كان من المقرر حسب البيانات الرسمية لكل من موسكو وطهران، أن تجري يوم الثلاثاء 17 يناير 2022 مباحثات ثنائية بين وزيري الخارجية الروسي سيرجي لافروف والإيراني حسين أمير عبد اللهيان في العاصمة الروسية موسكو. وفجأة ظهرت تصريحات رسمية روسية بأن الزيارة قد “تأجلت” وسيتم تحديد موعدها في وقت لاحق. ولم تعلن موسكو عن أي أسباب. بينما أعلنت طهران أن عبد اللهيان بدأ في نفس ذلك اليوم زيارة إلى تركيا لإجراء مباحثات مع نظيره التركي مولود جاويش أوغلو حول العلاقات بين طهران وأنقرة ودعوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي، لزيارة إيران. بل وتم التأكيد في بيان منفصل على أن الزيارة تركز على “سوريا ولبنان”.
اقرأ أيضا.. أردوغان المفيد وبوتين الأكثر فائدة.. ماذا بعد لقاء أنقرة ودمشق في موسكو؟!
ليس من المستبعد أن نفاجأ بإعلان رسمي ثلاثي (إيراني- تركي- روسي) بأن وزراء خارجية الدول الثلاث سيلتقون في موسكو أو في إحدى العاصمتين الأخريين. وليس من المستبعد أيضا أن نفاجأ بإعلان آخر يؤكد على لقاء رباعي بين وزراء خارجية الدول الأربع سوريا وإيران وتركيا وروسيا في موسكو، على سبيل المثال. ولكن ماذا حدث ليتحول المشهد بهذا الشكل الحاد، ويتم إلغاء زيارة وزير الخارجية الإيراني عبد اللهيان بشكل استعراضي على هذا النحو المثير للتساؤلات؟ وماذا حدث ليظهر مشهد آخر وفي نفس اليوم الذي “ألغيت” فيه زيارة عبد اللهيان إلى روسيا، ليظهر فجأة في تركيا؟!
يبدو أن روسيا حاولت تهميش إيران لسبب ما، ليس فقط في معادلة سوريا، ولكن أيضا في معادلة مركبة تجمع بين تحولات في منطقة الخليج، وبالذات في علاقات روسيا مع الإمارات، وبين تحولات المشهد الأوكراني الذي يتعقد تدريجيا وتتسع فيه مساحة تأثير تركيا. ولكن ما يهم طهران هنا، هو محاولات تهميشها من جانب موسكو في الملف السوري. خاصة وأنه بعد لقاء وزيري دفاع روسيا وتركيا في موسكو، وظهور تصريحات “متفائلة” من جانب المسؤولين الروس بشأن مستقبل العلاقات بين أنقرة ودمشق، ظهرت تصريحات من مسؤولين سوريين بأنه “من الضروري أن تقوم موسكو بالتنسيق مع دمشق قبل أي لقاءات أو محادثات”. ما يعني أن هناك ما يقلق الرئيس بشار الأسد. وقد يكون هذا القلق ليس بمعزل عن قلق إيراني مستتر، خاصة وأن إيران أحد أضلاع مثلث “أستانا” الذي أصابه الخمول في السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة بعد أن دخلت كل إعلانات موسكو ونجاحاتها في طريق مسدود عمليا من جراء اتساع نطاقات حركة تركيا وقواتها، وبروز تأثيرها ليس فقط في سوريا، بل وأيضا في الأزمة الأوكرانية.
بداية من الأسبوع الثاني من يناير 2022، بدأت روسيا تدفع في اتجاه تقارب سوري- تركي على أرض الواقع. ونجحت بدرجات معينة تكفل لها مواصلة حملات البروباجندا المتعلقة بانتصارها على الغرب، وصنع مصالحات وتقاربات وحلول للأزمات، وتأسيس تكتلات من أطراف متناقضة، حتى وإن كان ذلك شكليا. المهم أنه سيخدم على الحملات الدعائية الروسية بهزيمة الغرب وبتشكيل نظام دولي متعدد الأقطاب من موسكو وأنقرة تارة، وموسكو وبكين تارة أخرى، وموسكو ودمشق وأنقرة تارة ثالثة، وهكذا..
وفي ظل تحركات موسكو لعمل تقارب “مفخخ” بين تركيا وسوريا، تم تغييب إيران بالكامل عن هذا المشهد الملتبس. بينما ترى إيران أن لها حصة الأسد في المشهد السوري، وأنها بالفعل متحكمة في العديد من المفاصل المهمة في الداخل السوري، بما في ذلك في دمشق نفسها، وحول قصر الرئيس بشار الأسد شخصيا. وتعتبر نفسها أيضا من “عظام الرقبة” وأحد أهم مرتكزات وتوجهات السياسة الخارجية لنظام الرئيس بشار الأسد الذي يعتمد بنسبة كبيرة على طهران، ويدرك كيف يستخدمها للجم موسكو التي عادة ما يصيبها بعض الجموح و”الطمع” في تحصيل بعض المصالح على حساب بشار الأسد.
ولكن روسيا لأسباب كثيرة، سعت بهدوء لتهميش إيران وتقليص دورها، وخاصة في خطوة محورية خطيرة مثل التقارب التركي- السوري، الذي من شأنه- إذا تم- أن يغير الكثير في المعادلة السورية، ويقلص الدور الإيراني إلى حده الأدنى، وهو ما يرضي قاطرة العلاقات الروسية الخليجية عموما، والروسية الإماراتية على وجه الخصوص، ويرسل إلى الغرب رسائل مهمة بشأن استعداد روسيا لتقديم خدمات إلى أوروبا والولايات المتحدة بشأن الملف النووي الإيراني وبشأن وضع إيران في معادلات المنطقة.
استنفرت إيران لتقرص أذن روسيا قرصة خفيفة وتعيد إليها “الوعي” قليلا. واتجهت نحو “الحليف التركي الهش” لروسيا، لتبحث معه عدة مواضيع متشابكة تتمحور في مجملها حول مساحة النفوذ والدور الإيرانيين. وتؤكد لموسكو وأنقرة أنها موجودة في المشهد السوري ليس فقط بحكم الأمر الواقع، بل وبحكم شروط ومتغيرات وأوراق عديدة قادرة على قلب الطاولة في أي لحظة، بما في ذلك في أوكرانيا وبالقرب منها.
وعلى الفور ظهرت تصريحات عبد اللهيان لوسائل الإعلام التركية ليؤكد على نفوذ طهران في الملف السوري، ومن تركيا نفسها. إذ أعلن بشكل استعراضي بأن زيارته لأنقرة منعت العمليات العسكرية التركية في سوريا. وهذا التصريح يرضي الجانب التركي الذي يريد أن يؤكد لروسيا أيضا أنه قادر على المناورة مع الضبع الثالث لمثلث “أستانا”. وأمعن عبد اللهيان في تأكيد نفوذ بلاده عندما قال: “قبل بضعة أشهر، أعلنت تركيا أنها تعتزم القيام بعمليات عسكرية على الأراضي السورية والمناطق الحدودية.. في ذلك الوقت، قمت بزيارة إلى أنقرة، وكانت الجمهورية الإسلامية تتابع قضية تركيا وسوريا، مركزة على الحوار والحل السياسي، ويسعدنا أن تلك الجهود حالت دون وقوع هذه العملية العسكرية في المناطق الحدودية بين البلدين”.
أما النقطة الثانية المتعلقة بالتحركات الإيرانية في اتجاه بشار الأسد والمسؤولين الأتراك من جهة، واللقاء الأول لوزراء دفاع سوريا وتركيا وروسيا من جهة ثانية، فقد كانت مهمة ودالة، إذ قال: إن “الجمهورية الإسلامية الإيرانية كانت ترحب دوما بالعلاقات الوثيقة بين دمشق وأنقرة. ونحن نشهد اليوم تقدما في هذا المجال. وقد أجرينا هذا الأسبوع محادثات مهمة مع الرئيسين بشار الأسد ورجب طيب أردوغان ووزيري خارجية البلدين، وكان هدفنا إقامة علاقات اكثر موثوقية بين تركيا وسوريا وتقليل مخاوف الطرفين، ونحن على اتصال دائم ومباشر مع الجانب الروسي”.
بهذه المناورة الدبلوماسية، وإرسال تلك الرسائل الذكية، رد عبد اللهيان “الكرة” إلى ملعب روسيا. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل ذهب نحو أوكرانيا. وبنفس الطريقة، هاجم عبد اللهيان الغرب والناتو، وقال ضمن ما قال إن “الأعمال الاستفزازية لحلف الناتو وعدد من الدول الغربية هي السبب الرئيسي للصراع في أوكرانيا. والعمليات العسكرية في أوكرانيا تبدو أحداثا معقدة، حيث يعتقد البعض في الغرب أنها فصل جديد في تاريخ العلاقات الدولية. ومنذ بداية الصراع، كان موقفنا واضحا وشفافا.. نحن نعتبر أن الأعمال الاستفزازية للناتو وعدد من الدول الأوروبية هي السبب الرئيسي لبدء الأعمال القتالية في أوكرانيا “. ثم انعطف بشكل لافت نحو “الدور الإيراني” في التسوية الأوكرانية، بقوله: “إننا بذلنا جهودا كثيرة للوساطة بين أوكرانيا وروسيا خلال هذه الفترة، سواء على المستوى الوزاري أو الرئاسي، ونأمل أن تصل أوكرانيا إلى مرحلة السلام في أقرب وقت ممكن وأن تنتهي الحرب فيها”. هذه الصيغة الخادعة للتصريح تحمل رسالة مهمة لموسكو، ألا وهي أن طهران لديها قنواتها للتواصل مع السلطات الأوكرانية على أعلى مستوى، بعيدا عن ما يتردد بشأن المسيرات الإيرانية واتهام طهران بتزويد روسيا بالأسلحة. وكانت المفاجأة في التصريح التالي الذي قذف به عبد اللهيان في وجه الكرملين: “إننا لا نعترف بضم روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية، ولا نعترف أيضا بضم 4 مناطق أوكرانية إلى قوام روسيا الاتحادية، وذلك رغم علاقتنا الجيدة مع روسيا”. وهنا تتفق طهران مع أنقرة بشأن الأراضي الأوكرانية على الرغم من أن كلا منهما لها أهدافها ودوافعها المختلفة عن الأخرى.
لم يتوقف عبد اللهيان عند هذا الحد، بل ذهب لمناورة أخرى مخيفة بشأن إمكانية الحوار مع الولايات المتحدة. إذ قال إنه “على الرغم من تضارب أقوال الأمريكيين في الأحداث الداخلية الأخيرة في إيران، فنحن على استعداد لوضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق (النووي)”. وهو بذلك يبعث برسالة مهمة إلى موسكو تفيد بأن طهران قادرة هي الأخرى على الاستدارة والمناورة وفتح قنوات مع واشنطن، بعيدا عن التنسيق مع “أطراف أخرى” ومن دون “وصاية هذه الأطراف”!
من الصعب أن يتم أي تقارب تركي- سوري بدون إيران، وإلا ستحدث جملة من التحولات في المنطقة غير محمودة العواقب. فإيران ألمحت أيضا إلى قدرتها على تحريك الأمور في أفغانستان وما حولها، سواء كان “ما حولها” هذا جزءا من نفوذ روسيا أو من نفوذ تركيا. أي في طاجيكستان ودول آسيا الوسطى التي تمثل الحديقة الخلفية لروسيا من جهة، والعالم التركي لتركيا من جهة أخرى.
لقد كشفت إيران عن عدم رضائها من تحركات موسكو، وأرسلت رسالة يدور فحواها حول أن ما فعلته روسيا مع أرمينيا في أزمتها مع أذربيجان وتركيا من الصعب أن يتكرر مع إيران. ومن الصعب أيضا أن يتم احتواء إيران بنفس درجة احتواء أرمينيا، ثم تحويلها إلى ورقة للمقايضة، ولتحقيق المصالح الروسية حصرا بصرف النظر عن مصالح الأطراف الأخرى.
بعد كل هذه الرسائل، ليس من المستبعد إلحاق إيران على وجه السرعة بقطار التحركات الروسية التركية في اتجاه دمشق. ولكن هناك تساؤلات كثيرة بهذا الصدد: كيف سيحدث ذلك وبأي مساحة؟ وهل بشار الأسد والمحيطين به راضون عن تحركات روسيا أصلا، وهم الذين يؤكدون أن تركيا دولة تحتل جزءا من أراضي سوريا وعليها أن تغادر كشرط أولي من شروط أي حديث حول التقارب وتطبيع العلاقات؟! وماذا يقصد النظام السوري من خروج تركيا من سوريا، لأنه من الصعب تأويل تصريحات مثل هذه الأنظمة “الغرائبية” التي تقول شيئا وتفعل عكسه، وتفكر بشيء ثالث؟ وهل روسيا راضية عن تصريحات دمشق بشأن خروج تركيا من سوريا، بينما هناك تنسيقات ومشاريع بين موسكو وأنقرة في سوريا نفسها، وأن الطرف الروسي يدلي بفرقعات إعلامية مطاطة بشأن وحدة أراضي سوريا واستقلال قرارها، بينما المشهد على العكس تماما، بل وتدلي تركيا نفسها بمثل هذه التصريحات وترى أنها ليست قوة احتلال وإنما من “أهل البيت” وتدافع عن استقلال سوريا ووحدة أراضيها واستقلال قرارها؟!
لن يحدث أي افتراق بين روسيا وإيران، ولن يكون هناك أي شقاق بين روسيا وتركيا، ولن يستطيع النظام السوري الإفلات من قبضة الرئيس بوتين مهما اعترض أو أبدى تمرده بتصريحات جوفاء ومطاطة وقديمة لا معنى لها أمام ما يجري عمليا على أرض الواقع. ولكن هذا المشهد المهم والخطير يكشف عن فواصل وفراغات، ومسارات منفردة لهذا الطرف أو ذاك تتوخى تحقيق مصالح حصرية مع هذه الدولة أو تلك، يمكن لأي قوى أخرى أن تتدخل فيها وتوجهها في اتجاهات أخرى تماما.
هذا المشهد الذي يظهر بحدة على خلفية تحولات مهمة في الحرب الأوكرانية، وتحركات دول الخليج عموما، والإمارات على وجه الخصوص، وظهور تناقضات دالة ومؤثرة في العلاقات بين موسكو وأنقرة، وعلى خلفية تحركات الغرب للجم أزمة الطاقة، ولتحريك قطع الشطرنج بهدوء وبشكل براجماتي كامل، يكشف عن الكثير من “الثقوب” والعوار، والقصور الناجم عن قصر النظر في تقدير الأمور.. فهل يمكن للرئيس بشار لأسد أن يرفض مساعي روسيا بشأن التقارب مع تركيا، وبذلك يُفشِل توجهات موسكو لإنجاح أردوغان وحزبه في الانتخابات المقبلة؟ هل سيسمح الرئيس بوتين لنظيره السوري أن يتحرك في هذا الاتجاه، بينما روسيا تضحي بكل حلفائها، وعلى رأسهم أرمينيا على سبيل المثال، من أجل الإبقاء على أردوغان المراوغ، ولو حتى في منظومة علاقات هشة؟!
لن تحدث أي شقاقات أو انعطافات جذرية في العلاقات بين الدول الأربع (روسيا وتركيا وإيران وسوريا)، لأنها بحاجة إلى بعضها البعض، مع الاحتفاظ الدائم بهوامش للمناورة، ولكن ليس من المستبعد أن نرى مشهدا آخر نسبيا وتصريحات وتحركات تسمح لإيران بالالتحاق بالقطار الروسي التركي الذي كان من المقرر أن يفوتها في إحدى المحطات المهمة وينساها قليلا. ولكن انكشاف المشهد بهذا الشكل لا ينبئ بأي خير، لأنه مشهد بدائي تماما يجمع بين أطراف متعجلة تسعى لإعلان انتصارات وهمية، وتستهدف مصالح حصرية قصيرة النظر، ولا تثق في بعضها البعض أصلا.