الماء الساخن والملح وطبق ليضع قدميه المتعبتين من الوقوف طويلًا أو السير، هذا المشهد الذي قدمته السينما ووعته نساء كثيرات، فعل به من الاهتمام والمشاركة، وليس الانسحاق والضعف، وشتان بين المشاركة والتبعية، ولكن لصالح آخرين يتم تفريغ الفعل من معانيه الجميلة ليُصبح دلالة ضعف وتبعية.

اقرأ أيضا.. الفرص ولحظات الندم

هؤلاء الذين يسعون بجد لاستخدام الرجل المصري جسرًا لشهرتهم سواء بتفخيمه أو بجعله العدو، كلا الطرفين يستغل لحظات الاحتياج لكلمة حلوة وفعل تدليل هو ثمرة تقدير لما يبذله الرجل في معركة الحياة، وبينما الطرفان يستغلان الرجل واحتياجاته تلوح صورة سي السيد كرمز وهدف.

كان الوعي بالرجل المسيطر أو ما عُرف باسم “سي السيد” كما جاء في روايات العبقري نجيب محفوظ، هو وعي ابن مرحلة، ذات معايير ومواصفات، عرفت خلالها المرأة سوق العمل بمحدودية شديدة، وكانت المشاركة نسبية، ففي ذات الفيلم الذي قدم سي السيد قدم ابنه البكري الذي يتزوج من الراقصة زبيدة ويشاركها تفاصيل العمل بالبيت، وأمه التي رفضت الانصياع لتسلط سي السيد، وعاشت حياتها كما تُحب، لكن تم تعتيم هذه الشخصيات لصالح سطوة الذكر، الحلم الذي يظهر من آن لآخر في عقول الرجال.

الطريق لاختفاء سي السيد

حينما خرجت النساء في بداية القرن العشرين تُطالب بأجور تُساوي أجور الرجال عن نفس الوظائف، كان ذلك إيذانًا بتغير جديد في خلطة الحياة التي كانت قائمة على وجود النساء في الصفوف الخلفية بوصفها مسئول الأمن الداخلي، لكن التغيرات الاجتماعية والحياتية بشكل عام تطرح في كل يوم، جديدا في المعادلة، فالجيل الذي يصحو ليتناول إفطاره شاي بلبن وبعض المخبوزات هو نفس الجيل الذي يصحو أطفاله ليتناولون إفطارهم “بان كيك” و”كورن فليكس” وأشياء أخرى قد لا يعرفها بعضنا ويندهش عند سماعها.

يحدث تماهي مع التغيرات بوصفها شيء عادي، وكثير منا لا يتلفت لتلك التفاصيل، تغيرت الظروف، سافر الرجال للعمل والسعي، وتحملت النساء المسئولية، خرجت النساء للعمل وأنتجت، شاركت في كسب المال، وفي صناعة القرار، تم توصيل المياه لأغلب البيوت فلم يعد للإبريق قيمة، تبدلت الأزياء فاستبدل كثير من الرجال القميص والبنطلون بالجلابية.

تتبدل الأحوال، يزيد عدد السكان، وبات الرجل وحده قلما يستطيع تحمل تدبير التزامات أسرته، أخذ التعاون أشكالًا مختلفة، فالمرأة التي كانت خلف الشيش لا دور لها سوى الطهي، والبعض منهن كانت لديهن شغالة تعاون، نساء كن يُشاركن في الظل، وانكسر الظل ليكون في العلن.

الرجل نفسه تخلى عن دور الوصي طواعية، شارك امرأته وأمه وأخته وزميلته المسئولية، لكنها النوستالجيا للسيطرة ودلع الماضي كما يعتقدون أنها ممارسات للتدليل، لكن لا شيء مجاني، وما غرسته الأيام والتطورات لا يمكنك أن تقتلعه في لحظة حنين.

مقادير عمل “سي السيد”

مكسرون نحن أسفل ضغوط ومسئوليات تزيد كل يوم، تراودنا لحظات الحنين إلى الراحة، كثير من التدليل، حياة بلا مسئولية، لا التزام لحظات مثل هذه تمر علينا جميعًا أيا كانت أفكارنا ومنطقنا في التعامل مع الحياة، لكن مَن مِنا لم يحلم بلحظة مثل هذه؟

التدليل الذي يحلم به الطرفين تحقيقها لا يعني سيادة طرف على الآخر، أو ضعف من طرف، لكنه شكل من التقدير لجهد الآخر، وفي سياق الاستهلاك يتم تعتيم كل دلالات الفعل ونستبقي الاسم والفعل كإشارة سيطرة وضرورة بحكم النوع، وليس كاحتياج إنساني مشروع، فمناقشات الاحتياجات بجدية ورصانة لا سوق لها، والضوضاء هي التي تلفت الأنظار.

يُدرك هذا الإحساس أباطرة يراقبون من بعيد، يسعون للكسب من كل شيء وأي شيء، حتى الأحلام والأفكار التي تمر بخاطرنا، إنهم مثل ناموس ينتظر لحظة غفوة حتى يبدأ في امتصاص دمك.

وبينما الأحمال تتثاقل، أحدهم قرر مغازلة لحظات الحنين عند الرجال، فخرجت امرأة تُطالب بتدليل الرجل، تُبالغ في الوصف والتفخيم، تصنع منه هيرقل، وتُقدمه كبطل خارق، تحثه على الانقلاب على المشاركة وتؤكد بطولته، لا بأس، فكم من كلمة حق يراد بها باطل.

قديمًا كان سي السيد تاجر معروف، يسكن بيت كبير من طابقين، يتعلم أولاده في وقت كان التعليم فيه غير متاح للجميع، لم يكن سي السيد سوى آمرًا، وكل أفراد الأسرة ظاهريًا أتباع”.

فهل نطلب أن يحكم الرجل في الظاهر وكل شيء يتم دون علمه؟

إذا كنتي تطالبين بتدليل الرجل فكيف يدلل هو امرأته؟ هل تطالبين أن تخدع المرأة الرجل بكلمات لأنها تُعاني دون أن يهتم بمعاناتها ذات الرجل؟

الرجال مدفوعون بالأمل في لحظات راحة يشعلون النار في هشيم الترند، ومن جهة أخرى تزيد النساء المستفزات من طريقة كل من أرادت شهرة فذهبت ناحية المبالغة، تُستفز النساء، لتزيد المشاهدات وتكسب الإعلامية ومن يرعى حملتها، ونحن المهزومين على كل ناصية، ندخل معارك وهمية، الرجال معتقدين أن النساء تغارن من امرأة تمتدح الرجل، والنساء غاضبات من نوعية الكلام عن الرجل لا لشيء سوى نوعه، وهناك كثير من الرجال بحاجة إلى مدح حقيقي لجهدهم ودأبهم.

قولي له يا سي

استبدال الفعل بالكلام توجه ساد منذ فترة في دفع بالسطحية وطمس للقيم، تقليل الجهد مقابل تعظيم الفهلوة والنصب وسلوكيات كانت قديمًا وصم، فباتت هي الأشهر، فهل فكر أحدكم ماذا لو أن شريكته قالت له يا سي .. ثم باتت تفعل كل شيء دون علمه؟ هل يريد أحدكم أن يعيش هذه الحالة؟؟

تشجيع خداع الرجل بدعم من الرجل ذاته هو نفق نهايته تهشيم في العلاقات، فالرجل الذي كبر وتربى على المشاركة، رأي المرأة مُدرسة وعاملة ومهندسة، كبر وأمه ترعى البيت وتعمل وتساند والده، هذا الرجل ذاته سيفرح بالتدليل الظاهري قليلًا لكنه سرعان ما سيمل من هذه الحالة المنسحقة للمرأة، والتي ستدفعه هو نفسه للضيق والهروب بحثًا عن امرأة حقيقية تُشاركه، تصنع معه حياة حقيقية وليست مجرد زيف كما يحاولون أن يصنعوا لنا.

من السهل أن تقول المرأة لرجل “يا سيدي” لكنها تفعل عكس ذلك، ليس صعبًا أن يخدع إنسان آخر بمعسول الكلام، لكن التجربة الحقيقية تحتاج أفعال، تحتاج شخصيات حقيقية وليست بيوتًا من ورق، ستقول الزوجة لزوجها يا سي .. ثم تسخر منه مع رفيقاتها، لأن القائد ليس قائدًا بالكلام لكن بتحمل المسئولية والقدرة على اتخاذ القرار السليم، القائد هو الذي يدعم من حوله، ويكبرون في وجوده لأن تحققهم ونجاحهم نجاح أكبر له، ألم يقل أب أحد منا لنا “شايف .. حصل زي ما قلت لك” كبرنا ونحن نتعلم أن رؤية أباءنا وأمهاتنا كانت مستشرفة، الخبرة أصقلتها واتساع الرؤية دعمتها.

وبين الشحن للثورة والغضب من الرجل من جهة، ثم الدفع بحنية وتدليل مصطنع لا يخرج عن حيز الكلام من جهة أخرى تثار معارك حصيلتها ملايين المشاهدات وآلاف الدولارات تدخل جيوب من لا يفعلون ما يطلبونه من الآخرين.

لم أجد إحداهن تنصح النساء بإدارة الغضب والمشكلات، أو توفير الراحة الحقيقية ودعم الرجل بمواقف، وربما لن نجد فمثل هذه النصائح لا سوق لها، لأنها تبني وتعزز القيم، بينما الهدم أسهل وغنائم الهدم أكثر وأسرع ربحًا.

وبينما نعاني جميعًا من الأعباء الاقتصادية لا مانع أن نُزيد ثرواتهم بمعارك مختلقة ومشاهدات مليونية، استمروا ما دام الزيف والسطحية صارت علامة أقوى.