أشعلت وفاة مهسا أميني، البالغة من العمر 22 عاما، في منتصف سبتمبر/ أيلول 2022 موجة شرسة من الاحتجاجات في جميع أنحاء إيران، قادها بشكل أساسي شبان وشابات ولدوا بين عامي 1990 و2010، والذين حملوا راية النضال من أجل الحريات السياسية والمدنية.
على عكس الاحتجاجات الأخرى التي اندلعت في إيران في السنوات الأخيرة، والتي ركزت على المطالبة بالتحسين الاقتصادي، تُظهر احتجاجات 2022 طابعًا سياسيًا واضحًا ومناهضًا للمؤسسة الحاكمة، وتتحدى وجود النظام الإيراني ذاته.
يشير تقييم استراتيجي، من إعداد الدكتور راز زيمت، الخبير في شؤون إيران في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS)، وفي مركز التحالف للدراسات الإيرانية في جامعة تل أبيب. إلى أن موجات الاحتجاج، التي أصبحت أكثر تكرارا وتطرفا، تسلط الضوء على المأزق الذي يواجهه النظام في مواجهة عمليات عميقة الجذور في المجتمع الإيراني.
للاطلاع على التقييم كاملًا.. اضغط هنا
يقول زيمت: يبدو، حتى الآن، أن النظام غير قادر على منع الاحتجاجات المستمرة، على الرغم من أن المتظاهرين يبدون أيضًا غير قادرين على زعزعة استقرار النظام. حتى إذا تمكنت السلطات الإيرانية من قمع الاحتجاجات، فمن المرجح أن تستمر مظاهر العصيان المدني.
اقرأ أيضا: “وضع ثوري بلا ثورة”.. ماذا بعد ثلاثة أشهر من الاحتجاجات في إيران؟
وأضاف: بمرور الوقت، يمكن أن تؤدي الاحتجاجات إلى تآكل شرعية النظام بشكل أكبر، وتقويض تماسكه الداخلي. وتقوية السخط حتى يشكل تحديًا كبيرًا لاستقرار النظام.
سلسلة من الاحتجاجات
في استعراض تاريخي، يلفت زيمت إلى ما أسماه بـ “فشل الجمهورية الإسلامية في تحقيق الأهداف المركزية للثورة، ولا سيما تخفيف الضائقة الاقتصادية وتوفير الحريات السياسية والمدنية”. باعتباره العامل الأساسي في العديد من موجات الاحتجاج منذ عام 1979، بما في ذلك الاحتجاجات الطلابية في عام 1999، والحركة الخضراء عام 2009، والاحتجاج الشعبي أواخر عام 2017 وأوائل عام 2018، ومظاهرات الوقود في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
وفي صيف عام 2021، اندلعت سلسلة من الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد بسبب النقص المتزايد في المياه والكهرباء. كما شهد مايو/ أيار 2022 مظاهرات احتجاجا على ارتفاع حاد في أسعار الطحين والزيت والبيض والدجاج ومنتجات الألبان، بلغت زيادات تصل إلى عشرات أو حتى مئات في المائة، بعد قرار الحكومة بإلغاء سعر الصرف الرسمي المخصص لاستيراد المواد الأساسية
أيضا، اندلعت الاحتجاجات في جنوب إيران بعد انهيار مبنى ميتروبول في عبدان في 23 مايو/ أيار، مما تسبب في مقتل العشرات من الأشخاص.
بالتالي، يلفت الخبير الإسرائيلي إلى أن احتجاجات سبتمبر/ أيلول 2022 “ليست سوى الأحدث في سلسلة المظاهرات التي اندلعت بوتيرة متزايدة في السنوات الأخيرة”.
يقول: على الرغم من أن المظاهرات ليست حدثا غير معتاد في إيران، فمن الممكن الإشارة إلى عدد من الاختلافات المهمة بين الموجة الأخيرة والاحتجاجات السابقة في العقدين الماضيين. أولها، الحجم والامتداد الجغرافي للاضطرابات الحالية مختلفان، مع انتشار الاحتجاجات إلى أكثر من 100 مدينة في جميع أنحاء إيران.
كما يختلف المظهر الاجتماعي الاقتصادي للمتظاهرين عن الماضي. في حين برز أفراد الطبقة الوسطى الحضرية في احتجاجات عام 2009، فإن معظم موجات الاحتجاج في السنوات الأخيرة -وخاصة احتجاج الوقود في عام 2019- قادها أشخاص من الطبقات الاجتماعية الدنيا. وبحسب معطيات المخابرات، المقدمة إلى لجنة الخارجية والأمن في المجلس الثوري، فإن معظم المعتقلين خلال أعمال الشغب تلك كانوا عاطلين عن العمل أو يعملون في وظائف منخفضة الأجر أو يفتقرون إلى التعليم.
دروس للقمع
في مقابل الفقراء الذين خرجوا في السنوات السابقة، قاد احتجاجات سبتمبر/ أيلول 2022 بشكل رئيسي شباب من فئات اجتماعية مختلفة. وبحسب معلومات مصدر أمني نشرت في صحيفة “جافان” المحافظة -الموالية للحرس الثوري- فإن 93% من المتظاهرين تقل أعمارهم عن 25 سنة.
أيضا، أشار المعلق السياسي المُعارض صادق زيباكلام، في مقابلة مع صحيفة اعتماد الإصلاحية، إلى الدور المركزي الذي لعبه الشباب والنساء والطلاب من الطبقة الوسطى الحضرية في الاحتجاجات. كما استشهد بالهدوء النسبي أثناء الاضطرابات في المناطق التي يسكنها إلى حد كبير الطبقات الفقيرة، بما في ذلك في طهران نفسها.
في الوقت نفسه، كانت هناك مجموعات أخرى بارزة أيضًا في الاحتجاجات: نساء من طبقات اجتماعية مختلفة وكذلك أقليات عرقية أو لغوية، وخاصة الأكراد والبلوش، الذين عبروا عن وجهات نظر مناهضة للمؤسسة الدينية.
يقول زيمت: يمكن التعرف على صلة مباشرة بين قيادة الاحتجاجات من قبل الشباب والشابات، وخاصة الطلاب، الذين لديهم وعي سياسي عالٍ، ويرفعون راية النضال من أجل الحقوق السياسية والمدنية، وبين أجندة الاحتجاجات التي تركز على القضايا السياسية والمدنية بدلاً من المطالب الاقتصادية.
وأضاف: كما هو الحال مع موجات الاحتجاج السابقة، استخدم النظام هنا أيضًا إجراءات قاسية لقمع المظاهرات. عززت السلطات قوات الأمن في وسط المدن باستخدام جميع الوسائل المتاحة -بما في ذلك الذخيرة الحية في بعض الحالات- واعتقلت آلاف المتظاهرين.
تابع: بناءً على الدروس المستفادة من الاحتجاجات السابقة، تم تنفيذ معظم القمع من قبل قوات إنفاذ القانون وميليشيا الباسيج شبه العسكرية. تمكنت السلطات من تفريق معظم مراكز الاحتجاجات دون تدخل كبير من قبل الحرس الثوري، كما اعتقلت نشطاء حقوقيين، ومشاهير عبروا عن دعمهم للمظاهرات، ونشطاء سياسيين بارزين، منهم فايزة هاشمي، ابنة الرئيس الأسبق كما تم اعتقال ما لا يقل عن 40 صحفياً، بينهم نيلوفر حميدي، مراسل صحيفة “شرق” الإصلاحية، الذي كان أول من نشر خبر وفاة أميني في المستشفى.
اقرأ أيضا: فورين بوليسي: بايدن لن يتمكن من تجنب الشرق الأوسط.. وإيران وإسرائيل ستحددان أجندته للعامين المقبلين
دروس من الاحتجاج
يؤكد الخبير الإسرائيلي أن فشل النظام المستمر في الاستجابة للمطالب السياسية والاجتماعية والاقتصادية العامة، وتفضيله لقمع المعارضة بدلاً من معالجة الأزمات، أدى إلى جعل موجات الاحتجاج في إيران أكثر تواترًا وتطرفًا.
يقول: أظهرت حركات الاحتجاج على مدى العقدين الماضيين، بوضوح، استعداد الإيرانيين للنزول إلى الشوارع مطالبين بمستقبل أفضل لأنفسهم ولأطفالهم. ومع ذلك، فإن موجات الاحتجاج في السنوات الأخيرة تبدو غير عادية في تواترها وفي طبيعتها الراديكالية، كما يتضح من حالات العنف والشعارات المناهضة للنظام.
كما يلفت إلى أن حقيقة أن الحركة الاحتجاجية يقودها جيل “زد” الذين ولدوا بين عامي 1990 و2010، تظهر بوضوح التغييرات الجارية في المجتمع الإيراني في العقود الأخيرة، وخاصة بين الشباب، مما أدى إلى انقسامات أعمق بين الشباب والنظام، وتشكل تحديا متزايدا للجمهورية الإسلامية.
يضيف: في السنوات الأخيرة، كانت هناك انتقادات شديدة لهذا الجيل، بما في ذلك السخرية والازدراء للشباب الذين يفضلون قضاء أوقاتهم في أماكن الترفيه والتسوق دون أي هدف جاد. وقد تم مقارنتهم بشكل غير مواتٍ بالجيل المولود في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي والذي قاد الثورة الإسلامية، أو أولئك الذين ولدوا في الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي والذين قادوا احتجاجات عام 2009.
وأكد أن “الميل اللافت للطبقة المتوسطة الحضرية الشابة للانخراط في أنشطة ليس لها أي غرض سياسي-اجتماعي قد وصفه نقادهم بأنه هروب سياسي. ومع ذلك، تُظهر المشاركة النشطة للشباب في الاحتجاجات الأخيرة أنه على الرغم من الجاذبية المتزايدة للفردانية والهروب من الواقع، إلا أنهم لم يعودوا مستعدين لقبول الاضطهاد السياسي والمدني من قبل السلطات، والقيود المفروضة على حريتهم، والوضع الاقتصادي المتدهور”.
أيضا، أثبتت الموجة الأخيرة من الاحتجاج أن النضال من أجل الحرية السياسية لم يتم التخلي عنه.
يشير زيمت إلى أن وفاة أميني كانت هي الدافع وراء المظاهرات “لكن الأسباب الجذرية تكمن في الاتجاهات العميقة في المجتمع الإيراني، وفي زيادة القمع السياسي، وفرض قواعد اللباس الإسلامي من قبل السلطات”.
النساء على خط المواجهة
أصبحت الحملة العامة ضد الحجاب الإجباري في السنوات الأخيرة واحدة من أبرز تعبيرات نضال المرأة الإيرانية من أجل المساواة في الحقوق.
يشير زيمت إلى أنه “على الرغم من إعادة فحص بعض السياسات المتعلقة بالمرأة على مر السنين في ضوء التغييرات السياسية وغيرها في المجتمع، لا تزال المرأة في إيران تعاني من التمييز المؤسسي القانوني الذي يؤثر على العديد من مجالات حياتها”.
وأضاف أنه في العقود الأخيرة، كان هناك وعي عام متزايد بهذا التمييز وتزايد الطلب على تغييرات في التشريعات، مثل القوانين التي تؤثر على المرأة في الخدمة العامة والسياسية، والالتزام بارتداء الحجاب.
تابع: يجب النظر إلى الكفاح ضد فرض الزي الإسلامي، وخاصة الحجاب، في سياق زيادة البعد العام عن الدين. إن التسييس الشديد للدين في إيران، وفشل النظام في حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الشديدة في البلاد، قلل من الدعم للنظام الثوري في العديد من قطاعات الجمهور، والأهم من ذلك – أضعف جاذبية الدين في نظر الجماهير.
وأشار إلى أنه في هذه المرحلة يبدو أن النظام غير قادر على منع استمرار الاحتجاجات، لكن في الوقت نفسه لا يملك المتظاهرون القدرة على تقويض أسس النظام.
وأكد أن تفضيل السلطات للقمع بدلاً من الاستجابة للمطالب العامة سيستمر في زيادة الغضب والإحباط العام، مما يوسع الشرخ الكبير بالفعل بين الجمهور، ولا سيما جيل الشباب، والنظام ومؤسساته، مما يؤدي إلى مزيد من العنف المتكرر.
وقال: حتى لو كانت السلطات قادرة على قمع موجة الاحتجاج الحالية، يمكن توقع المزيد من مظاهر العصيان المدني. قد يفتح التحدي الداخلي المتزايد للنظام الإيراني فرصًا جديدة للغرب لتعزيز التغيير السياسي في إيران.