يضر الفساد بالفقراء، ويقلل فرص التنمية، ويعوق الاستثمار الأجنبي، ويقوض قدرة الحكومة على تقديم الخدمات الأساسية. كما يحمل مضامين من التحيز والظلم. وهو يعد عنصرًا رئيسيًا في تدهور الاقتصاد، وعقبة في طريق التنمية وتحقيق النمو ومكافحة الفقر.

هل تواجه مصر أزمة فساد؟

بينما يُعرف الموقع الرسمي لاستراتيجية مكافحة الفساد، الفساد بأنه “إساءة استغلال السلطة المخولة لتحقيق مكاسب خاصة”، يؤكد الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال افتتاحه عددًا من المشروعات بمحافظة سوهاج مطلع الشهر الجاري: “سبب المشكلة لا فساد حكومة ولا فساد نظام إداري”. في وقت يُرجع سبب الأزمة إلى الزيادة السكانية وأزمة الحرب في أوكرانيا.

معلوماتيًا، تأتي مصر في المركز 117 عالميًا من أصل 180 دولة في مؤشر مكافحة الفساد لعام 2021. ذلك المؤشر الذي يقيس مستوى وجود الفساد بين الموظفين في القطاع العام، ويستخدم مقياسًا من صفر إلى 100، حيث يكون الصفر الأكثر فسادًا و100 الأكثر نزاهة. وقد حصلت مصر على 33 درجة.

أما عربيًا، جاءت مصر في الترتيب الـ11 بعد كل من الإمارات -التي احتلت المرتبة 24 عالميًا- وقطر 31، والسعودية 52، وسلطنة عمان 56، والأردن 58، وتونس 70، والكويت 73، والبحرين 78, والمغرب 87، والجزائر  117.

اقرأ أيضًا: الديمقراطية ومكافحة الفساد في مصر.. «محلك سر»

زمنيًا، اتخذت الدولة المصرية خلال السنوات الأخيرة، إجراءات ملموسة في مكافحة الفساد، بدأت عام 2014، بإطلاق المرحلة الأولى من الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، والتي امتدت حتى 2018. ثم المرحلة الثانية، التي استغرقت أربع سنوات حتى عام 2022. ثم المرحلة الثالثة. وتبدأ من العام الحالي 2023 إلى 2030. وقد وضعت ثلاث محددات رئيسية لها هي المشاركة والشمول والشفافية.

 المرحلة الثالثة من الاستراتيجية، والتي تهتم بتوسيع دائرة المشاركة المجتمعية، تعتمد على خمسة محاور أساسية، هي: تحديث جهاز إداري كفء للمواطن والمستثمر، وبنية تشريعية تدعم مكافحة الفساد وناجزة للعدالة، وجهات قادرة على ضبط الفساد وإنفاذ القانون، وخلق إطار لتمكين الشباب وخلق ثقافة رافضة للفساد لتحقيق الأهداف القومية في بيئة وطنية نزيهة تكافح الفساد، مبادئها الأساسية النزاهة والشفافية، المشاركة، سيادة القانون، المساواة، والمسائلة. 

نخبوية التوجه

الدكتور عبد الحميد كمال، البرلماني السابق وخبير الإدارة المحلية الاستراتيجية، يصف محطات الاستراتيجية بأنها نخبوية تخاطب مجموعة من الشخصيات العامة. بينما لابد -بحسب قوله- أن تستهدف المواطن العادي، لتحقيق التنمية المستدامة، بنشر الوعي بالمدارس والجامعات بين الطلاب، لا قصرها على مجرد عقد ندوات لمجموعات منتقاة.

الدكتور عبد الحميد كمال البرلماني السابق وخبير الإدارة المحلية الاستراتيجية
الدكتور عبد الحميد كمال البرلماني السابق وخبير الإدارة المحلية الاستراتيجية

وأخذ “كمال” على مرحلتيها الأولى والثانية، غياب الشفافية.

يقول إنه رغم تصدر الرقابة الإدارية المشهد، فإن التقارير التي صدرت لم تشمل أي معلومات أو مؤشرات عن عدد القضايا وحجم الأموال التي تم استردادها، كالأموال التي تم مصادرتها من جماعة الإخوان المسلمين. ويتساءل: أين ذهبت هذه الأموال؟ هل تحولت إلى خدمات؟

يقول “كمال”، لـ”مصر 360″، إن اللجنة المعنية بالاستراتيجية لم تقدم أي تقارير إلى البرلمان لمناقشتها، ومراقبة الأموال التي تمت مصادرتها، ومعرفة كيف يتم تدويرها. وهو يرى ضرورة الإعلان عن التحديات والإنجازات، لأن من حق المواطن معرفة ما تم ضبطه من فساد داخل كل قطاع على حدة، لإحداث ردع عقابي، وتشجيع الناس على المشاركة في كشف الفساد.

ويبيّن الدكتور سمير عبد الوهاب، أستاذ الإدارة العامة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، أن الاستراتيجية في مراحلها الثلاثة تركز على الفساد في القطاع الحكومي، في محاولة من الدولة للالتزام باتفاقية الأمم المتحدة الصادرة في 2003 وانضمت إليها مصر في 2004 بوضع البنية التشريعية لمكافحة الفساد.

الدكتور سمير عبد الوهاب أستاذ الإدارة العامة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة
الدكتور سمير عبد الوهاب أستاذ الإدارة العامة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة

دور أكبر للجهات الرقابية

يقول عبد الوهاب: “التزمت الدولة بإنشاء الهيئات العامة والمستقلة لمكافحة الفساد، عن طريق تغيير البنية الأساسية لهيئة الرقابة الإدارية وتعديل القانون الخاص بها ونقل تبعيتها من مجلس الوزراء إلى رئاسة الجمهورية. وهو أمر أتاح لها دور أكبر مكنها من القبض على حالات لم نسمع عنها من قبل، مثل بعض الوزراء والمحافظين السابقين، وتبعه إصدار قانون الخدمة المدنية رقم 81 لسنة 2016 الذي يؤكد على النزاهة والموضوعية في التعيين والاختيار والتقييم بالنسبة للعاملين”.

وهو ما يؤيده الكاتب الصحفي مصباح قطب، عضو اللجنة الأهلية لمكافحة الفساد سابقًا، أن المرحلة الثالثة من الاستراتيجية تتميز بحماس لم يكن موجودًا في مرحلتيها الأولى والثانية، بتركيزها على تكوين جهات قادرة على ضبط الفساد وإنفاذ القانون، لصعوبة محاسبة المسئولين في الدولة في ظل الوضع الحالي، لعدم التنسيق بين الأجهزة التي تتصدى لمكافحة الفساد، إضافة إلى التنافس الشديد والشد والجذب داخل الجهاز الإداري المليء بالاختلالات.

الكاتب الصحفي مصباح قطب عضو اللجنة الأهلية لمكافحة الفساد سابقًا
الكاتب الصحفي مصباح قطب عضو اللجنة الأهلية لمكافحة الفساد سابقًا

يشير “قطب” إلى معضلة إحالة أي مسئول للتحقيق من قِبل الوزير المختص، والذي لا يملك سلطة العزل ولا الإحالة للتحقيق والمسائلة.

عن الاستراتيجية

الفساد آفة اجتماعية متعددة الأطراف، يمتد إلى الدوائر الرسمية والخاصة، ويحتاج التعاطي معه إلى دور اجتماعي تشاركي، يتسق مع المعايير والتخطيط الاستراتيجي لمكافحة الفساد، والنهوض بالمجتمع ليدرك أهمية مكافحة الفساد لخلق بيئة رافضة ومراقبة له.

يقول “عبد الوهاب” وهو أيضًا مقرر لجنة الإدارة المحلية بالحوار الوطني لـ”مصر 360″: “إن الدولة اهتمت بتشخيص المشاكل في المرحلة الأولى من الاستراتيجية، وسلطت الضوء على أسباب الفساد الاقتصادية والاجتماعية والقانونية”.

ويضيف أن الدولة ركزت على أهم أسباب الفساد، منها غياب العدالة الاجتماعية، وقصور الجهاز الإداري والهياكل التنظيمية، تداخل الاختصاصات، ضعف الرقابة والوساطة والمحسوبية، ضعف المنظومة القانونية، وانتشار السلوكيات السلبية.

واعتبر “عبد الوهاب” ذلك اعترافًا من المسئولين بوجود أسباب حقيقية للفساد. ما يعكس اهتمام الدولة وتوافر الإرادة السياسية لإزالة هذه الأسباب.

بينما يشير الدكتور أحمد صقر عاشور، أستاذ الإدارة بجامعة الإسكندرية والخبير الدولي في الحوكمة والإصلاح المؤسسى ومكافحة الفساد، إلى أن التضخم الاقتصادي وضعف الأجور وتآكل الدخل أحد الأسباب الرئيسية لانتشار الفساد في مصر، وضعف الثقة في الحكومات.

الدكتور أحمد صقر عاشور أستاذ الإدارة بجامعة الإسكندرية
الدكتور أحمد صقر عاشور أستاذ الإدارة بجامعة الإسكندرية

أهداف الاستراتيجية

يشير “مصباح” إلى أن المراحل الأولية للاستراتيجية ارتكزت في تقييم الأهداف على التوعية والتثقيف. وهو أمر لا يمكن احتسابه على أنه إنجاز في عملية المكافحة. متوقعًا أن تشهد مرحلة الانتقال إلى الرقمنة واستخدام التكنولوجيا في الحصول على الخدمات إلى تقليل فرص الفساد الإداري.

بينما يرى “عاشور” أنه لابد وأن تكون عملية تقييم الأهداف قابلة للقياس على أرض الواقع، بالتجاوز عن الأخطاء المنهجية السابقة في المراحل الأولى، ووضع نظم معالجة متخصصة مع كل بيئة لفك عمليات التكيف مع الفساد لسنين طويلة.

ويشير “عبد الوهاب” إلى ضرورة فك التشابك بين الوزارات وازدواجية الاختصاصات للقضاء على التهرب من المسئولية، وتوضيح الأدوار بدقة. لافتًا أن الدولة بدأت بالفعل بوضع هياكل تنظيمية للإدارات سوف تستكمل على مستوى المحافظات.

آليات المكافحة

تركز الاستراتيجية في مكافحة الفساد على موظفي الحكومة، وتتجاهل الأطراف الأخرى. إذ أن هناك دوائر عالية للفساد. خاصة في العمل السياسي. كالانتخابات وما يقدمه المرشحون للناخبين. ربما هي الأكثر خطرًا. حيث يسيطر الفساد على السياسة العامة ويوجهها لصالح مجموعة معينة.

يبين “قطب” أن عملية الفساد تشمل المعينين والمنتخبين؛ لأنه نوع من إساءة استخدام السلطة العامة أو الخاصة لتحقيق مكاسب شخصية.

ويشير “عاشور” إلى أن الفساد يأخذ أشكالًا وصورًا متعددة حسب البيئات التي ينشأ فيها. فأسباب الفساد في التعليم مختلفة عنها في قطاع الصحة.

لذلك، فإن تصنيف الفساد ورصده وبيان حجم انتشاره يتطلب عمل دراسات مؤسسية وقطاعية لتحليل مخاطر الفساد وأسبابه. ثم وضع آليات معالجة بكل قطاع على حدة. لأن فرض آليات معالجة واحدة على كل أنواع الفساد لا تأخذ به الدول منذ 10 سنوات، في رأي “عاشور”، الذي يعتبر ذلك خطأ استراتيجيًا في المنهج في المراحل السابقة للاستراتيجية.

ويعود “قطب” ليوضح أن الاستراتجيات القطاعية في معالجة الفساد تأخذ وقتًا طويلًا. فكل وزارة فيها لجنة لمكافحة الفساد ولا تمانع أن تكون المكافحة قطاعية. لكن المشكلة تكمن في أن هذه اللجان شكلية. إذ لابد أن تكون لإدارة التفتيش وإدارة التحقيقات سلطة الإحالة إلى الرقابة الإدارية مباشرة.

التشريعات

تعد التشريعات أحد أهم الأدوات الداعمة لمنع ومكافحة الفساد. فعلى الرغم من أن الاتفاقيات الدولية والإقليمية توفر الأطر العامة التي تعمل من خلالها الدول لمكافحة الفساد. إلا أن إعداد البنية التشريعية الموائمة للسياق الاجتماعي والثقافي والاقتصادي مسئولية الحكومات الوطنية، وفقًا لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.

وتعد كفاءة الجهاز القضائي وفاعليته أحد هم آليات محاربة الفساد. ويتطلب الوضع المصري إصدار قانون لحماية المبلغين والشهود، وحرية تداول المعلومات، ويحتاج لتوسيع صلاحيات المحافظين والوزارات والجامعات ومؤسسات المجتمع المدني ليكون لديها القدرة على إنفاذ القانون.

وقد نصت اتفاقية الأمم المتحدة على مشاركة المجتمع المدنى والجمعيات الأهلية فى مكافحة الفساد والإبلاغ والسماح لها بلعب دورفى تطبيق القانون بالممارسة. يقول “عاشور” إن “تشكيل لجان المتابعة بالجمعيات والهيئات غير مفعلة، لم تجتمع مطلقًا ولم تمارس أي نشاط متعلق بتدريب المواطنين وتشجيعهم على الإبلاغ عن وقائع الفساد”. وهو يرجع ذلك إلى القصور التشريعي الذي يسمح لها بالقيام بهذا الدور.

اقرأ أيضًا: قراءة في خطة الحكومة للتعامل مع الأزمة المالية: لا حديث عن سد النهضة ومكافحة الفساد

يتفق مع هذه الرؤية، الدكتور سمير عبد الوهاب، وهو يرى قصورًا تشريعيًا فيما يتعلق بمكافحة الفساد. يقول: “ما زلنا في حاجة لإصدار قانون يسمح بحرية تداول المعلومات، وتبسيط الإجراءات القانونية، وتوعية المواطنين بحقوقهم تجاه الجهاز الإداري”.

“نحتاج للاهتمام بحقوق الإنسان، ولامركزية القرار، ووجود مجالس محلية منتخبة تمثل المواطنين تمثيلًا حقيقيًا، يمكن من مكافحة الفساد وتفعيل دور المجتمع المدني وتمكينه من مشاركة الأجهزة الرسمية في الرقابة بتوفير الدعم من القيادة السياسية، وإتاحة المعلومات للجهات الرقابية بما يسمح لها بتعبئة وتوعية المواطنين بحقوقهم وواجباتهم ومساندتهم في قضايا الفساد التي يتعرضون لها كمواطنين”.

وهنا، يؤكد “قطب” على أهمية إصدار قانون حماية المبلغين والشهود في مكافحة الفساد، وتعديل اللوائح بالإدارات والقطاعات لتحقيق استقلالية الأجهزة والتكامل فيما بينها، بما يسمح بالاطلاع على المعلومات اللازمة للمراقبة والمتابعة على الأموال وتتبع مصادرها، وعمليات التهرب الضريبي.

ويضيف عبد الحميد كمال، البرلماني السابق، أن تأخر إصدار قانون حماية المبلغين والشهود يعطل عملية المكافحة. لأن الوضع الحالي يهدد أمن المبلغ والشهود ويجعلهم عرضة للابتزاز والتهديد والتعسف والنقل من وظائفهم. وهو يقترح إضافة مادة إلى القانون الجنائي؛ مادة” للتجريس”، وهو ما يشكل طريقة تعمل بها بعض الدول ضد الموظفين الكبار الفاسدين لتحقيق الردع.