أعلنت الحكومة في الأسبوع الماضي إطلاق مبادرة تمويلية جديدة لقطاعي الصناعة والزراعة، بحجم تمويل 150 مليار جنيه، وسعر فائدة على القروض بنسبة 11%، بهدف تمويل الأنشطة الاستثمارية في هذين القطاعين بتكلفة منخفضة، يخصص منها 140 مليار جنيه لعملية تمويل رأس المال العامل ( تكاليف التشغيل )، و 10 مليارات جنيه لتمويل شراء السلع الرأسمالية ( معدات وآلات وخطوط إنتاج). طرحت المبادرة أيضًا شرطًا بأن يكون الحد الأقصى لتمويل كل شركة هو 75 مليون جنيه بناءًا على حجم أعمالها، لضمان حسن إدارة المخاطر المالية من ناحية، ومن ناحية أخرى إتاحة أكبر قدر ممكن من التمويل لأكبر عدد ممكن من المنشأت.

اقرأ أيضا.. خطورة اتساع الدولرة

تكمن ميزة تلك المبادرة هي في انخفاضها عن السعر الرسمي للفوائد في البنوك، حيث تقدر أسعار الفائدة “الأساسية” المعلنة من البنك المركزي عند 17%، فضلًا عن نسبة إضافية لكل بنك من البنوك على هذا السعر الأساسي، مما يعني أن تكلفة التمويل قد تصل إلى 20% وأكثر، وبالتالي تكمن هنا أهمية المبادرة الحكومية التي تحل محل مبادرات البنك المركزي السابقة التي أعلن عن توقفها في الشهور الأخيرة.

الفارق بين هذه المبادرة ومبادرات البنك المركزي السابقة، أن الدعم سيأتي من الموازنة العامة للدولة وليس من أرصدة البنك المركزي، وبالتالي تتحمل الموازنة العامة انحيازاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بدلًا من تحمل السياسة النقدية لها، والتي ساهمت وجود مبادرات تمويلية بأسعار فائدة مختلفة إلى تشوه في السياسة النقدية وكفاءة أدواتها، ما دعا صندوق النقد الدولي وممثلي الحكومة والبنك المركزي إلى الاتفاق على إيقافها في إطار مفاوضات برنامج الإصلاح الحالي بين الحكومة والصندوق.

إعلان رئيس الوزراء عن المبادرة والذي جاء بحضور وزيري المالية والزراعة، واتحاد الصناعات المصرية، وجمعية رجال الأعمال المصرية، لا يزال ينتظر اجتماع الحكومة يوم الأربعاء – قبل كتابة هذه السطور – والذي سيخرج عنه الكثير من التفاصيل المنتظرة حول آليات وإجراءات المبادرة التفصيلية، والتي ستكون بمثابة قبلة حياة للقطاع الصناعي الذي يعاني بشدة من نقص التمويل ومصاعب عديدة من تدبير العملة الأجنبية، وارتفاع أسعار الخامات والطاقة ومعدلات التضخم بشكل عام، وغيرها من المشاكل التي تحتاج الكثير منها طاقة تمويلية جديدة تستطيع الحفاظ على الحد الأدنى من التشغيل وانتظام الوحدات الإنتاجية.

ما أتصور أنه ضروري لتكامل هذه المبادرة، هو ضرورة الحفاظ على مستويات التشغيل داخل الوحدات الاقتصادية التي تحصل على هذا التمويل، بمعنى أن يكون هناك شق من الدعم ذو هدف اقتصادي وهو الحفاظ على إنتاجية بعض القطاعات الهامة لتخفيف موجات التضخم لاسيما في السلع الأساسية، أو النشاطات التي تساهم في توطين الصناعات وخفض فجوة الاستيراد أو زيادة الصادرات، بل يجب أن يتخطى هذا الدعم إلى تقليص معدلات البطالة المتوقعة بالتزامن مع السياسة النقدية المتشددة التي يتخذها البنك المركزي.

حصر العمالة وتسجيلها يساهم أيضًا في تطوير وتحسين استهداف برامج الضمان الاجتماعي، فبالأمس القريب أثناء جائحة كورونا تمكنت الحكومة من تنظيم مبادرة لدعم العمالة غير المنتظمة لعدة أشهر بمبلغ مالي محدد للحفاظ على حد أدنى من الإنفاق والاستهلاك لتلك الأسر، والتي لم يكن يوجد حصر بأي بيانات لهم، الآن قد تتيح هذه المبادرة أفضلية في تحسين قواعد بيانات العمال داخل المنشآت الصناعية والزراعية، بدلًا من قواعد البيانات الرسمية غير الكاملة نتيجة إحجام القطاع الخاص عن تسجيل العمالة بشكل كامل بسبب تكلفتها المالية من تأمينات وثبات أجور وغيرها من الالتزامات، وبالتالي قد تمثل هذه المبادرة فرصة لتحسين قواعد البيانات وتخفيف الأعباء على المنتجين في جانب تسجيل العمالة بشكل كامل، ومن ناحية أخرى تمثل فرصة أمام الحكومة للحصر الدقيق للعمالة، واستقصاء دقيق لبياناتهم وبيانات أسرهم، ومن ثم استهدافهم لاحقًا في برامج الحماية الاجتماعية، أو في أي مستهدف قادم للتخطيط.

في ذات الإطار أتصور أيضًا، أهمية تمييز قطاع الأغذية بشكل خاص أكثر من أي قطاع آخر، نظرًا لما تمثله تكلفة الغذاء كأحد أكبر البنود في إجمالي إنفاق المواطنين، خاصة مع تفاقم مستويات التضخم للسلع الغذائية بشكل كبير خلال العام الماضي والتي تسببت في صعوبات ومشقات كبيرة على الأسر ذات الدخل المتوسط والأقل، من حيث تخفيض عدد الوجبات أو الاستغناء عن بعض السلع، أو محاولة ابتكار أساليب أو طرق لتناول كميات أقل من الغذاء أو باقتراض الكثيرين من أجل تمويل احتياجاتهم الغذائية، وهي جميعها أسباب ودوافع تدعو لمزيد من دعم الإنتاج الغذائي عبر خفض تكلفة الإنتاج ومراقبة الأسعار، ومراجعة جودة الإنتاج وغيرها من أدوات الدولة لتخفيف هذا العبء الكبير على المواطن، وبالتالي نحتاج لتمييز قطاع الأغذية تحديدًا بإجراءات خاصة.

يبقى التحدي الأساسي في هذه المبادرة والتي من المفترض استمرارها لمدة 5 سنوات، هو كيفية تدبير النفقات المخصصة لها، لاسيما مع اشتراط صندوق النقد الدولي، خفض مستويات العجز في الموازنة العامة، وترشيد النفقات الحكومية في بنود الاستثمارات والدعم، وهو ما يعكس أحد التحديات المالية للوفاء بهذه المبادرة وما تحتاجه الحكومة من أموال إضافية لتدبير باقي أوجه الإنفاق، وهو ما سينعكس على الحساب الختامي لموازنة العام الجاري، ومشروع الموازنة العامة للعام المقبل والذي من المفترض أن ترسل نسخته المبدأية إلى مجلس النواب خلال شهرين من الآن.

وبشكل عام فإن هناك جوانب أخرى لاتدخل في صلب المبادرة لكنها بحاجة للنقاش إذا ما كانت الحكومة تبحث عن دعم حقيقي للصناعة، وهي الزيادة الكبيرة في تكلفة مدخلات الإنتاج من أسعار الطاقة والكهرباء بالإضافة لما شرحناه سابقًا من تأثير تغير سعر الصرف، فضلًا عن العراقيل التي يواجهها أي مستثمر صناعي في بدأ أي نشاط جديد، سواءًا من تكلفة الأراضي، وترفيقها، والحصول على التراخيص المتعددة، وهو ما يتطلب أن تعالج الحكومة هذه الجوانب بشكل حقيقي لتتكامل الفائدة من هذه المبادرة على المستوى المتوسط والبعيد.

تكامل السياسات مع بعضها البعض يساهم في علاج القضايا بشكل حقيقي، وهو ما تحتاجه الحكومة عبر فرض إيقاع أسرع في إجراءات التراخيص، وخفض لتكلفة المرافق والأراضي التابعة لهيئة التنمية الصناعية، بما يضمن تسهيلات حقيقية لبدأ أي نشاط صناعي جديد لاسيما إذا كان يهدف لسد فجوة الاستيراد وتوطين الصناعات والسلع الوسيطة التي نستوردها، وبالتالي تتغير طريقة تعامل الحكومة مع ملف الصناعة من الهرولة لإطفاء الحرائق ومعالجة الطوارئ، إلى خلق مسارات طويلة الأمد تساهم بالفعل في نتائج رائعة على المدى الطويل والمتوسط، وهي قضايا تحتاج لتدخلات حاسمة وواضحة لإنقاذ وتطوير ملف الصناعة وإحداث طفرة به تليق ببلد يملك ١٠٠ مليون نسمة وموقع مميز على الخريطة!!