رفع المتظاهرون في شوارع العاصمة التونسية، يوم السبت الماضي، شعارًا في مواجهة الرئيس قيس سعيد، يقول “الشعب يريد ما لا تريد”، وطالبوه بالرحيل، في نفس الوقت الذي تمسك فيه الرئيس بمساره السياسي الذي بدأه في 25 يوليو 2021 حين أعلن قراراته الاستثنائية التي بدأها بحل البرلمان وتشكيل حكومة جديدة، ثم وضع دستور جديد عرضه على الشعب في استفتاء شعبي شارك فيه حوالي 27.54%، وصوت بنعم حوالي 94.54% (حوالي مليونان و607 آلاف ناخب) في مقابل 5.40% قالوا لا (حوالي 148 ألفًا و723 ناخبًا)، وعاد وقرر إجراء الانتخابات التشريعية الشهر الماضي على ضوء الدستور الجديد، وشارك فيها حوالي 10%  فقط من الناخبين، بعد أن قاطعتها معظم الأحزاب، وعادت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات لتعلن إجراء الجولة الثانية يوم 29 يناير المقبل.

وبالتوازي مع مسار الرئيس الذي دعمه في البداية غالبية الشعب التونسي، شهدت البلاد مسارين معارضين: أحدهما قادته حركة النهضة وحلفاؤها، والثاني قادته أحزاب وقوى أخرى، رفضت التحالف مع النهضة، ولكنها تراجعت عن تأييد الرئيس، وعلى رأسها الاتحاد التونسي للشغل، وأرجعت ذلك إلى تخبطه في كثير من القرارات السياسية، وأيضا عجز حكومته عن حل المشاكل الاقتصادية المتزايدة.

والحقيقة، أن الشعار الذي رفعه المتظاهرون كاشف لأزمة عميقة تشهدها البلاد، فرغم أنه من الصعب القول إن كل الشعب التونسي يرفض ما يريده الرئيس، إلا أنه بلا شك هناك فارق كبير بين أولويات وتصورات الرئيس للخروج من أزمات تونس، وبين تصورات غالبية الناس.

فالرئيس يرى أن الديمقراطية التمثيلية التي قادتها الأحزاب طوال السنوات العشر الماضية فشلت ولم تؤد إلى حل مشاكل الشعب واعتبر أن الحل هو في تهميش الأحزاب وإلغاء السياسة والرهان على الرئيس المخلص أو المنقذ، وقد أيد قطاع واسع من الشعب التونسي ما يريده الرئيس في البداية واعتبر أنه حانت الفرصة للتخلص من حكم النهضة ومن المحاصصات الحزبية التي تقاسمت السلطة من أجل مصالحها وليس لصالح الشعب، أي أن الاتفاق والاختلاف مع ما يريده الرئيس أو أي نظام سياسي ليس أمرا ساكنا إنما هو متغير تبعا للسياسات المتبعة.

فأغلبية الشعب التونسي شعرت بعجز منظومة الحكم الدستورية والسياسية التي تأسست عقب الثورة عن تلبية احتياجاتها، مما دفعها إلى دعم ما يريده الرئيس وتأسيس نظام رئاسي ديمقراطي ينجز ويحل مشاكل الناس، ولكن ما جرى على مدار ما يقرب من عامين هو تعمق المشاكل وعدم حلها، خاصة بعد تجاهل الرئيس للمؤسسات الوسيطة سواء كانت حزبية أو نقابية، وتظاهرت ضده قوى دعمته سابقا مثل الحزب الدستوري الحر الذي تقوده عبير موسي الخصم اللدود لحركة النهضة.

كما وجه الاتحاد التونسي للشغل انتقادات كثيرة لأداء الرئيس رغم أنه دعم في البداية “ما يريد”، خاصة ما يتعلق بالقطيعة مع المنظومة السابقة، وأعلن الاتحاد عن مبادرة وطنية للخروج من الأزمة بعيدا عن الأحزاب وبالتنسيق مع عميد (نقيب) المحامين التونسيين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.

فرصة قيس سعيد في تجاوز الأزمة واردة، إذا استخلص العبر من مظاهرات السبت الماضي، وعرف أسباب تراجع شعبيته بين قطاع يعتد به من جمهوره ومؤيديه، وتوقف عن تجاهل المؤسسات الوسيطة وخاصة الاتحاد التونسي للشغل الذي يضم أكثر من 500 ألف عضو وله قاعدة اجتماعية حقيقية.

ما يريده الرئيس كان في البداية محل دعم غالبية الشعب التونسي، ولكنه لم يعد الحال حاليا وهذا يرجع إلى أن الموقف المبدئي الذي انطلق منه كان يريده أغلب الناس، ولأن السياسة وحكم الدول لا تقوم فقط على موقف مبدئي أو رؤية ثابتة، إنما أيضًا أو بالأساس على برنامج عمل يومي وممارسة سياسية، وهذا ما لم ينجح فيه الرئيس على مدار ما يقرب من عامين وبات لا يريده كثيرين من أبناء الشعب.

معضلة خطاب سعيد أنه منفصل عن الواقع وهموم الناس، فلو اشتكي الشعب من الغلاء، يقول هناك مؤامرة على تونس، وإذا قال الناس إن هناك قيود على الديمقراطية فيرد بأنه يجب مواجهة الخونة، وابتعد بذلك عما يريده غالبية الناس.

ورغم كثير من الاخفاقات التي شهدتها التجربة التونسية إلا أنها لم ولن تتحول لتجربة استبدادية لأسباب كثيرة منها قوة الاتحاد التونسي للشغل، وحضور المجتمع المني والأحزاب على مشاكلها، وفي نفس الوقت عدم قدرة الرئيس على إغلاق المجال العام والسياسي، فلم يعتقل قادة الأحزاب التي ينتقدها كل يوم ويحملها مشاكل البلاد، وترك قادتها ينتقدونه ويتظاهرون ضده. وبدا واضحًا أن هناك استحالة على الرئيس الحالي أو القادم أن يغلق المجال العام والسياسي حتى لو فرض عليه بعض القيود.

ميزة تونس وفرصتها في بناء الديمقراطية ودولة القانون رغم مشاكلها الكثيرة، تكمن في أن قطاع كبير من الشعب قال ما لا يريده الرئيس بشكل سلمي وديمقراطي، ليس فقط بالتظاهر إنما أيضًا عبر خطاب من قوى اعتبرت “رمانة ميزان” في البلاد وكانت داعمة في البداية للرئيس مثل الاتحاد التونسي وأحزاب أخري، وهو سيعني أن أمام المعارضة المدنية فرصة حقيقة لتقديم مرشح في الانتخابات الرئاسية التي ستجري العام القادم، لأن منظومة الحكم في تونس تسمح بوجود المعارضة التي تمتلك فرص للتغيير السلمي الديمقراطي، وهذا يتطلب التوافق على مرشح مدعوم من الاتحاد التونسي للشغل قد يمثل بديل لمشروع الرئيس ومشروع حركة النهضة على السواء.