أدى عجز الموازنة دون إدراج سداد القروض وصافي حيازة الأصول المالية، إلى تضخم واضح في خدمة الديون، سواء كفوائد أو دفعات السداد، والتي تخطت 53% من إجمالي الاستخدامات في العام المالي 2022. هذا العبء يعني أن الحكومة لم تستطع الاستفادة من خفض العجز الكلي نتيجة إجراءات التقشف التي فرضتها.
كما أدى تضخم الديون ومصاريف خدمتها إلى عبء حقيقي على استدامة مصروفات الدولة. خصوصًا وأن الإنفاق الحكومي على الخدمات مرتبط ارتباطًا حثيثًا بتحسين النمو الاقتصادي ومستوى الدخل والحصيلة الضريبية ذاتها. بينما الإنفاق على خدمات الديون غير مقرون بأي من هذه الفوائد الجانبية.
يناقش الباحث عمر غنام في ورقة بحثية بعنوان “ثمن التقاعس الضريبي“، عجز الميزانيات العامة للدولة، وعلاقتها بمشكلات النظام الضريبي وعدم فاعليته ومشكلاته في مصر، ويورد خلال ذلك، افتقاد النظام الضريبي المصري لمعيارين أساسيين، الكفاية والفاعلية، بوصفهما ركيزتين لقياس قدرة أي نظام ضريبي على أداء مهامه الأساسية.
كما يستعرض غنام هيكل الضريبة في مصر، أشكالها والشرائح الضريبية وكذلك القطاعات الممولة، غير الإعفاءات الضريبية، إضافة إلى التغيرات التي طرأت على القوانين والتشريعات المتعلقة بالضرائب، ومنها ضريبة القيمة المضافة والدخل، ويناقش علاقة منظومة الضرائب بعجز الموازنة، والتي دفعت الدولة إلى البحث عن حل لها عبر اختيارات ثلاثة، التقشف والاقتراض، وفرض الضرائب.
عجز الموازنة
بالنسبة لمعيار الفاعلية فإن تقديرات الجهد الضريبي لمصر عامة منخفضة حيث قدرها صندوق النقد الدولي عام 2011 بقرابة 61.8% وانخفضت لقرابة 45.5% في تقديرات عام 2019.
بإدراج النقص في تحصيل الضرائب عام 2019 تكون النسبة أقرب لـ 41.9 %، ذلك التهاوي السريع أتى نتيجة الانخفاض في نسبة الضرائب المحصلة من الناتج المحلي الإجمالي. هذه الهوة التي تتسع هي ثمن التقاعس في الإصلاح الضريبي، وأحد أهم أسباب هشاشة الماليات العامة لمصر.
اتسم الجهد الضريبي المصري بالارتفاع نسبيا طوال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وانخفضت نسبة الحصيلة الضريبية من الناتج المحلي عن العشرين بالمائة.
بدأت الحصيلة الضريبية في التآكل تزامنا مع أزمة الثمانينيات الاقتصادية، لتصل أدنى مستوياتها بحلول 1990 عندما وصلت نسبة الحصيلة الضريبية إلى 13% من الناتج المحلي الجمالي
لم تتعاف مصر قط من هذا الانخفاض، فأتت قوانين وتعديلات عام 2005، وهي المؤسسة للنظام الضريبي الحالي، والتي أنتجت تحسنا لحظياً في الحصيلة الضريبية ما لبست أن ذهبت جراء الريح.
تخفيض الضريبة والاستثمار
يُسوق فقر البلد كسبب لانخفاض الحصيلة الضريبية، بينما اهتمت السياسات الضريبية النيوليبرالية “التي تسعى للتحرر من القيود والضوابط” التي طبقها يوسف بطرس غالي “وزير المالية في عام 2004 في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك” بتحفيز التسجيل الضريبي عن طريق خفض سعر الضريبة، ذلك بادعاء أن ما سيتوفر من هذا العفو الضريبي يستثمره رجال الأعمال، وسيكون دافعا للنمو الاقتصادي، ومعوضاً قيمة العفو بفعل النمو المتسارع المقترن بزيادة التسجيل الضريبي.
بحسب الورقة، فإن أزمة هذا الطرح هي أنه خيالي تماماً وأثبت فشله قبل أن تتبناه مصر بأكثر من عقد. فالحقيقة أنه لا توجد علاقة بين خفض سعر ضرائب الأرباح ومعدلات الاستثمار،- باستثناء استقبال الشركات الهاربة من الضرائب
يشير غنام إلى نتائج هذه السياسة بأنها مثلت تحسنا لحظيا إثر إدراج عدد أكبر من الممولين، ثم انخفاض على المدى المتوسط والبعيد نتيجة انخفاض سعر الضريبة نفسها.
تقليل العبء على الممولين الكبار
ترى النيوليبرالية “نظرية وسياسة اقتصادية رأسمالية تسعى للتحرر من القيود والضوابط”أن العيب الأكبر في ضيق الوعاء الضريبي وليس عمقه، فتركز على إدراج أكبر عدد ممكن من الممولين الصغار مقابل تقليل العبء على الممولين الكبار، وهي سياسة قد تفلح في الدول الغنية ولكنها لم تؤت ثمارها في الدول النامية.
هذا إضافة إلى أن الممولين الصغار أصعب في إدارتهم، وتتبعهم والمراقبة عليهم، كما أن تحميلهم بعبء ضريبي لم يتحملوه من قبل قد يشكل الفارق بين ربحية أعمالهم وخسارتها، مما قد يؤثر بالسلب على النمو الاقتصادي. وفي حالة مصر بعد سنين من تطبيق هذه التجربة ظلت أكبر 4000 مؤسسة تمول قرابة 90 % من إجمالي ضرائب الشركات حتى 2011.
الهيكل الضريبي
تستعرض الورقة، هياكل الضريبة في مصر، وأهم التعديلات الواردة عليها، حيث ينظم قانون 91 لعام 2005 ضرائب الدخل، وصدر ضمن سياسات الإصلاح الضريبي التي طبقتها وزارة يوسف بطرس غالي وما زال حجر الأساس في النظام الضريبي الحالي.
مع ثورة 2011 توالت الإصلاحات، زادت الشرائح الضريبية من ثلاثة لخمسة، ثم سبع شرائح بنظام تصاعدي، وصولا إلى تعديلات 2020، كما تم رفع حد الإعفاء خاصة مع التضخم الحاد الذي عانته البلاد مع أزمة الاقتصاد 2016.
يشير غنام إلى أن نسبة ضرائب الدخل الشخصي تحسنت إلى حد كبير في أعقاب التعديلات، وإن كان بشكل بسيط، ولكن النسبة من الدخل المحلي ما زالت منخفضة حيث أنها أقل بحوالي الخُمس من متوسط دول الشرق الأوسط المستوردة للبترول، والذي يقدر بحوالي 2.4% وتأتي مصر قرب ذيل القائمة مقارنة بأقرانها. وهذا كله يعني أنه مازال بالإمكان رفع الحصيلة الضريبية عن طريق رفع التدرج في الشرائح العليا ورفع الحد الأقصى للضريبة وبالتالي رفع المساهمة دون التأثير على الشرائح الأقل دخلا.
حصيلة أرباح الشركات
يحكم القانون 91 لعام 2005 ضرائب أرباح شركات الأموال، فأسس القانون لضريبة بسعر موحد 20 % باستثناء أرباح البنك المركزي وقناة السويس والهيئة العامة للبترول المفروض عليهم ضريبة بسعر 40% وشركات البترول والغاز المشاركة للهيئة تخضع للضريبة بنسبة 55.40. %.
جاء أول تعديلات القانون عبر القانون رقم 51 لعام 2011، تمت إضافة شريحة أعلى للضريبة للشركات التي يصل صافي أرباحها لعشرة ملايين جنيه بسعر 25% وسرى التعديل من يوليو/ تموز 2011 حتى مايو/ أيار 2013، حيث بدأ العمل بقانون 101 لسنة 2012 الذي وحد سعر الضريبة الثانية عند 25%.
وبرغم أن مساهمة شركات الأموال ارتفعت من قرابة 36% إلى أكثر من 65% من إجمالي حصيلة الضريبة، إلا أنها ما زالت منخفضة جدا مقارنة بدول الدخل المتوسط والمنخفض، حيث تساهم الضريبة بحوالي 2.9% من الناتج المحلي في المتوسط، وحتى الدول المستوردة للبترول في الشرق الأوسط تساهم الضريبة فيها بحوالي 3.2% من الناتج المحلي، مقارنة بـ 1.8% فقط في مصر.
ضرائب غائبة
بحسب الورقة هناك ضرائب لم يتم الاهتمام بها في الوعاء الضريبي، مثل ضرائب الأرباح الرأسمالية التي تم تأجيلها للعديد من السنين حتى تقرر تطبيقها أخيراً في 2022 فلم تتضح حقائق تحصيلها بعد، كما الضرائب العقارية التي شاب تقديمها التشوش والتضارب مما عطل تطبيقها وتقييمها.
وأخيراً الضروريات الغائبة في الهيكل الضريبي وهي ضرائب الثروة وضرائب المكاسب المفاجئة، وهي ضرائب لم تطبق في النظام الضريبي الحالي ومن أكثر أنواع الضرائب عدالة وأقلها أثرًا على صحة النمو الاقتصادي.
وبينما لا توجد تقديرات موثقة عن الحصيلة المتوقعة لضريبة الأرباح المفاجئة قدرت منظمة أوكسفام أن ضريبة ثروة طفيفة جدا تقدر بـ 2% فقط بين 2010 و2020 كانت كفيلة بتوفير قرابة 20 مليار دولار لخزانة الدولة المصرية، ما يضارع إجمالي قروض صندوق النقد الدولي لمصر في هذه الفترة.
ضريبة القيمة المضافة
فرضت ضريبة القيمة المُضافة بقانون 76 لعام 2016 الذي استبدلها بضرائب المبيعات والخدمات، ذلك ضمن حزمة إصلاحات تزامنت مع قرض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
تم فرض الضريبة الجديدة بسعر 13% بزيادة 30% عن سعر ضرائب المبيعات والخدمات، وترتفع لـ 14% في العام المالي التالي- 2017/2018- وهو ما أدى إلى زيادة عوائد تحصيل الضريبة بشكل ملحوظ.
ووفق الورقة، تجلي تأثير تطبيق ضريبة القيمة المضافة من حيث ارتفاع الحصيلة الضريبية بالجنيه وكنسبة من إجمالي الضرائب المحصلة حيث تخطت مداخيل ضريبة القيمة المضافة مداخيل ضريبة الدخل عام 2016 لتصبح الضريبة الأكثر مساهمة في الحصيلة الضريبية.
وتأتي غالبية حصيلة ضرائب السلع والخدمات من مصدرين أساسيين، أولهما ضرائب البضائع المستوردة والتي تمثل في المتوسط ما بين 28% و36% من عوائد الضريبة وهي عوائد تتأثر بشدة بسعر الجنيه مقابل العملات الأجنبية، فانخفاض سعر الجنيه قد يثبط الاستيراد، ولكنه يرفع من حصيلة الضريبة حيث يرتفع سعر السلع المستوردة وبالتالي الضريبة المحصلة عليها، وإذا ارتفع سعر الجنيه انخفض سعر السلع المستوردة، وهو ما يُخفض حصيلة الضريبة. وثانيهما ضرائب التبغ.
واعز أخلاقي يبرر الضريبة
تعتبر ضرائب التبغ والدخان ثاني أكبر مداخيل ضرائب السلع والخدمات في مصر حيث تمول ما بين 14% و18% من إجمالي حصيلة الضريبة، وثالث أكبر المداخيل هو ضريبة القيمة المضافة على السلع المحلية غير المجدولة.
تشير الورقة إلى أن الاعتماد على ضرائب التبغ يمثل واحدا من صور المغالاة في ادعاء الوازع الأخلاقي كمبرر للضريبة، ضرائب الخطيئة- كما تسمى- التي تفرض على السلع غير المرغوب فيها أو الضارة، تنطلق من استغلال الرؤية المجتمعية للخطيئة لتفرض ضرائب شديدة الإجحاف بادعاء أن ذلك سيساهم في محو هذه السلوكيات.
قصور وترسيخ للعجز
يري غنام، أن كلفة القصور في التحصيل الضريبي، كان ضخما، يستعرض الفترة ما بين 2014- 2022 ويشير إلى أن الفرق بين الضرائب المتوقعة والمحصلة حوالي 563 مليار جنيه، بمتوسط 70 مليار جنيه سنوياً، يرى غنام أن هذه الحصيلة الضائعة كانت لتخفض العجز الكلي.
تنبثق السياسات التي كرست العجز الضريبي من دافع أساسي، الاستثمارات عن طريق استرضاء رجال الأعمال، فأتى قانون 91 لسنة 2005 بنظام ضريبي يستهدف استحسان رجال الأعمال والطبقة الغنية، فلم يكتف بخفض سعر ضرائب الأرباح للنصف، بل خفض تصاعدية ضرائب الدخل. وهي قرارات لن يستفيد منها سوى الشرائح العليا من المواطنين.
كما استحدثت هذه السياسات، التجنب الضريبي كمفهوم إلى جانب التهرب، فالتجنب في القانون يتمثل في إجراء تعاملات اقتصادية بغرض تجنب الضريبة وهي الطريقة الأساسية للتهرب الضريبي للشركات الكبرى ومتعددة الجنسيات ولا يعتبر جريمة مخلة بالشرف.
ترميم العجز
يؤكد غنام أن الأمر يتطلب ترميم الهيكل الضريبي ذاته. وترميم الإدارة الضريبية بتحسين شفافية مصلحة الضرائب العامة من حيث إتاحة البيانات الضرورية لتفعيل المشاركة المجتمعية في الهيكلة الضريبية، مثل إتاحة حصيلة الضرائب مفصلة بالشرائح والنوع الاجتماعي والموقع الجغرافي.
كما يؤكد على أهمية الإسراع في تطبيق توصيات محاربة تآكل القاعدة وتحويل الأرباح لمكافحة التهرب الضريبي خاصة من قبل الشركات الكبرى وما يستتبعه ذلك من بروتوكولات التبادل التلقائي للمعلومات.