قضت المحكمة الدستورية العليا، برئاسة المستشار بولس فهمي، السبت الماضي، برفض الدعوى المقامة طعنًا والمطالبة بعدم دستورية نص المادتين الأولى والثانية من القرار بالقانون رقم 32 لسنة 2014، بشأن تنظيم بعض إجراءات الطعن على عقود الدولة. وقد أكدت المحكمة أن توافر حالة الضرورة الداعية لإصدار القرار بقانون رقم 32 لسنة 2014 بتنظيم إجراءات الطعن على عقود الدولة وتحديد المشرع أصحاب الصفة والمصلحة في الطعن عليها لا يخالف أحكام الدستور.

اقرأ أيضا.. قانون الإجراءات الجنائية والتعديل التشريعي

وينص القانون الذي قضي بدستوريته على قصر حق الطعن على العقود الحكومية على طرفي التعاقد فقط وأصحاب المصلحة المباشرة، وهو ما يمنع الطعن أمام القضاء على أشياء من قبيل عقود الخصخصة التي تمت في أوقات سابقة، وقال المستشار محمود محمد غنيم، نائب رئيس المحكمة ورئيس المكتب الفني – في بيان– نشره موقع إيكنومي بلس، أن المحكمة استندت في حكمها إلى أن الاقتصاد القومي مر بمرحلة دقيقة احتاج فيها إلى العمل على جذب الاستثمارات الأجنبية، وحجب كل ما يزعزع الثقة في سلامة البناء الاقتصادي، وضمان احترام الدولة لتعاقداتها، ما حقق حالة الضرورة المبررة لإصدار القرار بقانون المطعون فيه، كما أضاف أن القرار (المطعون في دستوريته) لم ينطو على أثر رجعي ينال من حجية الأحكام التي صدرت في شأن تلك التعاقدات، كما لم يصادر حق التقاضي أو يقيده، بل جاء تنظيمًا لهذا الحق من خلال تحديد الفئات أصحاب الحق في الطعن على عقود الدولة، حاصرًا إياهم فيمن لهم حقوق شخصية أو عينية على الأموال محل التعاقد، وأطراف تلك العقود، وأضاف المواطن إلى تلك الفئات، حالة صدور حكم بات بإدانة أحد أطراف العقد في جريمة من جرائم العدوان على المال العام، إذا ما أبرم العقد استنادًا إليها، فأجاز للجميع الطعن ببطلانها، تحقيقًا لالتزام الدولة بمكافحة الفساد، على النحو الذي أوجبته المادة (218) من الدستور، كما أشار إلى أن هذا التنظيم المتكامل كفل الحقوق لأصحابها، دافعًا عن مجال التقاضي من ليس لهم مصلحة شخصية في الطعن على تلك العقود، صارفا عن الخصومة القضائية من توهم ضررًا أراد دفعه، أو من توسل بها لفرض سياسات اقتصادية لا تتفق مع توجهات الدستور الحالي، كما أن المشرع سعى من خلال هذا التنظيم إلى تشجيع الاستثمارين العام والخاص، وتوفير المناخ الجاذب له، على نحو يدعم الاقتصاد القومي، إنفاذًا للالتزام الدستوري المقرر بالمادتين 27 و28 من الدستور.

ويترتب على أثر ذلك الحكم الدستوري إلزام جميع المحاكم بعدم قبول دعاوى بطلان الخصخصة أو بيوع شركات القطاع العام والأموال العامة، سواء كانت تلك الدعاوى متداولة أو جديدة، وإلزام المحاكم بعدم قبول أي طعون جديدة من الأفراد على تعاقدات الدولة مع المستثمرين.

ومن زاوية ثانية فقد جاء الحكم اليوم مخالفًا لما أوصت به هيئة مفوضي المحكمة الدستورية في تقريرها، إذ أوصت بالحكم بعدم دستوريته استنادًا على أنه “لم يحز على موافقة أغلبية ثلثي النواب، المقدرة بـ397 صوتًا، وحاز على 374 صوتًا فقط بالمخالفة للمادة 121 من الدستور، رغم تعلقه بتنظيم الحق في التقاضي، وتنظيم ولاية جهات القضاء، وتعلقه بسلطة المحاكم على الدعاوى المنظورة أمامها، وهذ أمر شكلي من الاشتراطات التي يجب توافرها حال إقرار مثل تلك القوانين.

ولا أعتقد أن حرص الدولة على جذب استثمارات جديدة، وذلك لاحتياج الاقتصاد القومي لهذه التدفقات النقدية والاستثمارية يجب أن يكون سبباً لمصادرة الرقابة القضائية المتمثلة في رقابة المواطنين على المال العام، وبما يسمح لهم برقابة تصرفات الحكومة فيه عن طريق الحق في التقاضي، وهو الأمر الذي كان معمول به في حقبة ما قبل ثورة يناير، بل إن صدور الأحكام القضائية من محاكم القضاء الإداري كانت من أهم مقدمات تلك الثورة لما كشفته من أوجه فساد في إدارة المال العام، وهذا ما يتوافق مع نص الدستور المصري صراحة في المادة 32 منه بأن موارد الدولة الطبيعية ملك للشعب، وتلتزم الدولة بالحفاظ عليها وحسن استغلالها وعدم استنزافها، كما نص أيضا في المادة 34 بأن للملكية العامة حرمة، لا يجوز المساس بها، وحمايتها واجب وفقاً للقانون، كما جاء أيضا في المادة 97 من حظر تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء. فبماذا إذن سوف يحتمي المواطن في ظل القضاء بحظر رقابته على المال العام والمتمثلة في اللجوء للقضاء حتى يفعل رقابته على تصرفات السلطة التنفيذية فيما تبرمه من عقود تتعلق بالمال العام، حتى وإن تحججت بحالة الضرورة، فإنه من المتفق عليه أن الضرورات تقدر بقدرها، ولا يجوز التجاوز فيها أو التوسع فيها أو الخروج عن نطاقها.

وإذا كانت ما تمر به البلاد من ظروف اقتصادية حالية تشكل مبرر في قضاء الدستورية سالف الذكر، فإن ذلك لابد وأن يكون في سياق احترام القواعد الدستورية المقررة لحماية المال العام من ناحية، ومن أخرى عدم جواز تحصين أي عمل من رقابة القضاء. وأرى أن الأمر مرجعه حاليا يجب أن يكون في يد السلطة التشريعية المتمثلة في مجلس النواب لإعمال سلطته التشريعية الحقيقية في استبدال ذلك القانون الذي لا يعبر سوى عن إرادة ورغبة السلطة التنفيذية في التصرف في الأموال العامة وتجنيب الرقابة على تلك التصرفات من جانب الأفراد المخولة لهم بموجب الدستور حماية لملكيتهم للدولة وحقهم في رقابة من ينوب عنهم في إبرام التصرفات نيابة عنهم.

كما أنه لا يصح التحجج بالظروف الاقتصادية أو ازدياد حجم الديون على الدولة المصرية، بأن تكون سببا أو مرجعا للسلطة التنفيذية في التصرف في أموال الدولة بطرق لا تخضع لأي رقابة دون سلطتها التنفيذية، وهو ما يعني غياب تام لأي رقابة تقتضيها تلك التصرفات أو التعاقدات، ولنا في تعاقدات الخصخصة في عصر مبارك العبرة المعتبرة كمثال لتلك التصرفات المخالفة للقانون والقواعد الدستورية.

وفي نهاية المطاف الذي أعتقد لن يقف عن حد واحد، فإن الأمر حاليا وبعد أن نفضت المحكمة الدستورية العليا يدها بالقضاء بدستورية ذلك القانون، ولكن الحد الأكبر لن يكون سوى على عاتق مجلس النواب إن جد له دور أو واجب إزاء سلطته التشريعية، وإزاء جموع ناخبيهم حماية لمقدرات الوطن وحماية للمقدرات الدستورية الواجبة الأخذ في الاعتبار بعين العناية.