بدأت الحكاية في عام 1982 حين ابتكر عالم الرياضيات “ديفيد تشوم” مفهوم النقد الإلكتروني لأول مرة حيث نشر بحثًا بعنوان “التوقيعات العمياء للمدفوعات التي لا يمكن تعقبها” وفقًا لشكل جديد من التشفير. تطور الأمر تدريجيًا إلى أن تَلَقَفَه في عام 2007 شخص اسمه “ساتوشي ناكاموتو” الذي لم يعرف أحد حتى الآن هويته، ليُنشأ في 2010 سوقًا بالفضاء الإلكتروني لتداول أول عملة رقمية مُشفرة وهي “البيتكوين” وليكون أول المُتداولين هو “لازلو هانييتش” صاحب أغلى قطعتي بيتزا في التاريخ.

في 18 مايو 2010، وضع “لازلو” -وكان يعمل مُبرمِجًا في ولاية “فلوريدا” الأمريكية- مذكرة على أحد المُنتديات الإلكترونية طالبًا شراء قطعتين كبيرتين من البيتزا مقابل نحو 30 دولار أمريكي وكان الثمن المعروض هو 10 آلاف بيتكوين حيث كانت الوحدة الواحدة من البيتكوين تعادل في ذلك الوقت 0.003 دولار. تمت الصفقة يوم 22 مايو، وكانت تلك هي البداية التي دشنت واحدة من أخطر الأدوات المالية في العصر الحديث ليصير هذا اليوم عيدًا سنويًا يحتفل فيه المضاربون بميلاد تداول العملة الرقمية المُشفرة الأولى.

مَرت تحت جسر التاريخ مياهٌ كثيرة شهدت ميلاد الآلاف من أخوات البيتكوين، وأبلى خلالها قليل من المُضاربين بلاءً حَسنًا فأْثروا ثراءً فاحِشًا بينما حاقت بأغلبهم خسائر عظيمة بلغت حد الإفلاس.

وصل سعر البيتكوين في مطلع 2022 إلى الذروة حيث كانت الوحدة الواحدة تُتَداول بنحو 70 ألف دولار لتبدأ بعد ذلك في الانهيار التدريجي إذ وصل سعرها بنهاية الأسبوع الماضي إلى نحو 17.5 ألف دولار ثم ما لبثت إلا وقد ارتفعت (وقت كتابة هذه السطور ظُهر يوم السبت الموافق 14 يناير 2023) إلى 20.8 ألف دولار. كان الانخفاض الحاد في سعر البيتكوين راجعٌ بالأساس إلى تبني الاحتياطي الفيدرالي لسياسة رفع سعر الفائدة على الدولار لكبح جماح التضخم، فنتج عن ذلك أن قام حائزو تلك العملة ببيع ما يمتلكون منها بالأسواق حتى يستخدمون حصيلة البيع في إيداعات مصرفية تدر عليهم عائدات أعلى بسبب ارتفاع سعر الفائدة ما أدى إلى زيادة في العرض ونقص في الطلب على تلك العملة وهو ما أفضى في نهاية العام الماضي إلى تدهور سعرها لأدنى مستوياته.

لكن ما إن بدت في الظهور مؤشرات انخفاض بمعدل التضخم وبالتالي استبعاد احتمال قيام الاحتياطي الفيدرالي برفعٍ جديد لسعر الفائدة، بدأ الطلب على البيتكوين في الزيادة مرة أخرى عن عرضها مما أدى إلى ارتفاع سعرها مؤخرًا كما أسلفت.

المثير للشفقة والسخرية معًا أن الاستثمار في البيتكوين لم يعد مقصورًا على المضاربين الأفراد أو حتى الشركات والمؤسسات، بل امتد ليشمل قيام بعضٍ من الدول كالسلفادور التي بدأت منذ ثلاثة أشهر فقط في شراء تلك العملة حيث وصل مخزون السلفادور منها إلى 2,381 وحدة بمتوسط تكلفة قدره 43,357 دولار للوحدة الواحدة أي إن خسائر السلفادور إن أرادت الآن بيع ما قامت بشرائه ستكون في حدود 53 مليون دولار.

أما بالنسبة “للازلو” المسكين، فيمكننا القول إن ما قام بسداده لشراء قطعتي بيتزا منذ ما يقرب من الثلاثة عشر عامًا يساوى بأسعار هذه الأيام نحو 208 مليون دولار أي ما يزيد عن 6 مليار جنيه مصري وهو ما كان لِيُمَكِنه من شراء لا قطعتين من البيتزا، بل نحو 14 مليون قطعة.

يقوم العمل في العملات الرقمية المُشفرة على ما يسمى فنيًا بتقنيتي “سلاسل الكُتل” Block Chains و”الند للند” Peer to Peer حيث يقوم المتعاملون بالشراء والبيع مباشرةً باستقلالٍ وتساوٍ في المراكز استخدامًا لتلك العملة التي يراها ولا يلمسها أحد، إذ هي بعيدة تمامًا عن رقابة أي سلطة نقدية بأي مكان بالعالم.

كانت المسألة -إذن- في بدايتها تهدف إلى توفير الخصوصية وهو أمرٌ قد يبدو نبيلًا نوعًا ما، لكنه يثير كثيرًا من الريبة والشك من ناحية كونه يوفر سبيلًا آمنًا لأعمال مشبوهة، ناهيك عن أنه فتح بابًا للمضاربة على مصراعيه لا ينغلق إلا على خسائر فادحة.

تنبهت السلطات الرقابية في بعض الدول لخطورة البيتكوين وأخواتها، إلا أن دولًا أخرى مازالت تسمح بتداولها بمستويات متفاوتةٍ من الرقابةِ يسعى كثيرٌ من أباطرة المال إلى إلغائها أو التخفيف منها بوسائل مختلفة كان أغلبها غير شرعي فشملت -على سبيل المثال- تقديم تبرعات من بوابات خلفية لحملات انتخابية لمرشحي الرئاسة والمجالس النيابية في الولايات المتحدة لضمان عدم تصويتهم لصالح قوانين تُحكم الرقابة على تداولات تلك العملات وهو ما أوضحته بمقالٍ سابقٍ نُشر بموقع مصر360 عن سقوط الفتى المعجزة “سامويل بانكمان فرايد” الرئيس التنفيذي السابق لشركة بورصة العملات الرقمية المُشفرة FTX.

ما يهمني تسليط الضوء عليه في هذا المقال هو ما عَلِمتُه منذ فترةٍ أن عُملةً جديدةً قد أضيفت مؤخرًا إلى قائمة أخوات البيتكوين تحت إسم “إسلاميكُوين” التى كَتَب مُخترعوها -ويقع مركزهم الرئيسي في ولاية ديلاوير الأمريكية- على منصتهم الإلكترونية إنها “متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية”، وقاموا بوضع التعريف التالي لتلك العملة: “أكبر مشروع تكنولوجي إسلامي يعتمد تقنية البلوكتشين، ويشمل مجالات التكنولوجيا الحديثة، إضافة إلى مشاريع إعلامية وتجارية ومالية وأعمال الترفيه والأعمال الخيرية”، ثم ذَيَّلوا تعريفهم لها بشهادة من جهةٍ تُطلق على نفسها اسم “كريبتو حلال” جاء فيها: “يشهد مكتب كريبتو حلال أن مشروع إسلاميكُوين قد أخذ في الاعتبار الضوابط والمعايير والتوصيات الشرعية الصادرة عن مكتب كريبتو حلال للمراقبة والتدقيق الشرعي في جميع العقود وأن المشروع بعيد عن أي مخالفة شرعية محظورة. سيستمر مكتب كريبتو حلال في تدقيق إسلاميكُوين على أساس ربع سنوي لضمان الامتثال المستمر”.

ذَكَّرتني تلك التعابير بما كان يُطرَح من دعاياتٍ -تحت شعار ما يُسمى بالاقتصاد الإسلامي- للترويج لشركات توظيف الأموال بمصر في ثمانينات القرن الماضي وهي واحدة من أسوأ الممارسات المالية في تاريخنا الحديث. كنت حينها شابًا في العشريناتِ أكتب مقالات قصيرة غير منتظمة بمجلة الأهرام الاقتصادي وقت أن كان يرأس تحريرها الأستاذ الكبير “عصام رفعت”، مُنَبِهًا إلى مخاطر الاستثمار بتلك الشركات التي تتبع مُخطط “بونزي” الإجرامي الشهير وها أنا ذا أفعل وقد صرتُ شيخًا.

تشترك شركات توظيف الأموال مع “إسلاميكُوين” في أن كلاهما يضع “الإسلام” عنوانًا لمعاملاتٍ تجارية لا يعرف عنها أحد شيئًا ولا يوجد أي مبرر اقتصادي موضوعي لعوائدها الضخمة غير الواقعية، مجردُ بيتٍ من ورق يستغل الدين لأجل اقتناص حصة كبيرة من السوق المالي العالمي في أعمال تحيطها الشبهات برسمِ الغموض المُريب.

لا يخلو أمر”إسلاميكُوين” من بواعث الارتياب، فلا سلطات تراقب تداولاتها ولا يعرف طرفا تلك التداولات شيئًا عن بعضهما بما قد يكون ستارًا لأعمالٍ غير مشروعةٍ كتمويل الإرهاب وغسل الأموال والقرصنة الإلكترونية والتهرب الضريبي، بخلاف احتمالات تحقق خسائر لا حساب علميا لها. تطورت الأنماط الاقتصادية من النمط الزراعي (عمل الإنسان في الأرض) إلى النمط الإنتاجي (عمل الإنسان لإنتاج أدواتٍ تنتج سلعًا) ثم إلى النمط الإنتاجي المُرَكب (عمل الإنسان لإنتاج أدوات تنتج سلعًا كنشاط أساسي إلى جوارِ عمله في تدوير المال لينتج مزيدًا من المال كنشاط ثانوي) إلى النمط الإنتاجي الرَث (عمل الإنسان لتدوير المال لأجل أن يلد مالًا بالإضافة إلى عمله في استخراج الثروات الطبيعية كنشاطين أساسيين إلى جوار عمله لإنتاج أدوات تنتج سلعًا كنشاط ثانوي)، ومن الواضح أن الواقع قد تجاوز في عصر البيتكوين وأخواتها نمط الاقتصاد الرث إلى النمط الإنتاجي المُنحط الذي يَلدُ فيه الورق -مجرد الورق- مالًا، فما بالك وقد أضفى البعض على هذا النمط قداسةً غير مُستحَقة.

ويهمني في هذا السياق التنبيه والتأكيد على أن أحكام المادة 206 من قانون البنك المركزي المصري رقم 194 لسنة 2020 قد نصت على حظر إصدار العملات المُشفرة (ومن ضمنها “إسلاميكُوين”) أو النقود الإلكترونية أو الاتجار فيها أو الترويج لها أو إنشاء أو تشغيل منصات لتداولها أو تنفيذ الأنشطة المتعلقة بها دون الحصول على ترخيص من البنك المركزي، ويُعَاقَب من يخالف أحكام تلك المادة بالحبس والغرامة التي تتراوح ما بين مليون وعشرة ملايين جنيه مصري. بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من أنني أعارض دومًا إقحام المؤسسات الدينية فيما تقوم به مؤسسات أخرى من مهامٍ يأتي على رأسها تحديد مدى عدالة المعاملات المالية من خلال ما يتمتع به أعضاؤها من فهم وخبرة وما يتوافر لهم من معلومات وتفاصيل فنية، إلا أن أمانة العرض تقتضي أن أشير إلى أن “دار الإفتاء المصرية” كانت قد أعلنت في عام 2017 عدم جواز التداول بتلك العملات.

يستدعى الأمر أعلى درجات اليقظة والتنبه من كل أطراف المعادلة الاقتصادية، مستثمرين وباحثين وأصحاب رأيٍ وسلطات تنظيمية في ظل ظروف استثنائية شديدة الوطء يمر بها العالم حاليًا لا تحتمل ضياع أي قدرٍ من المال الذي قد يغامر به البعض طلبًا لمكاسب لا ضمان لتحققها من أجل تعويض خسائر فقدان قيمة معتبرة من مدخراتهم بالعملة المحلية. لم يتخلص “بونزي” من محتويات خزانة ملابسه القديمة، فعاد لارتداء جلبابه القصير وأطلق لحيته من 103 سنتر روود-ويلمنجتون بولاية ديلاوير، فالحذر ثم الحذر ثم الحذر.