إذا كنت كاتبا أو أديبا مصريا، فإنك تعرف أنه لا أحساس أجمل لديك من اللحظة التي تعلن فيها أن كتابك الجديد سوف يصدر خلال معرض القاهرة الدولي للكتاب، تتعدد دورات معرضنا – وهو الأكبر جماهيريا في العالم لأن معرض فرانكفورت هو بالأساس فعالية ناشرين – وتتقدم السنوات وتتنوع الكتب ويظهر مبدعون ويختفي أو يرحل آخرون وتبقى عبارة “يصدر خلال معرض الكتاب” هي أجمل ما يكتبه المؤلف على صفحته في زمن التواصل الاجتماعي، أو مكتوبا في خبر في الجريدة قبل ظهور فيسبوك.

اقرأ أيضا.. “العنف والسخرية” في مسألة الترجمة للعامية

لا يقتصر ذلك الحماس على الكاتب وحده ولا الناشر، فالقراء، وخاصة المخضرمون منهم، الذين يعتبرون الكتاب عالمهم، أو ملجأهم من العالم، غذاء أرواحهم وعقولهم، هم أيضا، يشعرون بالحماس ذاته، يدونون اسم كل عنوان جديد يصدر لكتابهم المفضلين أو الناشرين الذين يثقون بهم، ينتظرون فتح أبواب المعرض ليطوفوا بين ملايين الكتب، وليملأوا – قدر استطاعتهم، وإمكاناتهم المادية –  حقائبهم بالجديد والمهم، في صراع يعرفه كل قارىء بين جيبه، ورغبته اللانهائية في قراءة الجديد.

في سياق هذا الصراع، بين إمكانات الجيب ورغبات العقل، نشرت وسائل الأخبار عن قرار اتحاد الناشرين توفير خدمة “تقسيط الكتب” (والمقصود طبعا تقسيط شرائها، لأن البعض “صدق أو لا تصدق” ظن أن المقصود تقسيط الكتب كالموسوعات مثلا)، وأعلن الاتحاد في بيان، أنه اتفق مع أحد البنوك الحكومية على “توفير ماكينات فيزا للناشرين أثناء معرض القاهرة الدولي للكتاب، تتيح للعملاء شراء الكتب بالتقسيط حتى تسعة أشهر، بدون رسوم فتح حساب، وبنسبة 1.5% على المبيعات”.

ليس المهم هو رقم نسبة الفائدة أو عدد شهور التقسيط، إنما الأهم هنا هو السبب، فرغم أن أسعار الكتب ترتفع كل سنة تقريبا، في إطار التضخم العام، إلا أن الارتفاع المنتظر هذا العام هو الأكبر بما لا يقاس، يقول البيان في موضع آخر ” أوضح اتحاد الناشرين المصريين أن هذا القرار يأتي في ظل ارتفاع أسعار ورق الطباعة بنحو 3 أضعاف خلال 2022 “.

كتب مكدسة على أرفف أحد المكتبات
كتب مكدسة على أرفف أحد المكتبات

هذه الزيادة الهائلة في سعر الورق، بالإضافة إلى ما عبّر عنه عدد من الناشرين من صعوبة توفير الورق نفسه، بسبب ارتفاع أسعار العملة الصعبة أمام الجنيه، أو بالأحرى، انخفاض الجنيه أمام العملات الصعبة، مما ساهم في زيادة إضافية في أسعار الورق، إذ كما هو معروف، ليس ميزان العملة وحده ما يتحكم بالسعر، بل أيضا حجم العرض مقابل الطلب، إن جميع عناصر الاقتصاد مرتبطة ببعضها البعض، فإذا انخفض الجنيه، زادت صعوبة الاستيراد، مما يقلل من حجم الورق المتوفر، فتزيد أسعاره بسبب قلة كمياته أمام طلبات الناشرين، ينعكس كل ذلك في النهاية كما نعلم على السعر النهائي للكتاب، وسوف يؤدي ذلك بالضرورة إلى انخفاض القوة الشرائية للقاريء، مما يعني مبيعات أقل لدور النشر، قد يدفع بعضها للخروج من السوق نهائيا، وبعض آخر إلى التركيز على الكتب ذات الصبغة التجارية، وبعض ثالث إلى زيادة سعرية جديدة مع تخفيض عدد إصداراتها.

لم يمر خبر “التقسيط” ببساطة، لقد أثار الكثير من التعليقات التي اختلطت فيها المرارة بالتفهم، على طريقة أنه “شر لا بد منه”، حتى أني قرأت تعليقات لقراء وكتاب من العالم العربي، اندهش أصحابها من الخبر رغم تفهمهم  بدورهم له، وإن كان ثمة نقطة ضوء في تعليقاتهم، فقد كان في رأيهم أن قرار تقسيط الكتب يعني أن في مصر سوقا حقيقية للكتاب، ينطبق عليها ما ينطبق على اقتصاد أي سلعة حيوية أخرى، نتيجة الطلب الكبير على الكتب، والذي يعني جمهورا واسعا من القراء.

من النقطة الأخيرة، نقطة السوق والاقتصاد، لفتني ما كتبه الأستاذ وائل لطفي رئيس تحرير جريدة الدستور، الذي تسائل: ” هل تعرف أن الكتاب المصري مصدر للعملة الصعبة؟ هل تعرف أن صناعة “الطباعة والتغليف والنشر” تحتل أحيانا المركز الأول في قائمة الصادرات المصرية؟ على الأقل هذا ما يقوله التقرير الربع سنوي عن صادرات مصر وتستطيع أن ترجع له بمنتهى البساطة.. أحيانا يمر ربع عام أو ثلاثة أشهر فنجد أن أكثر صادراتنا جذبا للعملة الصعبة هو الكتاب المصري.. إذا راجعت تقارير صادرات مصر خلال الأعوام العشرة السابقة مثلا فستجد أن الكتاب  يتربع في المراتب الخمس الأولى في قوائم ما تصدره مصر للعالم”.

ولفتني ذلك المقال الذي نشره الأستاذ وائل على صفحته على فيسبوك إلى بعد يتجاوز البعد الأساسي في مسألة صناعة الكتاب، أي البعد الثقافي والعلمي، إلى أهمية صناعة الكتاب المصري حتى كمصدر للعملة للصعبة، وقد رجعت – كما طلب في مقاله إلى الأرقام – ووجدت خبرا في بوابة الأهرام، يعلن فيه اللواء عصام النجار، رئيس الرقابة على الصادرات والواردات، أن قطاع الطباعة والتغليف قد تتجاوز صادراته هذا العام المليار دولار لأول مرة، وأن القطاع يستهدف زيادة ذلك الرقم بنسبة عشرة إلى خمسة عشرة في المئة في العالم الجديد، وصحيح أن قطاع “الطباعة والتغليف والورق” لا يقتصر على صناعة الكتاب، بل يمتد إلى المنتجات الصناعية وطباعة العبوات وتغليفها، وصحيح أن نسبة كبيرة من الكتب المصرية المصدر إلى الخارج كتب تراثية ودينية، وليست كتبا علمية حديثة، إلا أن كل شىء – في الاقتصاد والصناعة – يرتبط ببعضه في النهاية كما نعلم، و لايحتاج المرء أن يدرس تأثير الفراشة أو قطع الدومينو ليدرك أن ارتفاع أسعار الورق وصعوبة توفره سوف تؤثر على كل أجزاء وفروع صناعاته، وعلى رأسها الكتاب بأنواعه.

وبالطبع فإنني لم أتكلم هنا عن الأهمية الثقافية والعلمية لصناعة الكتاب لأنك عزيزي القارىء في غنى عن أن أحدثك عن ذلك، ولا أضع الاقتراحات لكيفية علاج الأزمة لأن خبراء الصناعة – صناعة الورق وصناعة النشر – أولى بذلك، والدولة أقدر على الدعم بطرق متعددة، ولو بإعفاء الناشر المصري من إيجارات المعارض،  وإنما فقط هي محاولة للتذكير بأننا – لا على مستوى الثقافة ولا على مستوى الاقتصاد – نتحمل أن نخسر صناعة النشر وسوق الكتاب، ولا نريد أن نصحو في يوم قريب فنجد أن الناشرين قد انتقلوا من هنا كما تنتقل الآن صناعة الترفيه، إن للمعرفة، وهي الباب (الوحيد) لتقدم الأمم، ذراعان هما عملية التعليم، وصناعة الكتاب، إذا كان التعليم يعاني، فيجب إنقاذ الكتاب لأنه يترنح!