في مقال عبر بعنوان “ويلات مصر الاقتصادية”، يصف الباحث الاقتصادي جون ماتشيرا مصر بأنها “بلد مضطرب”، بعد أن “أدى الاعتماد المفرط على واردات السلع والسياحة إلى تدمير آفاقها المالية مع الوباء، وحرب روسيا وأوكرانيا، اللتان أثرتا عليها”. بينما يرى أن “صندوق النقد الدولي والاستثمار الأجنبي المباشر ضوء محتمل في نهاية النفق”، على حد قوله.

يضيف ماتشيرا في المقال المنشور في “وورلد فينانس/ World Finance” أنه “في الأوقات الأفضل، كان المفترض لمصر أن تكون قوة سياسية واقتصادية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لكنها وعلى عكس ذلك، غرقت في أزمة اقتصادية عميقة لا تضع الدولة في حالة تأهب فحسب، بل إنها قللت من نفوذها في المنطقة”.

اقرأ أيضًا: أبواب الخروج من أزمة مصر (ملف خاص)

وينقل عن تيموثي كالداس، الزميل السياسي في معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط -مقره الولايات المتحدة، قوله إن الإدارة المصرية تمسك بزمام السلطة “ولكنها لا تريد تحمل المسئولية عن الفوضى الاقتصادية”. ويضيف أن الأسس الاقتصادية لمصر “كانت ضعيفة لبعض الوقت بسبب سوء الإدارة”.

ويضيف أنه على الرغم من أنه لا يمكن التقليل من آثار الغزو الروسي لأوكرانيا على الانهيار الاقتصادي في البلاد. إلا أنها “عملت فقط على كشف السوء الذي سبقها. وأن مصر حاليًا بحاجة إلى تغيير كبير في كيفية إدارة الاقتصاد، وتقليص كبير في التدخلات السياسية”.

فوضى نقدية

وفق “كالداس”، كان خروج طارق عامر، محافظ البنك المركزي المصري السابق، في استقالة مباغتة في أغسطس/ آب الماضي، أثر في مشهد الفوضى الذي بدا عليه المجال النقدي.

وبينما يصف الكاتب سياسات عامر النقدية بأنها سليمة، يؤكد أنه وقف عاجزًا أمام كم المشاكل الاقتصادية. بما في ذلك تشديد السياسة النقدية الذي ذهب سدى. فيما مع تولي حسن عبد الله رئاسة البنك المركزي بالوكالة، يعتقد “كالداس” أن بديله “يهدف إلى تقديم إشارة إلى صندوق النقد الدولي والجهات الفاعلة في السوق الدولية، بأن الحكومة المصرية مستعدة للابتعاد عن التلاعب الخفي بالجنيه المصري الذي قام به عامر”.

يقول كالداس: “لسنوات، أصر عامر على أن الجنيه المصري يتم تعويمه بحرية. بينما كان الجميع يعلم أنه ليس كذلك”. ويؤكد ماتشيرا: “بكل المقاييس، تمر أكبر دولة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا -من حيث عدد السكان- بفترة عصيبة”.

لكنه يشير في مقابل ذلك إلى تأكيدات الحكومة المصرية على أن الأزمة لم تدمر الاقتصاد بشكل كبير. إذ تُظهر بيانات حكومية أنه في السنة المالية 2021-2022، توسع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 6.2% ومن المتوقع أن ينمو بنسبة 5.5% في السنة المالية 2022-2023.

ويتوقع صندوق النقد الدولي نموًا أقل بنسبة 4.8%، بعد خفض توقعاته من توقعات سابقة عند 5%. حيث يقاس الناتج المحلي الإجمالي لمصر بالسنة المالية من يوليو/ تموز، إلى يونيو/ حزيران. ومع ذلك، فإن الأرقام لا تروي قصة الضائقة الاقتصادية في مصر.

المصدر: صندوق النقد الدولي
المصدر: صندوق النقد الدولي

تبعات ضخمة

يشير ماتشيرا إلى أن مصر، التي كانت في عام 2020 من بين الدول القلائل التي نجت من الركود بسبب الوباء، ظهرت كواحدة من أكبر ضحايا الصراع في روسيا وأوكرانيا.

يقول: “بصفتها مستوردًا رئيسيًا لكل من الوقود والسلع الغذائية، ومع اعتماد كبير على السياح من أوروبا الشرقية، اضطرت البلاد لتحمل وطأة الصراع”.

فبشكل عام، تستورد مصر 62% من احتياجاتها من القمح. بينما تحصل على 82% من هذه الاحتياجات من كل من روسيا وأوكرانيا.

وفي عام 2021، ساهمت أوروبا الشرقية بأكبر شريحة من السياح إلى مصر. حيث استحوذت على نصف ثمانية ملايين سائح زاروا البلاد، وفقًا لبيانات حكومية.

أيضا، أثّر ارتفاع أسعار النفط الخام بسبب الغزو على مصر بشدة. فبمتوسط ​​120 مليون برميل من واردات النفط الخام سنويًا، تضاعفت فاتورة الاستيراد، لتصل إلى 15 مليار دولار.

يوضح الباحث الاقتصادي ماتشيرا أن الزيادة “قضت على الفوائد المتراكمة من صادرات الغاز الطبيعي، والغاز الطبيعي المسال (8 مليارات دولار للسنة المالية 2021-2022). وبالتالي، فشلت البلاد في سد الفجوة الواسعة في ميزان المدفوعات” .

اقرأ أيضًا: هيومن رايتس: الأزمة الاقتصادية تزيد ملف حقوق الإنسان في مصر سوءًا

تقلبات وضغوط

ولأن الاقتصاد المصري من أكثر الاقتصادات عرضة للحرب في أوكرانيا، نظرًا لموقعها كمستورد صاف للسلع الأساسية، يوضح جيمس سوانستون، الخبير الاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا -في “كابيتال إيكونوميكس” مقرها المملكة المتحدة- أن هذا “جعل البلاد أكثر عرضة لخطر التقلبات الكبيرة في أسعار السلع الأساسية”.

يقول: “تفاقمت الضغوط في ميزان المدفوعات -التي كانت موجودة بالفعل في أعقاب الوباء- ما جعل لحرب بوتين آثارًا مدمرة على مصر. فقد شهدت البلاد ارتفاعًا في معدلات التضخم، وانهيارًا للعملة المحلية، واتساعًا بعجز التجارة والميزانية، وتضاءلت ​الاحتياطيات الأجنبية، وتفاقمت أعباء الدين العام، وتزايد الفقر، وضعفت القدرة التنافسية للقطاع الخاص”.

وقد بلغ معدل التضخم السنوي في أغسطس/ آب 15.3% مقارنة بنسبة 6% في نفس الشهر من العام الماضي.

يوضح سوانستون: “لطالما احتاجت مصر إلى اعتماد نظام سعر صرف أكثر مرونة وأضعف، لامتصاص الضغوط الخارجية، وتجنب إعادة بناء الاختلالات الخارجية”.

فقر شديد

بصرف النظر عن الآثار المتتالية الناتجة عن ضعف العملة، تؤكد الأرقام أن الفقر في ازدياد. إذ ما يقرب من ثلث سكان مصر -البالغ عددهم 104 ملايين نسمة- يعيشون في فقر.

يقول كالداس: “تفاقمت محنة البلاد بسبب الديون، التي تراكم أكثرها عن طريق الاقتراض لتمويل مشاريع غير ضرورية، بالإضافة إلى واردات الأسلحة المفرطة”. وهو يرى أن الحكومة تحتاج إلى أن تكون أكثر حذرًا بشأن أولويات الإنفاق لديها، وإخضاع أي مشروع جديد لتحليل التكلفة، والعائد المدروس جيدًا، والذي يظهر أن مثل هذا الإنفاق يستحق العناء.

ومع بلوغ الدين الخارجي حاليًا 157.8 مليار دولار، تنفق مصر ما يقرب من نصف إجمالي إيرادات الدولة لخدمة هذا الدين.

وقد تفاقمت المشكلة بسبب انخفاض نسبة الضريبة إلى الناتج المحلي الإجمالي. بينما أدى ضعف العملة أيضًا إلى ارتفاع تكلفة خدمة الدين المقوم بالعملة الأجنبية.

ويقدر خبراء الاقتصاد الرأسمالي أن انخفاض قيمة العملة المحلية أدى إلى ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3-4% من الناتج المحلي الإجمالي. بينما المزيد من إضعاف الجنيه لن يؤدي إلا إلى زيادة الضغط المتصاعد.

اقرأ أيضًا: “التعويم” يغرق المصريين مجددًا.. وصايا الصندوق تهوي بالجنيه لأدنى مستوى في تاريخه

مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا ومحافظ البنك المركزي حسن عبد الله ووزير المالية محمد معيط (وكالات)
مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا ومحافظ البنك المركزي حسن عبد الله ووزير المالية محمد معيط (وكالات)

إيجاد مخرج

بالنسبة لمصر، يعد الخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية مسألة ملحة. تجنبًا لفوضى اجتماعية جديدة، وفق ما يحذر منه “ماتشيرا”، الذي يقول إنه لهذا السبب، تنفذ الحكومة استراتيجيات لإخراج البلاد من الأزمة، على رأسها السعي وراء خطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي.

يقول: “مصر متفائلة بأن صندوق النقد الدولي سيوافق قريبًا على حزمة تمويل تتراوح بين 5 و6 مليارات دولار. وزاد التفاؤل بتأكيد المدير العام لصندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، في أكتوبر/ تشرين الأول بأن الصفقة باتت وشيكة”.

وكانت مصر تأمل في المزيد من النظر في أن الحزمة تغطي ما يقرب من 10% من احتياجاتها التمويلية في العام المقبل. ومع ذلك، فإن حزم التمويل السابقة تعني أن مصر قد اقترضت بالفعل من صندوق النقد الدولي بما يصل إلى 223% من حصتها – يضع صندوق النقد الدولي حدًا أعلى للاقتراض عند 435% من حصة البلد-.

اقرأ أيضًا: مصر وصندوق النقد يتفقان على القرض المنتظر.. الشروط والمحاذير

يقول “ماتشيرا” أن ذلك سيعيد الجدارة الائتمانية للبلاد ويهدئ المخاوف من التخلف عن السداد على المدى القريب. خاصة بعد أن خفضت وكالة التصنيف موديز توقعاتها بشأن التصنيف الائتماني لمصر إلى سلبي في مايو/ أيار الماضي.

بينما يلقت إلى استراتيجية أخرى تنفذها الحكومة لإخراج الاقتصاد من المأزق، وهي الخصخصة. حيث تأمل الدولة في جمع 10 مليارات دولار من خلال التخلص من حصص في الشركات المملوكة للحكومة سنويًا على مدى السنوات الأربع المقبلة.

وبالفعل، في أغسطس/ آب الماضي، تعهد صندوق الاستثمارات العامة السعودي بمبلغ 1.3 مليار دولار للاستحواذ على حصص في أربع شركات مملوكة للدولة.

كذلك، فإن مصر تسعى خلال فترة السنوات الأربع القادمة على جذب تدفقات كبيرة للاستثمار الأجنبي المباشر، بهدف جذب 10 مليارات دولار سنويًا، مع زيادة صافي الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 183% في الربع الأول من عام 2022، ليصل إلى 4.1 مليار دولار مقارنة بـ 1.4 مليار دولار في نفس الفترة من عام 2021. حيث تعتقد الدولة أن الاستثمار الأجنبي المباشر يمكن أن يكون محركًا أساسيًا للانتعاش الاقتصادي.