كيف تتحقق التنمية في مجتمعات العالم الثالث؟ وما هو الأسلوب الرئيسي لتحقيقها؟ هذا هو السؤال الدائم الذي شغل ولا يزال بال وعقل الكثير من الباحثين والاقتصاديين والنخب الوطنية المختلفة، وفي الوقت نفسه لا يزال عدد من الحكومات يبرر إهمال تطبيق حقوق الإنسان بأنها ليست أولوية لديها، وأنها تسعى إلى حل مشكلة الفقر وتلبية حاجات الناس وحقوقهم في التنمية، ولكن فشلت في اختبار التنمية، وغابت حقوق الإنسان.

الكثيرون كانوا يبررون شعبية النموذج الناصري إلى كونه استطاع تحقيق احتياجات المواطنين الأساسية في التنمية وفي حياة معقولة تتضمن العمل بعد المرحلة الجامعية، وتوفير الحد الأدنى اللازم من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وفي المقابل لم يلتزم بتطيبق الحريات الأساسية من المنظور الليبرالي. بينما اختلفت المعادلة لاحقا، فلا حريات سياسية كاملة، ولا اهتمام بتلك الحقوق الأساسية في التنمية.

هذا يطرح الحديث حول تعريف التنمية، والنموذج المثالي لها في التجارب المختلفة، وعلاقة التنمية بحقوق الإنسان، وكيف نقوم بإدماج النهج الحقوقي في تحقيق التنمية؟ وهل تعد المبادرات التنموية المتعددة التي أطلقت خلال السنوات الأخيرة في مصر نموذجا تنمويا مناسبا؟ وهل حققت نتائج واضحة في هذا المجال؟ أسئلة كثيرة، تحتاج إلى قراءة أولى للأدبيات الدولية المختلفة، ليمكن الاستفادة منها، في وضع دليل نظري وعملي لنموذج تنموي حقيقي يمكن تطبيقه في مصر والعالم العربي.

هناك عدة أدبيات على المستوى النظري تحدثت عن مفهوم التنمية مبكرا، منها اعلان الحق في التنمية الذي اعتمدته الأمم المتحدة عام 1986، ويتضمن 10 مواد محورها الرئيسي الربط بين التنمية والبعد الحقوقي، مشيرا إلى عدد من القواعد أهمها:

ـ تعزيز التنمية يتطلب الاهتمام بتعزيز وحماية الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنظر فيها بصورة عاجلة.

ـ لا يمكن تبرير تعزيز بعض حقوق الإنسان والحريات الأساسية واحترامها والتمتع بها، بإنكار غيرها من الحقوق والحريات. وهذا ما يقودنا لدرس مهم أنه لا يجوز إهمال الحق في حرية الرأي والتعبير، بمقولة إننا في مواجهة مشاكل التعليم والصحة والإسكان أولا.

كلنا يعرف أن هناك الحقوق السياسية والمدنية هي حقوق سلبية الطابع، أي لا تحتاج إلى موارد مالية لاحترامها وتفعيلها، في المقابل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تحتاج إلى موارد مالية لتحقيقها، سواء ببناء المساكن والمستشفيات وخلق فرص عمل للتخفيف من البطالة. أي أن احترام الطائفة الأولى ليس مكلفا ولكنه ضرورة لضمان التمتع بالطائفة الثانية من الحقوق، فلا تجزئة بين الحقوق بشكل عام.

والحق في التنمية حق من حقوق الإنسان غير قابل للتصرف ويحق لكل إنسان لجميع الشعوب المشاركة والإسهام في تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية والتمتع بهذه التنمية التي يمكن فيها إعمال جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية إعمالا تاما.

أيضا يؤكد الإعلان أن الإنسان هو الموضوع الرئيسي لعملية التنمية، كونه المشارك الرئيسي في التنمية والمستفيد منها في آن واحد.

كما يؤكد الإعلان على عدة التزامات أساسية من جانب الدول أهمها:

ـ ضمان الدول مبدأ تكافؤ الفرص للجميع في إمكانية الوصول إلى الموارد الأساسية والتعليم والخدمات الصحية والغذاء والإسكان والعمل، وفي نفس الوقت التوزيع العادل للدخل. (م 8)

ـ على الدول اتخاذ تدابير عاجلة لضمن قيام المرأة بدور نشط في عملية التغيير، وتشجيع المشاركة الشعبية في جميع المجالات بوصفها عاملا مهما في التنمية وفي الإعمال التام لحقوق الإنسان.

ـ جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية متلاحمة ومترابطة وينبغي الاهتمام على قدم المساواة لإعمال وتعزيز وحماية حقوق الإنسان والنظر فيها بصورة عاجلة (م 6).

كما ركز إعلان الألفية الصادر في عام 2000 (قرار الجمعية العامة 55/2)، على تخليص البشر، رجالا ونساء وأطفالا، من ظروف الفقر المدقع المهينة واللاإنسانية“.

من ناحية أخرى، اعتمدت الأمم المتحدة عام 2015 خطة التنمية المستدامة لعام 2030 بالإجماع، والتي تتضمن 17 هدفا، وغاياتها 169، وتتضمن231 مؤشرًا لتحقيق هذه الغايات، ومن أهمها مكافحة الجوع والفقر وتحقق المساواة وحقوق التعليم والصحة والحفاظ على البيئة ومواجهة تغيرات المناخ.

وتشير الدراسات المختلفة إلى وجود عدد من المعوقات تقف أمام تحقيق المشاركة الشعبية في تحقيق التنمية من أهمها:

ـ سيطرة الخبراء الأجانب والتكنوقراط والتي تكلف الدول أيضا مبالغ مالية متزايدة وغياب الأولويات الوطنية.

ـ طغيان دور الدولة، وتركيزها على إظهار النجاحات، وهو ما يعتبر (تسييسا) للعمل التنموي في الدول النامية وتشيع هذه الممارسات بشكل كبير في مصر، بالإضافة إلى الانتقائية في تحديد الفئات المشاركة واقتصارها في أحيان كثيرة على بعض قادة المجتمع والنفوذ.

في نفس الوقت تؤدي سيطرة النخب إلى تفريغ المشاركة من محتواها، كما ينشأ تضارب بين اهتمامات المجموعات السكانية المختلفة داخل المجتمع. يلاحظ أيضا عدم الاهتمام بالمؤسسية والأطر التنظيمية.

في الوقت ذاته، كثيرًا ما يقتصر النهج التنموي على الطابع الخيري بتوزيع المساعدات ومواد الإغاثة بدلا من معالجة عوامل وأسباب الأزمات والفقر.

أيضًا لا تضمن القوانين المختلفة وجود قنوات سياسية أمنة للمشاركة، سواء داخل الأحزاب السياسية أو النقابات أو الجمعيات الأهلية. كما يؤدي تدني درجة وعي المواطنين إلى ضعف الاهتمام بالمشاركة.

يكمل تطبيق هذا النموذج التنموي ما يعرف باسم الحكم الرشيد، ويعني الإدارة الشفافية والقابلة للمحاسبة للموارد البشرية والطبيعية والاقتصادية والمالية لفرض التنمية المنصفة والمستمرة، ضمن نطاق بيئة سياسية ومؤسساتية تحترم حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية وحكم القانون.

وهذا يتطلب تطبيق عدة مبادئ أهمها الشفافية فيما يتعلق بتقييم المعلومات، المسئولية، دولة القانون، الإيمان بقاعدة المشاركة.

ويطرح ذلك عدة أبعاد لتطبيق الحكم الرشيد منها البعد السياسي، والذي يتناول طبيعة السلطة وشرعية تمثيلها، البعد التقني (الإداري) بوجود منظومة إدارية فاعلة، البعد الاقتصادي بخلق منظومة اقتصادية متزنة تعمل على تلبية حاجات المجتمع.

في البداية، ظهرت عدة انتقادات لمدخل التنمية التقليدي، بخصوص التركيز على نصيب الفرد من الدخل الوطني أو الناتج المحلي لتحديد حالة النمو من عدمها. فيما بعد ظهر مفهوم التنمية الثقافية والاجتماعية بهدف تطوير التفاعلات المجتمعية بين الأفراد والجماعة والمؤسسات الاجتماعية المختلفة.

ثم استحدث مفهوم التنمية البشرية الذي يهتم بدعم قدرات الفرد وقياس مستوى معيشته وتحسين أوضاعه في المجتمع لتتضمن أيضا عملية توسيع خيارات لبشر والتأكيد على أن البشر هم الثروة الحقيقية للأمم. وهي تدخل البعد البيئي في مجالي الاقتصاد والتنمية.

يشير تقرير التنمية البشرية الصادر من الأمم المتحدة عام 1999 أن اولويات الفقراء مختلفة عما يفترض من لم يعانوا من الفقر، فزيادة الدخل هي شيء واحد مما يرغب فيه الفقراء، ولكنهم يحتاجون إلى تغذية كافية ومياه نظيفة، خدمات طبية، تعليم مدرسي لأطفالهم، مأوى مناسب، عمل مستمرة، مصدر رزق مضمون، اعمال مجزية مرضية، وهي أمور لا تظهر في ارتفاع نصيب الفرد من الدخل.

وهناك ثمة حقوق ضرورية للتنمية مثل حرية التنقل، وحرية الرأي والتعبير، والتحرر من القمع والاستغلال، وحماية العمال من الفصل التعسفي من العمل. والمشاركة في الحياة العام، واحترام دور المجتمع المدني.

لكن ما هي التعريفات المتداولة للتنمية المستدامة:

ولاحقا، ظهر مفهوم التنمية المستدامة، وأبرز التعريفات تشير إلى أنها نوع من التنمية تفي باحتياجات الحاضر دون الجور على قدرة الأجيال القادمة في تحقيق متطلباتهم، وهي لا تمنع استخدام الموارد الاقتصادية مثل ” المياه، النفط، الغابات”، ولكنها تمنع الاستغلال الجائر بالدرجة التي تؤثر على نصيب الأجيال القادمة من تلك الموارد، خاصة إذا كانت قابلة للنضوب وغير متجددة كالنفط مثلا.

لا تحمل التنمية المستدامة الأجيال القادمة أعباء إصلاح البيئة التي تلوثها الأجيال الحالية. وهي تراعي الجوانب البيئية والتنمية الخضراء أو المتواصلة وهي تراعي معايير الاقتصاد الأخضر والبعد البيئي أثناء عملية إنتاج السلع.

تهدف التنمية المستدامة إلى التخفيف من وطأة الفقر على الفقراء من خلال تقديم حياة آمنة ومستديمة، والحد من تلاشي الموارد الطبيعية وتدهور البيئة والخلل الثقافي والاستقرار الاجتماعي.

وتركز على الاستخدام الأكفأ للموارد الاقتصادية والإنتاجية المتاحة بهدف تحسين نوعية الحياة البشرية، أي العيش حياة طويلة صحية لاكتساب المعرفة والوصول إلى الموارد اللازمة لمستوى معيشي لائق. وتتبنى الحكمة في استخدام الموارد

كما تسعى إلى توسيع الخيارات الإنسانية من اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية (تقرير التنمية الإنسانية العربية 1990)

التنمية تتأسس على الحق لا الحاجة

دعم المجتمع الدولي بكافة مؤسساته الرسمية والأهلية قضية الربط بين التنمية وحقوق الإنسان، واعتبر المشاركة والتعددية هما أساس التنمية الاقتصادية.

وعمل على تعزيز سياسات وبرامج المنظمات غير الحكومية كجزء من المشاركة الشعبية، وإبراز حريات الرأي والتجمع وتكوين الجمعيات التي تناقش قضايا التنمية.

وأظهرت دراسات الأمم المتحدة أن أكثر القضايا إلحاحا في عملية التنمية التي تؤثر على حقوق الإنسان تكمن في تخفيف حدة الفقر والقضاء على البطالة وتعزيز التكامل الاجتماعي.

كما يشير المفكر الحقوقي السوداني أمين مكي مدني إلى أن حقوق الإنسان والتنمية المتواصلة يدعمان بعضهما البعض، فالتنمية لن تستمر إذا ما كانت لتشريعات والقوانين لا تساوي بين الأفراد في المجتمع الواحد، وحيث لا تتوفر حرية الرأي والتعبير، أو حيث يعيش عدد كبير من السكان في فقر مدقع، وفي المقابل تتدعم حقوق الإنسان وتحقق نجاحا إذا ما نجحت جهود التنمية في خفض الفقر وتحقيق المساواة الاقتصادية ولاجتماعية بين الأفراد وزيادة وعي الأفراد بحقوقهم ومطالبهم. (دليل حقوق الإنسان والتنمية: المنظمة العربية لحقوق الإنسان).

وتعرف التنمية القائمة على نهج حقوق الإنسان بأنها إطار فكري لعملية التنمية الإنسانية يؤسس على تفعيل المعايير الدولية المعنية بتعزيز وحماية حقوق الإنسان، وفي مقدمة هذه العملية تتأسس التنمية على الحق بدلا من الحاجة، حيث يستند مفهوم التنمية إلى نهج الحق على إدماج المعايير الدولية الملزمة في سياسات وخطط ومشاريع التنمية، وتستند تلك المعايير الدولية لحقوق الإنسان على عدة مبادئ أهمها:

ـ تبني المعايير القانونية الدولية بالتصديق على المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وادماجها في إطار وبرامج التنمية.

ـ جعل الحكومات مسئولة بصفة مباشرة عن تفعيل تلك الحقوق بالنسبة للمجموعات والفئات المختلفة بصفة حقوق وليس احتياجات ترى الحكومة جواز توفيرها.

ـ تقديم العون لتلك الحكومات بتفعيل تلك الحقوق وتحديد الإجراءات القانونية التي يجوز للمجتمع الدولي أو المواطنين اتخاذها في حالة إخفاق الحكومات في الوفاء بالتزاماتها.

ـ وضع مؤشرات حقوقية وتنموية وإجراءات رصد منتظمة لضمان تحقيق الوفاء بتلك الالتزامات القانونية.

ـ الأخذ بعين الاعتبار المبادئ العامة المتعلقة بحقوق الإنسان وأهمها عالمية هذه المبادئ وتداخلها وعدم قابليتها للتجزئة.

ـ المحاسبة من خلال تحديد أصحاب الحقوق واستحقاقاتهم ومن تقع عليهم الواجبات والتزاماتها الإيجابية ممثلة في الحماية والتعزيز والعون، والسلبية من خلال الامتناع عن الانتهاكات.

ـ تبني القوانين والسياسات وبناء المؤسسات والإجراءات والممارسات والآليات اللازمة للمعالجة والمحاسبة اللازمة لإيصال الاستحقاقات الاستجابة لدعاوي الانتهاكات وضمان مساءلة أجهزة الدولة.

ـ وضع الآليات التشريعية والإدارية والمؤسساتية لتفعيل تلك الحقوق وهذا دور أساسي للدولة.

ـ تعزيز مفهوم التمكين من خلال إعطاء البشر القدرة والقدوة والكفاءة اللازمة لتحسين حياتهم والارتقاء بمجتمعاتهم.

ـ حق الفئات المجتمعية المختلفة ومنظمات المجتمع المدني في المشاركة بتقديم مساهمة حقيقية وفاعلة وليست مجرد مظهر أو اشراك رمزي. وهو ما يتخلص في الحق في المساهمة في الشئون العامة.

ـ حل التناقض بين الحكومات والمنظمات غير الحكومية، من خلال التأكيد على مفهوم المشاركة بينهم في صنع القرار ولا تعني تلك المشاركة التماهي بين الطرفين أو انتزاع صفة الاستقلالية من تلك المنظمات.

فهل تفي الحكومة المصرية بهذه المقومات وتؤمن بمفهوم التنمية المستدامة كما جاء في تلك الأدبيات الدولية بما يحقق الربط بين كل من التنمية وحقوق الإنسان ويعزز مفاهيم المشاركة والتمكين والمحاسبة؟ هذا حديث طويل و يمكن تناوله في مقال آخر.