من عشرة أيام تقريبا، طلبت مني إدارة التحرير بموقع “مصر 360” أن أكتب مقالا استفتح به ملفا بعنوان: “مصر تراجع نفسها”، وهو يختص بالمراجعات التي يجب أن تسلكها مصر: الدولة والمجتمع، النخبة السياسية والثقافية، وكذا نخبة رجال الأعمال… إلخ، باعتبار أن المراجعات تمثل الشرط الضروري والمقدمة اللازمة للإصلاح الذي بات مطلبا ملحا في مواجهة المأزق الوطني الذي كشفت عنه الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي بات يعاني منها الجميع.
تحيرت كثيرا فيما يمكن أن أكتب خاصة أني تصورت أن ما كتبته وأكتبه منذ أن عدت إلي الكتابة مطلع 2020 -بعد انقطاع استمر لسنوات السجن- يدخل في باب المراجعات الذاتية والعامة، بل قدر لكاتب هذه السطور في 2011/2014 أن يطلق وفريق بحثي مشروعا للنقد الذاتي بين القوى والأحزاب السياسية المصرية للمرحلة التي أعقبت يناير 2011، وقد أثمر هذا المشروع كتابا ودليلا لكيفية تأسيس عمليات الحوار داخل الكيانات والتنظيمات السياسية من مدخل المراجعة الذاتية.
أزعم أن جل ما كتبته بعد فترة السجن يدخل في باب المراجعات لآداء الدولة المصرية ومؤسساتها، ولعمل الأحزاب المدنية والإسلامية وكذا قوى يناير الشبابية، وتعرضت للمجال الديني وما بات يتلبسه من “صراع على روح الإسلام في المنطقة العربية” -وبالمناسبة فهو عنوان أحد كتبي قيد النشر، بل قمت بمراجعة شاملة من مدخل أشكال الممارسة السياسية الجديدة الجارية في مصر الآن.
تحدثت عن “لمن السياسة في مصر اليوم” -وهو عنوان كتابي الجديد الذي آمل أن يصدر قريبا، هذا بالاضافة إلي إعادة النظر فيما جرى للانتفاضات العربية من خلال كتابي: “سردية الربيع العربي ورهانات الواقع” -الصادر عن دار المرايا 2021.
كما يمكن أن أشير إلى عديد المراجعات التي قام بها عدد من الأساتذة والزملاء على هذا الموقع مؤخرا، فالصديق أنور الهواري قدم لنا مراجعة تاريخية شاملة للقرنين الأخيرين وما ينبغي أن نستخلصه من دروس في “ترويض الاستبداد” -وهو عنوان كتابه الذي جمع فيه بعضا من هذه المقالات، وأستاذنا -عبدالعظيم حماد- ومعه ثلة من شباب الصحفيين (محمد صلاح وحسام مؤنس وعمرو بدر وسعد عبدالحفيظ وإسراء عبد الفتاح وغيرهم) قدموا لنا مراجعة لوضع السياسة والإعلام في مصر وما يرتبط بهما من حريات، والمحامي القدير طارق عبدالعال استعرض في مقالاته وأبحاثه كثيرا من المراجعات القانونية الجديرة بالاعتبار.
امتدت مساحات المراجعة لتدفع الدكتور زياد بهاء الدين -نائب رئيس الوزراء السابق للشئون الاقتصادية- للمطالبة بمراجعة شاملة للتوجهات الاقتصادية، ومن قبله أ. عبدالله السناوي، ويمكن أن أعدد كثيرا من الكتاب والباحثين الذين قاموا ويقومون بمراجعات في مجالات عديدة مثل ما يكتبه د. خالد عزب في المجال الثقافي، وما يكتبه أ. حسين عبد الغني ود. عمرو الشوبكي في المجال السياسي والصديق عمرو هاشم في مراجعاته لأداء البرلمان والأحزاب وغيرهم كثير.
احترت كثيرا فيما يمكن أن يكون جديدا، وهديت إلى أن أفضل مدخل لبدء أو بالأحرى استكمال المراجعات وإعطائها قوة دفع كبيرة هو البدء بما يفكر فيه جموع المصريين، وفي هذا استعادة لأصوات “أصحاب المصلحة” الحقيقيين، فقد عانوا لسنوات بل لقرنين -كما ذكر الهواري- من تغييب متعمد لتطلعاتهم وغلب على السلطة -وهو مفهوم- ادعاء تمثليهم أو التعبير عنهم والحديث باسمهم، ولكن أن يقع المثقفون في نفس الفخ فهو بالنسبة لي مستغرب ومستهجن.
أنا أدرك أن هناك حدودا على ما يمكن أن نستحضره من أصواتهم لغياب القنوات والمؤسسات والبحث العلمي الذي يكشف عن توجهاتهم وآرائهم، ولكن كما يقول الأصوليون: “ما لا يدرك جله لا يترك كله”، ويحسن أن نؤكد أننا لا ندعي التحدث باسمهم، ولا نظن بيقين ما نقدمه -استنادا إلى بعض استطلاعات الرأي التي أعرف بصدق مدى حدودها في بلداننا، ولكنه من قبيل الاستفزاز والمراجعة لما استقر وتحول إلى مسلمات بين المثقفين والسياسيين، وما تشيعه الدولة بأجهزتها ويكذبه عديد الوقائع ويدحضه كثير من الأحداث التي عادة ما تفاجئنا، كما إنه في تقديري تدشين لطريقة تفكير مغاير، ومنهج نظر جديد ينظر في الوقائع لا الافتراضات، ويتعامل مع تطلعات الناس باحترام، وإن سعي لتغييرها. حري بنا وبالسلطة من قبلنا أن تطامن من كبريائها وأن تحترم رغبات شعبها.
وإذا قدر للمراجعات أن تستند إلى الواقع والوقائع لا التصورات والافتراضات وتبدأ بتطلعات الناس العادية، إلا أنها يجب أن تتحرر من الثنائيات التي حكمت العقل العربي لقرنين فتوزعت عليه القوى واستقطبت من خلالها القلوب والأفئدة، أقصد الانقسام بين القطاع العام وبين الخاص، وبين الدعم وترك العمل لآليات السوق، وبين الإسلامية والعلمانية، وبين نحن والغرب، وبين القديم والجديد، وبين الشباب والشيوخ، وبين الثوري والإصلاحي… إلخ ما هنالك من ثنائيات أنتجها وسينتجها العقل العربي.
الواقع يتسم بالامتزاج والتداخل بين هذه الثنائيات جميعا كما أن تركيب وتعقيد الواقع يكذبها، والأهم أن العالم بات يطرح أسئلة جديدة ويرسم أجندات عمل مستحدثة ويتعامل وفق مداخل أخرى وثنائيات مختلفة -إن أردت أن تظل تفكر وفق منطق الثنائيات المتعارضة. يمكن أن نشير إلى قضايا البيئة وحقوق الإنسان ومناهضة العنصرية والمساواة والعدالة في توزيع الثروات والدخول …إلخ.
وأخيرا وليس آخرا، فإن ما ينبغي أن تنشغل به مصر في مراجعاتها الحالية هو “تغيير الأجندة” بتغيير الأسئلة، وهي استراتيجية من متطلباتها أن نزور دائما ونفحص باستمرار الأسئلة التي حكمت تفكيرنا، فالسؤال الصحيح يرسم طريق الإجابة.
ولنضرب مثلا على ذلك: هل يمكن معالجة أزمة الأحزاب والمؤسسات الوسيطة بل والثقة في مؤسسات الدولة من خلال “مشكلة التمثيل” التي عانى منها المصريون على مدار القرنيين الأخيرين؟ -وهي بالمناسبة حديث العالم اليوم في الديموقراطيات المستقرة والنظم التسلطية على السواء، لأن المؤسسات السياسية التقليدية من برلمانات وأحزاب ونقابات قد تآكلت.
يرى أكثر من نصف المصريين -وفق بيانات المؤشر العربي 2022- أفضلية نظام حكم يقوم على شكل من الديموقراطية المباشرة -“يقوم فيه المواطنون أنفسهم وليس شخصيات منتخبة بالتصويت مباشرة على القضايا الوطنية الكبرى لإقرار ما سيصبح قانونا”، في مقابل 44% يرون استمرار التمثيل عبر نواب منتخبين.
أطلت أكثر مما ينبغي في مقدمات ربما تتعب قارئي، ولكنها فيما أظن مهمة فيما نحن بصدده من مراجعات، وسأكتفي في هذا المقال ببعض مما يجب أن تراجعه السلطة أو النظام القائم من خلال عدد من القضايا، على أن أخصص مقالا آخر لما بات يدركه المصريون ويتصرفون وفقا له وهو: وجود مجال عام مدني لا ديني كما يتصور البعض. أعود فأؤكد أن المصريين حينما ينظرون إلى مجالهم العام لا ينظرون إليه كما اعتادت السلطة والنخب السياسية والثقافية من منظور التعارض بين المدني وبين الديني -كما شاع ويشيع- ولهذا حديث آخر.
نقطة أخيرة في هذه المقدمة يمكن أن أستخلصها من متابعة استطلاعات الرأي، وهي وجود تيار أساسي استطاع أن يحدث قدرا من التوافق العام حول عديد القضايا والموضوعات، ويوجد على جانبيه اتجاهات أخرى ولكنها تظل أقلية ربما تكون أعلى صوتا في ظل تعاظم استخدام السوشيال ميديا بالإضافة إلى التوظيفات السياسية والثقافية في معارك صممت ساحاتها بعناية.
هذا المشهد يصيب تفكيرنا بالارتباك ويصرف طاقتنا إلي أولويات حظها قليل في الواقع، ناهيك عن ضعف تأثيرها في تغيير الواقع لضعف الهياكل والبنى السياسية التي يمكن أن تحول “جمهورية الجدل” -كما عنونت مقالًا لي- إلى تأثير في السياسة والسياسات.
وأعرض عليكم في يلي تقديري لما تعكسه نتائج استطلاعات الرأي المنشورة مؤخرا من إدراك الرأي العام في مصر لأهمية المراجعات، ولقيامه هو نفسه بمراجعاته الذاتية لأفكاره وميوله التقليدية – سواءً كانت حقيقية، أو مُتصورة، أو مُشاعة ومُصَدَّرَة- بشأن الديمقراطية، ودور كل من الجيش والدين والأحزاب في نظام الحكم، ومسألة الإقصاء من العملية السياسية.
دمج الديموقراطية بأولويات الإنفاق
إن الرأي العام المصري متوافق بشدة -وفق بيانات المؤشر العربي 2022- على عدم ملاءمة “نظام تتولي فيه الحكم سلطة غير ديموقراطية تجري به انتخابات شكلية وتتولى فيه الحكم فيه سلطة غير ديموقراطية تأخذ القرارات من دون إيلاء المعارضة أهمية”، إذ رأى 49% أنه غير ملائم بشدة في مقابل 1% فقط رأوا أنه ملائم بشدة، في حين يرى 30% من المستطلعين أنه نظام غير ملائم في مقابل 14% فقط يرون أنه ملائم إلى حد ما، نحن هنا بإزاء الأربعة أخماس تقريبا (79%) يرفضون هذا النظام.
وبرغم إدراك المصريين لحدود فاعلية الديموقراطية، إلا أنهم يرونها أفضل الأنظمة السياسية، إذ يرفض أكثريتهم (91%) مقولة أن “النظام الديموقراطي غير حاسم ومليء بالمشاحنات”، ويرى ثلاثة أرباعهم تقريبا (73%) أن النظام الديموقراطي له مشكلات لكنه أفضل الأنظمة، وتعارض هذه الأكثرية نسبة (13%) ترى أن المجتمع المصري غير مهيأ للديموقراطية.
إن أحد أهم وأبرز مظاهر الديموقراطية -كما يدركها المصريون- هو تمتعهم بالحريات السياسية والمدنية، وشعورهم بالعدل والمساواة التي من مظاهرها: دمج المواطنين في اتخاذ قرارات أولويات الإنفاق العام، إذ لا يجب بأية حال أن تستقل به السلطة السياسية عن مواطنيها ولا يخضع للرقابة.
عند سؤال المصريين عن الشروط التي يجب توافرها ليعد بلدا ما ديموقراطيا، أفاد الثلث تقريبا (31%) بالحريات السياسية والمدنية والعامة، في حين رأى الخمس تقريبا (22%) أنها المساواة والعدل بين المواطنين، ويربط 11% من المواطنين بين الديموقراطية وتحسين الأوضاع الاقتصادية، ويرى أكثر من النصف قليلا (12%) أن السياسات الاقتصادية لا تعبر عن آراء المواطنين، في حين يرى أكثرية المصريين بما يتجاوز النصف بخمس نقاط (11%) أن الأوضاع الاقتصادية سيئة، ولذا فإنهم يقترحون أولويات للإنفاق العام ترتبط برؤيتهم لمشكلاتهم التي تأتي البطالة وارتفاع الأسعار في المقدمة، ويليها سوء الخدمات العامة من صحة وتعليم.
يأتي في أولويات الإنفاق العام: إنشاء مشاريع لاستغلال واستثمار المصادر الطبيعية في البلاد بنسبة 28%، والصحة والتعليم بمقدار الربع تقريبا (23%)، و13% لتحسين أوضاع العاملين في القطاع العام بزيادة رواتبهم أو مزيد من التعيين في وظائفه، وتتساوى هذه النسبة مع ما يطالب به المصريون من دعم أسعار المواد الأساسية من غذاء ومحروقات.
وأخيرا وليس آخرا، فإن الثلثين تقريبا (64٪%) يعارضون مقولة أن الاقتصاد يسير بصورة سيئة في النظام الديموقراطي، ويرى قرابة نصف المصريين (41%) أن البلاد تسير في اتجاه خاطئ، والسبب الرئيسي هو الأوضاع الاقتصادية إذ يعزو الثلاثة أرباع تقريبا (74%) مسار البلاد الخاطئ إليها.
ديموقراطية المصريين
يتطلع المصريون إلي ديموقراطية لها عدد من الخصائص والسمات أبرزها:
1- رفض الحكم العسكري، ففي الوقت الذي تبلغ فيه ثقة المصريين بالجيش الثلاثة أرباع تقريبا (74%) -وفق بيانات المؤشر العربي، وهي أعلى نسبة للثقة في مؤسسات الدولة وتتفوق كثيرا على المؤسسات الأخرى من قضاء وحكومة وإدارة محلية، برغم ذلك فإن 40% تقريبا يرون عدم ملاءمة نظام سياسي يتولي الحكم فيه عسكريون أو قادة جيش.
نحن أمام ثقة مرتفعة بالجيش وانقسام في الرأي العام المصري حول تولي أحد منتسبيه الحكم.
2- لايزال 41% من المصريين يثقون في الأحزاب السياسية برغم المحاولات المستمرة لإضعافها بتقييد المجال العام أو تبني نظم انتخابية ترتكز إلى القائمة المطلقة لا النسبية، وهي نفس النسبة التي ترى أن المجالس التشريعية المصرية لا تمثل أطياف المجتمع المختلفة، بل إن 68% من المصريين يقبلون استلام حزب سياسي لا يتفقون معه السلطة -إذا حصل على الأصوات اللازمة لذلك في انتخابات حرة ونزيهة.
نحن بصدد مشكلة تمثيل في المجتمع، وهي ترتبط بحقيقة إدراكنا لطبيعة الدولة المصرية باعتبارها كيانا مصمتا لا تجري بين ربوعها وفي مؤسساتها ندافع بين أصحاب المصالح المتباينة للوصول إلى السياسات العامة، بل أزعم أن ما جرى خلال السنوات الثماني الماضية هو تقييد لكثير من قوى المجتمع لصالح فئات اجتماعية أخرى، فقد تم تقييد -على سبيل المثال- حراك العمال لصالح القطاع الخاص الكبير، وما يتخذ من قرارات وسياسات يعطي أولوية أكبر لهذا القطاع على حساب القطاع الخاص الصغير الذي يستوعب ما يقرب من 61٪ من العمالة المصرية.
3- يرى أكثر من 70% من المصريين (71%) أن النظام الديموقراطي لا يتعارض مع الإسلام، في مقابل 4% فقط يرون فيه تعارضا شديدا معه، ويرى 17% عدم ملائمة نظام محكوم بالشريعة بدون وجود انتخابات.
وهنا يحسن التوقف عن الكلام قليلا في هذا الموضع إذ لايزال الجدل محتدما في هذه المسألة بين الأعلى صوتا.
4- هناك مشكلة حقيقية لدى المصريين في تطبيق القانون بالتساوي بين الناس، إذ يرى الثلثين تقريبا (62٪) أن هناك محاباة في تطبيق القانون بالتساوي بين الناس.
5- تحتل محاربة الفساد وزنا مهما لدى المصريين، إذ يرى 70% منهم أنه منتشر، وفي نفس الوقت فإن الثلث تقريبًا (31%) لا يرون جدية للحكومة في مكافحته.
6- ديموقراطية لا تقصي أحدًا تقوم على التعددية، فعند سؤال المصريين عن مدى ملاءمة نظام سياسي تعددي تتنافس فيه الأحزاب غير الدينية فقط في الانتخابات الدورية، رأى قرابة الـ60٪ أنه غير ملائم، وفي المقابل رأى قرابة ثلاثة أرباع المصريين (73%) عدم ملاءمة نظام تتنافس فيه الأحزاب الإسلامية فقط.
يعود الرأي العام المصري ليؤكد بأغلبيته الكاسحة (90%) على تنافسية الأحزاب في انتخابات حرة ونزيهة أيًا كان انتماؤها.