أدركت دول الخليج وخاصة الإمارات أن المواني من أكثر الكيانات أهمية على الساحة الجيو سياسية. فأصبحت شركة مواني دبي العالمية من أكبر الشركات عالميًا في هذا المجال، محققةً أهم مشروع لديها، لا يستهدف فقط السيطرة على المواني لغرض الاستثمار، وإنما لخدمة أغراض جيو سياسية تستهدف المصالح السياسة والاقتصادية. وهو ما تنفذه بالضبط في إفريقيا وموانيها.

“الرشوة والتحايل للسيطرة”

ميناء “دوراليه”

بعد نزاع قانوني مع مواني دبي، أصدرت حكومة جيبوتي في 2018، قرارًا بتأميم ميناء “دوراليه”، لتستعيده من الإمارات التي كانت ستستحوذ عليه لمدة 30 عامًا.

سبق أن اتهمت حكومة جيبوتي في 2014 الإمارات بالحصول على عقد التشغيل بطرق احتيالية. حيث قدمت رشاوى لمسئولين سابقين، لتسهيل الفوز بعقد التشغيل. واعتبرت حكومة جيبوتي، عملية الاستحواذ “اعتداء على سيادة جيبوتي”. بينما رفضت محكمة لندن هذه الاتهامات، وحكمت لصالح شركة دبي. وحينها لم تجد حكومة جيبوتي حلًا إلا استعادة الميناء مجددًا.

اقرأ أيضًا: الإمارات “الزبون المتوقع”.. لماذا يثير طرح المواني المصرية في البورصة المخاوف؟

ميناء بربرة في الصومال

خلال 2016 عقدت الإمارات وحكومة صوماليلاند الانفصالية وغير المعترف بها دوليًا، اتفاقًا بمقتضاه تتولى مواني دبي حق تطوير وإدارة ميناء بربرة. بالإضافة إلى حصة 65% من عائدات الميناء.

ولاحقًا قررت الإمارات ضم إثيوبيا إلى الاتفاق، وأعطتها 19% من عائدات الميناء، ما أثار غضب مقديشو وشعب الصومال، الذي اعتبر الاتفاق انتهاكًا لوحدة وسيادة الصومال. فيما أعلنت الحكومة الفيدرالية أن هذه الاتفاقية غير قانونية وتمت بشكل أحادي، ولم يتم تمثيل حكومة الصومال الرسمية فيها. ليصوت البرلمان الاتحادي بالأغلبية ببطلان الاتفاقية. لكن، رغم ذلك سيطرت الإمارات على الميناء بمساعدة الحكومة الانفصالية.

ميناء بربرة في الصومال (وكالات)
ميناء بربرة في الصومال (وكالات)

مواني كينيا

خلال 2022، تصاعدت أنباء حول إبرام اتفاق مع شركة دبي لإدارة وتشغيل مواني في كينيا. الأمر الذي أثار غضبًا شعبيًا، وصل حد أن اتهم تحالف “كينيا أولًا” الرئيس الكيني السابق أوهورو كينياتا بعقد صفقة سرية، تتضمن بيع مواني لامو وممباسا وكيزيمو للدولة الخليجية، تحت غطاء التعاون الاقتصادي. كما اتهمته “بعرض الموارد الكينية في المزاد”.

ورد مسئولون في شركة مواني دبي، بأن الأخيرة تقدمت بعرض لإدارة وتشغيل المواني، سيأتي بالنفع على الاقتصاد المحلي لكينيا، وأن الحكومة القادمة هي التي ستنفذ الاتفاق. بعدها صرحت الشركة بأن الحكومة الكينية لم تلتزم بوعدها بطرح المواني وإعطاء أفضلية للشركة الإماراتية، فيما نفت الحكومة الكينية أن تكون ألزمت نفسها بأي وعود للشركة.

وكانت شركة مواني دبي أبرمت اتفاقيات مع السنغال والكونغو لتشغيل وإدارة وبناء موان في البلاد. هذا إلى جانب أرض الصومال وكينيا.

النهم الإماراتي في إفريقيا

تسعى الإمارات إلى زيادة قوتها الإقليمية ونفوذها في المنطقة لمنافسة قطر وإيران وتركيا، وأيضًا لتعزيز مكانتها في منظمة مجلس التعاون الخليجي. رافعة شعار إنها تستهدف محاربة الجماعات الإرهابية؛ كالقاعدة وداعش والحوثيين. ولتحقيق ذلك تستخدم القوة العسكرية لبسط سيطرتها في القرن الإفريقي، عبر القواعد العسكرية في اليمن والصومال وإريتريا. ومواني المدن الساحلية إحدى الأدوات لخدمة هذا الغرض. ذلك فضلًا عن استخدام الاستثمارات في المواني كأداة دبلوماسية للتحكم في مضايق باب المندب وهرمز وقناة السويس.

الخلافات وتأمين الغذاء

تبدو الخلافات بين دول مجلس التعاون الخليجي دافعًا وراء اهتمام الإمارات بالتوسع في الاستحواذ على المواني. في الصومال على سبيل المثال، تدعم الإمارات حكومة صوماليلاند. بينما تدعم قطر الحكومة الاتحادية.

كما أن التوسع في الاستثمار في بناء الموارد يرتبط بعمليات ضمان الأمن الغذائي. يقول كريستيان هندرسون ورفيق زيادة، في دراسة لهما، بأن سيطرة الإمارات على الكيانات اللوجيستية وطرق التجارة يجعلها قوة ناشئة في لوجيستيات الغذاء.

مواني إفريقية سعت الإمارات للسيطرة عليها (مصر360)
مواني إفريقية سعت الإمارات للسيطرة عليها (مصر360)

السيطرة والتوسع في أسواق جديدة

جاء التوسع الإماراتي العمودي في النقل واللوجيستيات للسيطرة على الطرق مصاحبًا لتوسع الشركات الإماراتية بالاستحواذ على مشاريع زراعية في كل من مصر وإثيوبيا والسودان وباكستان.

في مصر تستثمر الإمارات في شرق العوينات وتوشكى. “هندرسون” و”زيادة”، يضعون استراتيجية الإمارات للسيطرة على لوجيستيات الأمن الغذائي كجزء من عمليات نيوليبرالية تسعى لدمج دول جديدة في الأسواق الإقليمية والعالمية، وتكثيف عمليات تسليع الغذاء والأراضي الزراعية، ومفاقمة مستويات عدم المساواة بين الدول. وهذا ما كان واضحا في جيبوتي والصومال مثلًا.

وتدعي شركة مواني دبي أنها مستقلة. ولكن عمليًا تخدم الشركة مصالح الإمارات.

اعتبر روهان أدفاني، الباحث في the century foundation، أن شركة مواني دبي تماثل شركة الهند الشرقية التي كانت تخدم الاستعمار البريطاني. من خلال شركة مواني دبي العالمية، تستخرج الإمارات الأرباح من مواني الدول الإفريقية وتحقق مصالحها السياسية مثل تأمين الطرق وسلاسل التوريد ومحاربة الإرهاب والقرصنة.

يعتبر أدفاني أن نشاط شركة مواني دبي يمثل نوعًا من الإمبرالية الجديدة لبناء إمبراطورية تجارية إماراتية.

مصر

في عام 2008 استحوذت مواني دبي على 90% من ميناء السخنة، واستمرت الشركة بالتوسع حتى وصل إجمالي الاستثمارات إلى 1.6 مليار دولار في 2021. كما وقعت شركة مواني دبي العالمية-السخنة مع الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس عقدًا لإنشاء منطقة لوجيستية جديدة.

لم تكن مواني مصر بعيدة عن نهم الإمارات، ولم تعد مواني دبي اللاعب الإماراتي الوحيد في مجال المواني المصرية. فقد استحوذت مجموعة مواني أبو ظبي على 70% من شركة خط حاويات ترانسمار وشركة ترانسكارجو الدولية للشحن والتفريغ المصريتين. وكانت القيمة الحقيقية للشركتين 325 مليون درهم خلال الـ 12 شهرًا التي سبقت الاستحواذ الإماراتي.

كما وقعت الحكومة المصرية مع شركة “اعتماد القابضة” الإماراتية التابعة لجهاز أبو ظبي للاستثمار اتفاقًا لإنشاء مدينة أبو قير الجديدة، التي من المخطط أن تصبح من أكبر المدن الساحلية اللوجيستية في العالم.

ومؤخرًا، ظهر لاعب جديد ينافس على المواني المصرية. حيث تعد قطر من أبرز منافسي الإمارات. وسبق وصرح وزير النقل، كامل الوزير بأن هناك مفاوضات جارية مع مواني أبو ظبي ومواني قطر لتشغيل وإدارة عدة مواني مصرية.

رغم الانفتاح على جذب استثمارات إماراتية في مجال المواني، شهدت العلاقات المصرية الإماراتية توترات في السنوات الأخيرة. فبحسب مصادر حكومية، نقلت عنها “مدى مصر“، هناك جهات مصرية قلقة من استحواذ الشركات الإماراتية على أراض بمقربة من قناة السويس.

وقد أوضحت المصادر أن الإمارات رفضت أن تكون ضامنًا في مفاوضات مصر مع صندوق النقد الدولي. بالإضافة إلى أنها حثت صندوق النقد الدولي للضغط على مصر بشأن شركات المؤسسة العسكرية وتحرير سعر صرف الجنيه. لأن تحرير سعر الصرف سيخفض تكلفة الاستحواذ على الأصول. وهو ما تفسر به المصادر توجه مصر لإدخال قطر في معادلة المواني.

ويبدو أن مصر تحاول تنويع صفقاتها، واستغلال المنافسة بين الشركات الإماراتية. لكن تظل مشكلة أن جميع تلك الشركات تابعة للإمارات وتخدم مصالحها.

تصميم مدينة أبو قير الجديدة (وكالات)
تصميم مدينة أبو قير الجديدة (وكالات)

حقوق مهدرة

لدى شركة مواني دبي سجل سيئ في حقوق العمال. وقد سجل العام 2011 إضرابًا لعمال ميناء السخنة، مطالبين ببدلات مخاطر، وهيكلة للأجور، وإقالة مديرين أساؤوا معاملتهم.

وقد تجددت المشكلات في 2012، وعاود العمال اعتراضهم على فصل الشركة بعضهم تعسفيًا. وفي نفس العام حرر العمال محضرًا ضد الشركة بسبب مماطلة في تنفيذ اتفاقية أبرمت وتضمنت الإفصاح عن ميزانية الشركة وأرباحها لتحديد أرباح العمال. وفي العام التالي أضرب عمال “بلاتينيوم” المؤقتين مطالبين بتعينهم بشكل دائم بشركة مواني دبي.

تجددت الإضرابات في 2014 بسبب الفصل التعسفي، وتخفيض الأجور، وعدم تعيين العمالة المؤقتة العاملة في الميناء لمدد تصل لعشر سنوات. بينما في العام 2017، ناشد عضو بمجلس النواب رئيس الجمهورية للتدخل لإنقاذ 650 عاملًا في ميناء السخنة، معرضين للفصل التعسفي والتشريد.

وقال النائب في استغاثته إن هذا “للأسف يحدث ذلك في الوقت الذي تفتحون فيه سيادتكم آفَاقًا جديدة بالشراكة مع شركات مواني دبي العالمية من أجل مزيد للاستثمارات وتوفير فرص العمل لأولادنا”.

وفي عام 2019 نظم عمال البناء الصوماليون بميناء بربرة -تديره مواني دبي- بصوماليلاند إضرابًا، اعتراضًا على تخفيض أجورهم، وعدم وجود مساكن أو تأمينات صحية. في وقت يحصل العمال الأجانب على مرتبات مرتفعة وتأمينات صحية وسكن.

اقرأ أيضًا: أبو قير الجديدة.. لماذا الإمارات رغم تجاربها في تحييد المواني؟

من الملاحظ أيضًا أن الاستحواذات الإماراتية على المواني تتسبب في أزمات ونزاعات داخلية. فالإمارات دعمت الحكومة الانفصالية في الصومال وضمت إثيوبيا في الاتفاق للضغط على الحكومة الاتحادية الصومالية.

كما أن الاستحواذات الإماراتية على القطاعات الاستراتيجية مثل المواني تتسبب في غضب شعبي وقد تضعف شرعية الحكومات المحلية. على سبيل المثال، التحالف المعارض في كينيا (الذي فاز بالانتخابات)، استخدم الأنباء في كينيا حول اتفاق مع الإمارات لإضعاف الحكومة الكينية سياسيًا. كما أثارت الاستحوذات غضبًا شعبيًا في كل من جيبوتي وكينيا والصومال.

يمكن كذلك ملاحظة أن هذا النمط المناهض للاستحواذات الإماراتية على المواني بدأ بالظهور في مصر على المستوى الشعبي وبين النخبة السياسية. ربما التهديد الأكبر على مصر هو تقلص نفوذها في القارة الإفريقية على حساب تصاعد النفوذ الإماراتي، في وقت تحتاج مصر فيه بسط نفوذها بقوتها الناعمة على إفريقيا لمواجهة إثيوبيا.

أي مستقبل للنهم

يتصاعد في مصر القلق تجاه الإمارات. وقد أيقنت دول إفريقية مثل جيبوتي والصومال وكينيا أن تشغيل وإدارة موانيها يهدد سيادة بلادها. كما تصطدم شركات الإمارات اللوجيستية برفض شعبي في دول عدة، فضلًا عن الصدامات المباشرة الناتجة عن إهدار حقوق العمال بالمواني.

لكن حتى الآن، تظل الإمارات لاعبًا مهيمنًا في مجال المواني في العالم. وإن كان تصاعد الرفض داخل الدول الإفريقية -شعبيًا ورسميًا- ضد السيطرة الإماراتية على المواني ينبئ بأن نفوذ الإمارات قد يتقلص في المستقبل.