تتوقع الأمم المتحدة أن تصبح الهند خلال العام الحالي، أكبر دولة من حيث تعداد السكان، بعدما سجلت أكبر نمو سكاني في العالم عام 2022، ليصل عدد سكانها إلى مليار وأربعمائة مليون نسمة، وهو ما رشحها لأن تتفوق على الصين من ناحية التعداد خلال شهور، مع ذلك لم نسمع أحدا من مسئوليها يوجه خطابا يعاير فيه الشعب الهندي على عدم قدرته على تنظيم النسل، ولم يخرج أي وزير هندي ليلقي بتبعة أي أزمة تمر بها تلك البلاد على شماعة الزيادة السكانية كما يحدث في بلادنا التي درج حكامها على تحميل عاقبة الإخفاق والفشل على الشعب الذي لا يتوقف عن الإنجاب.
رغم تراجع معدلات الإنجاب في مصر من 3.5 مولود لكل سيدة عام 2014 إلى 2.85 مولود لكل سيدة عام 2021، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، إلا أن السلطة تصر على أن الزيادة السكانية هي السبب الأول في تراجع معدلات التنمية وانخفاض مستوى معيشة المواطنين، وتروج عبر منصاتها الإعلامية أن انهيار مستوى كفاءة الخدمات الحكومية من تعليم وصحة وإسكان يعود إلى التفاوت الكبير بين موارد الدولة المحدودة وعدد السكان المتصاعد، وليس بسبب توجيه تلك الموارد إلى قطاعات ومشروعات ثبت للجميع عدم جدواها على المدى المنظور.
الأسبوع الماضي عرضت إحدى الفضائيات العربية تقريرا مصورا، استهلته بتصريح سابق لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي يتعهد فيه بتحويل بلاده إلى دولة متقدمة بحلول عام 2047، وأشار التقرير إلى أن اقتصاد المستعمرة البريطانية السابقة أصبح خامس أكبر اقتصاد في العالم متجاوزا اقتصاد بريطانيا التي تخلفت إلى المركز السادس، مع توقعات بتجاوز حجم الاقتصاد الهندي اقتصاد ألمانيا عام 2027 وبعدها بعامين اقتصاد اليابان، حينها ستصبح الهند القوة الاقتصادية الثالثة بعد الولايات المتحدة والصين.
التقرير عزا التقدم الاقتصادي الهندي إلى الثروة البشرية التي تتمتع بها تلك البلاد والتي غزت بمواطنيها دول العالم فتقلد هؤلاء مواقع وظيفية هامة في شركات البرمجة والاتصالات والتعهيد الدولية.
ووضع التقرير أسماء وصور مدراء تنفيذيين هنود لأكبر الشركات التكنولوجية في وادي السليكون بالولايات المتحدة «يدير الرؤساء التنفيذيون الهنود 44 شركة عامة بقيمة سوقية إجمالية تبلغ 5.5 تريليون دولار» وفق دراسة أجرتها Global Indian Times.
ويرأس الهنود 10 شركات عامة بقيمة سوقية 585 مليار دولار، أضف إلى ذلك إدارة رؤساء تنفيذيين لـ8 شركات خاصة كبيرة ومتوسطة الحجم تقدر قيمتها بنحو 255 مليار دولار.
«الهنود يمتلكون ويديرون عدة آلاف من الشركات الخاصة الصغيرة في الولايات المتحدة، من متاجر بيع الصحف والمشروبات الباردة والموتيلات والفنادق إلى عيادات الأطباء وأطباء الأسنان»، يشير تقرير لشبكة «CNBC».
ويلفت التقرير النظر إلى أن معظم الرؤساء التنفيذيين الهنود درسوا الهندسة، وكثير منهم من خريجي المعاهد الهندية للتكنولوجيا (IIT)، ويعرض على سبيل المثال لا الحصر عددا من أسماء المهندسين والتقنيين الهنود الذين قادوا شركات عالمية مثل (Google، Alphabet، Adobe، Microsoft، وIBM) وغيرها من الشركات الناجحة. لم يكتف هؤلاء بوظائفهم في تلك الشركات بل تمكنوا من امتلاك نسب معقولة من أسهمها بفضل كفاءتهم وجهدهم وتعليمهم الجيد.
حدد الهنود منذ عقود هدفهم، فذلك البلد الذي عانى سكانه من أمراض التخلف والجهل والعوز، لم يقف على قدميه ويتمكن من رفع مستوى معيشة أبنائه إلا بالتعليم والإدارة العلمية الرشيدة لمورده الأهم «البشر».
تمكنت الحكومات الهندية المتعاقبة من استثمار ثروة بلادهم البشرية لصناعة تنمية حقيقة في شتى القطاعات، نقلوا إلى بلادهم تكنولوجيا صناعة البرمجيات والأجهزة اللوحية والهواتف الذكية حتى صارت الهند من أكبر مصدري هذه التكنولوجيا في العالم، كما نجحوا أيضا في تصدير موردهم البشري المدرب الذي أجاد وعمل بكد في كل المجالات وحول إلى بلاده عوائد مالية ضخمة بالعملات الأجنبية مما جعل الهند تتصدر دول العالم في تحويلات المواطنين العاملين بالخارج العام الماضي.
قدر آخر تقرير للبنك الدولي عن الهجرة والتنمية تحويلات المغتربين حول العالم بـ 794 مليار دولار أميريكي في عام 2022، التقرير كشف أن هذا العام سيكون عاما لا يُنسى بالنسبة للهند، إذ إنه ولأول مرة في التاريخ، تسجل دولة واحدة وهي الهند تلقي تحويلات مالية سنوية تفوق قيمتها الـ100 مليار دولار، ما جعلها تحتل المرتبة الأولى في قائمة أكبر الدول المتلقية للتحويلات المالية من المغتربين، والسبب الجوهري في بلوغ هذا الرقم بحسب الخبراء هو التطور الذي حدث في خصائص العمالة الهندية بالخارج خلال العقد الأخير. أما مصر فجاءت في المركز الخامس بتحويلات بلغت نحو 32 مليار دولار بحسب نفس الإحصاء.
كانت العمالة الهندية المهاجرة ترتكز في السابق على المهارات اليدوية التي لا تحتاج إلى مستوى عال من التعليم والتي تحقق مردودا ماليا منخفضا، إلا أنه خلال الحقبة الأخيرة حدث تغيير جوهري «باتت الدولة الآسيوية كثيفة السكان قادرة على تصدير كفاءات بشرية أكثر تعلما مثل الأطباء والمهندسين ما يجعلهم قادرين على تحقيق مردود مالي مرتفع، وهذا ما يفسر بلوغ التحويلات القادمة من الولايات المتحدة المرتبة الأولى كمصدر للتحويلات الى الهند» يشرح أحد الخبراء التغير الذي طرأ على المورد البشري الهندي.
استثمرت الهند في البشر من خلال الإنفاق على التعليم، ما مكنها من تخريج ثروة بشرية متعلمة ومدربة سافر بعضها إلى الخارج فأدرت دخلا قوميا ساهم بشكل قوي في رفع مستويات النمو الاقتصادي في بلادها الأم.
في كتابها «أُمة من العباقرة» رصدت الصحفية والمذيعة البريطاينة أنجيلا سايني عبقرية الشعب الهندي وتفوق أبنائه في المجالات العلمية وتقلدهم مناصب هامة في العالم كله.
ودللت الكاتبة على هذا النبوغ والتفوق بالإحصاءات العالمية التي أثبتت أنه نحو واحد من كل خمسة من العاملين بمجال الرعاية الصحية وطب الأسنان في إنجلترا من أصل هندي، وذكرت أن نسبة المهندسين الهنود الذين يعملون في وادي السيلكون تخطت ثلث العدد الكلي، فضلا عن أن نحو 750 مديرا لشركات تقنية كبرى في بريطانيا هم من أصول هندية.
«تعتبر الهند أكبر مصدر للعلماء والمهندسين في العالم. ففي الهند نحو 400 جامعة تقدم لسوق العمل سنويا قرابة مليوني خريج، بينهم 600 ألف مهندس، وهناك نحو 16 معهدا للتقنية تقدم هذا العدد الكبير من المهندسين والعلماء»، تضيف الكاتبة في كتابها المنشور عام 2017.
وسردت سايني رحلتها للهند وعرضت تجارب من التقتهم في الجامعات والمعاهد ومعامل الأبحاث وعلوم الفضاء وشركات والتكنولوجيا في مدن وأقاليم مختلفة، واعتبرت أن كل الشخصيات الذين التقتهم يتمتعون بالحماسة الشديدة والتفاؤل فيما يتعلق بمستقبل الهند التكنولوجي.
وتقول في موضع آخر من كتابها: «يشتهر الهنود والأفراد ذوو الأصل الهندي -أينما كنا نعيش في هذا العالم- بأنهم محترفون ومجتهدون ومهرة ومجدّون ومهووسون بالحاسوب»، وترد الفضل في ذلك إلى الزعيم التاريخي الهندي جوهر لال نهرو الذي أشار في خطابه الشهير عام 1960 إلى أن العلم وحده هو القادر على حل مشكلات الجوع والفقر ونقص الصرف الصحي والأمية والخرافات والعادات والتقاليد الخاطئة»، وقال إن «المستقبل للعلم، ولمن يتخذون العلم صاحبا».
تؤثر الزيادة السكانية بالطبع على عائدات النمو وخطط التنمية، لكننا علينا أن نسأل: من هو المسؤول عن تنظيم الحالة السكانية في مصر؟.. هل هو الشعب أم السلطة ومؤسساتها؟.. ولماذا لم تضع السلطة خططا للاستثمار في المورد البشري بمضاعفة الإنفاق على قطاعات التعليم والصحة حتى يتحول البشر إلى ثروة قومية، بدلا من توجيه الإنفاق على مشروعات الحجر والخرسانة التي ابتلعت موارد الدولة ورفعت من معدلات الدين الخارجي والداخلي إلى أرقام غير مسبوقة.
تَتَبُع التجربة الهندية ودراستها يحتاج إلى كتب وأبحاث وليس مقالا واحدا، لكن إجمالا يمكن أن نلخص التجربة في أن الهنود بالديمقراطية التي أتاحت تداول السلطة وتعاقب الحكومات والرقابة والمساءلة والشفافية وبالعلم والعمل على استثمار إمكانيات الشعب وتوفير الرعاية الصحية والتعليم الجيد والتدريب على المهارات تمكنوا ليس فقط من حل أزماتهم الاقتصادية بل من مناطحة القوى الدولية الكبرى.