العشرين، وبالذات في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، وربما التسعينيات أيضا، فهي لا تختلف عما يطرحه الأدب، وعما تطرحه المسلسلات الحمقاء. وهذا لا يعنى إطلاقا أن السينما في مصر تحسنت بعد هذه الحقب الأربع، بل يمكننا أن نقول إنها انتهت، لأنها بنيت على رمال وضلالات. والكلام هنا ليس مطلقا حتى نتفادى السفسطة والنقاشات البيزنطية والاستثناءات، لأننا نتحدث عن تيار عام وسياق عام أفرزا كل تلك النتائج الكارثية.

لقد صفق “النقاد” والصحفيون و”المثقفون” لموجات الأفلام التي كان الفقراء يحصلون على حقوقهم في نهاياتها، ويذهب الظالمون إلى الجحيم والسجون ويتشردون ويسألون حق النشوق في نهاية كل فيلم. وظل الخونة والقتلة والفاسدون يموتون في الأفلام، وتنجح الشرطة في تعقبهم، ويقف القضاء شامخا ليعلن كلمة الحق. وتنتهي الأفلام بآيات قرآنية وأحاديث شريفة ومواعظ أخلاقية ووطنية. وبمجرد أن يخرج المشاهد من السينما، يستيقظ القتلة والسفاحون والظَلَمَة والفاسدون، تعود الأمور إلى نصابها، وينضح الواقع بما فيه.

دعونا من أن هذه الأفلام كرَّست للفقر ومدحت البدائية والابتذال والسكن المشترك ودورات المياه المشتركة والجوع، وصادرت الجمال لصالح القبح والسذاجة والأفكار الدينية والتفسيرات المتطرفة، ولم تخف التناقضات الطبقية، بل فعلت ما هو ألعن: قامت بخداع الناس وتضليلهم بالدين والوطنية لتذويب الفوارق بين الطبقات! واتضح أن الفقر أفضل من الثراء، والحياة في الحارة الجميلة الشريفة المتدينة أفضل من الحياة في القصور والفلل، لأن من يسكنونها فاسدون وقتلة ومجرمون وبتوع حشيش وخمرة ورقص وعربدة. وانتهينا إلى ما نحن فيه الآن: أي أن السينما لعبت دور المخدر والمضلل والسمسار وظلت تتلاعب بالناس جيلا وراء جيل إلى أن بنى طواغيت المال والسلطة والسياسية دولتهم المتوحشة التي ترعاها النخبة السياسية الحاكمة وتحميها بأجهزتها.. تلك الدولة عديمة الذوق وعديمة العقل وعديمة الجمال، تلك التي فقدت الإحساس تماما وانكبت كوحش كاسر لتشرب دماء الناس وتتاجر بعرقهم وبحياتهم وحياة أولادهم.

أصبحت لدينا صور ذهنية نضعها بدلا من الواقع. صرنا نهرب إلى الوراء، وإلى الماورائيات، ونجرد الأحداث، ونبررها بوجود صورة ذهنية أو كتاب دين أو حديث شريف من أجل أن ننفي الواقع وننكره ونؤكد أن هذا ليس الدين، لأن الدين الصحيح في الكتاب وفي أفكارنا التي نتداولها وفي الصورة الذهنية التي نؤمن بها، بينما ما يحدث في الواقع ليس الإسلام، وكل هؤلاء ليسوا إطلاقا مسلمين. كل مرة يتكرر المشهد، ولا أحد يعرف من هم المسلمون، ومن كل هؤلاء الذين يصلون في الجوامع ويسدون الطرق والشوارع أثناء الصلاة، ويتاجرون باللحم “الحلال”، ويفتحون البنوك الإسلامية، ويقفون على المنابر، ويأمروننا بطاعة أولي الأمر، ويحكمون وفق الشريعة، ويؤكدون طوال الوقت أن غيبياتهم أهم وأصدق من غيبيات الآخرين، مسيحيين كانوا أو يهود.

أفلام – سينما الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات خلقت أيضا صور ذهنية خادعة وتضليلية وقتلت المجرمين والإرهابيين وقضت على الفساد، وفيها قامت الشرطة بواجبها، وقام القضاة بواجباتهم، ونال اللصوص عقابهم. وعندما تخرج من باب السينما وتجد أن الواقع شيء آخر تماما وعلى العكس بزاوية 180 درجة، يقولون لك، إن هؤلاء ليسوا مصريين وليسوا مسلمين، انظر إلى الذين كانوا في الفيلم، هؤلاء هم المصريون الحقيقيون أبناء الحق والعدل والجمال والتقدم الذين يقفون ضد الظلم والفساد. وإذا أعيتهم الحيل، وأسعفتهم رواية أو قصيدة شعر أو حدوتة ساذجة عن شخص ما، يقولون لك “فين أيام الأسرة المصرية الجميلة، فاكر روايات أنيس منصور وإحسان عبد القدوس ومسلسل ليالي الحلمية؟! فاكر الأيام الحلوة لما كان المصريون يحبون بعضهم ويخافون على بعضهم ومابياكلوش حقوق بعض؟! فاكر الظباط والقضاة لما كانوا بينصروا الناس؟! فاكر لما فؤادة فتحت الهويس وفشخت عتريس؟! فاكر محمد أبو سويلم لما كانوا رجالة ووقفوا وقفة رجالة؟!”، بينما الواقع أمر آخر تماما مليء بالفساد والقمع والاستبداد والقبح وقلة الحياء، وعبث طواغيت المال الذين يحتمون بالدولة وبالشرطة وبالأجهزة، وضلالات القضاة والقضاء، وانحطاط المنظومة السياسية والإدارية، ومليء أيضا بملايين الفقراء والمعوزين الذين يتم مص دمائهم واستباحتهم واستباحة حياتهم وحقوقهم ومستقبل وحياة أولادهم باسم الدين تارة وباسم الوطن تارة.

كان هناك العديد من الأفلام، في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين وربما أيضا في التسعينيات، ينتهي بأن يقتل البطل زوجته التي تخونه مع الرجل الغني أو رجل الأعمال السُكَري الذي يلعب القمار ويسرق ويمارس الفساد. كان البطل يقتلهم متلبسين ويرجع مرة أخرى إلى الحارة لحياة الشرف والأمانة، ولصلاة الفجر حاضر، ولحب الوطن والفول والطعمية وساندوتشات المكرونة و”البتنجان” المقلي. لقد أشبعونا طوال سنوات عديدة بكل هذه الأفلام، وبالتوبة النصوحة والعودة إلى الرشد والصراط المستقيم. لكننا فوجئنا بأنهم كانوا يضللون الناس ويخدعونهم، وينصحونهم بأن يتصرفوا بهذا الشكل أو ذاك، لكي يمنحوا العصابات الجديدة من رجال الأعمال والأثرياء الفرصة لزيادة نفوذهم وثرواتهم وتكويم أموالهم، وبناء دولتهم وقانونهم وشرطتهم وقضائهم.

لن نتحدث عن أفلام الستينيات والسبعينيات والثمانينيات التي كانت تنتهي بآية من القرآن أو بحديث شريف أو بموعظة عن فضائل الفقر والحشمة والشرف وحب الوطن وطاعة الله ورسوله وأولي الأمر والعيش والطعمية والشقة المشتركة والحمام المشترك.