دخلت المحادثات النووية بين الغرب وطهران نفقا مظلما، إثر الدعم الإيراني لروسيا في حربها على أوكرانيا وتزويد طهران لموسكو بأعداد كبيرة من الطائرات المسيّرة.
ووصلت المفاوضات بين إيران والغرب بشأن إحياء الاتفاق النووي الذي وقع عام 2015 إلى “طريق مسدود”، على حد قول المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل جروسي، في لقائه الأخير مع بابا الفاتيكان.
وقال جروسي للبابا فرنسيس: “المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود، بل انهارت”. ويمثل تبدد الآمال في تحقيق نجاح وشيك في المحادثات النووية مع إيران خطورة بالغة على المنطقة، خاصة في ظل الدفع الإسرائيلي نحو عمل عسكري تجاه إيران، وميل القيادة الإيرانية الحالية للمخاطرة.
اقرأ أيضا.. أنقرة وطهران الأكثر استفادة من الحرب الأوكرانية.. القوى الإقليمية تستثمر في الصراعات الدولية
تقدير موقف
لم تكد منطقة الشرق الأوسط تلتقط أنفاسها وتبدأ بلدانها في إعادة ترتيب أوضاعها الداخلية، بعد الهزة التي تعرضت لها نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها السلبية على الأمن والاقتصاد، حتى وجد الجميع أنفسهم أمام تحد كارثي جديد، وسط حالة من “التسخين” على وقع مجموعة من المتغيرات، في أعقاب تعطل مسار إحياء الاتفاق النووي الإيراني.
وتشهد المنطقة منذ الربع الأخير من العام الماضي متغيرات تعد بمثابة محفز نحو تصعيد للأوضاع، حيث يأتي في مقدمة تلك المتغيرات:
1- نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة والتي أفرزت الحكومة التي توصف بأنها الأكثر تطرفا في تاريخ دولة الاحتلال، برئاسة بنيامين نتنياهو، وهو نفسه الذي يعدّ عرّاب خيار الضربة العسكرية للمشروع النووي الإيراني، وكذا فإنه كان المحفّز الأساسي لانسحاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي المبرم مع إيران عام 2015 وإعادة العمل بالعقوبات المفروضة عليها.
وتأتي الحكومة الإسرائيلية المتطرفة الجديدة في ظل قلق متزايد من التقدم في البرنامج النووي الإيراني، خصوصا وأن أجهزة الاستخبارات الغربية تُجمِع على أن إيران باتت على أعتاب تحولها إلى دولة نووية، الأمر الذي يمكّنها من الانتقال لتخصيب اليورانيوم على المستوى العسكري بنسبة 90%، والوصول في غضون أسابيع قليلة إلى كمية كافية من اليورانيوم المخصب لصنع قنبلة نووية.
وأمام هذا الموقف المعقد مع توقف مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الذي وصفه الرئيس الأمريكي جو بايدن بأنه “مات” تتصاعد فرص اللجوء لخيار عسكري من أجل تعطيل طهران، أو على أقل تقدير، اللجوء لضربة تخريبية للبرنامج النووي كما فعلت تل أبيب في السابق.
وما يزيد من عوامل تسخين المشهد الراهن هو ضغط تل أبيب على واشنطن لتسريع توريد أنظمة دفاع مهمة مثل الطائرات الصهريجية الخاصة بضربات جوية طويلة المدى وهذا سيمكنها من ضرب البنية التحتية النووية الإيرانية.
2- المتغير الثاني يتمثل في نتائج انتخابات الكونجرس الأمريكي، وفوز الجمهوريين بالأغلبية في مجلس النواب بعد انتخابات التجديد النصفي، ما يجعل من الصعب على إدارة بايدن تقديم تنازلات لإيران.
3- متغير آخر لا يمكن تجاهله قد يقود إلى تسريع وتيرة التصعيد العسكري في المنطقة، يتمثل في تعمق العلاقات بين روسيا وإيران بشكل وثيق بعد أن وجد البلدان “أرضية مشتركة” تتمثل في الحرب على أوكرانيا، وتزويد طهران لموسكو بمئات الطائرات المسيرة بدون طيار والتي استخدمتها الأخيرة على نطاق واسع في ضرب المدن الأوكرانية بشكل ساهم في إعادة التوازن للقوات الروسية على أرض المعركة.
ففي 16 ديسمبر/كانون الأول 2022، شرح مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وليام جيه بيرنز الوضع في مقابلة مع المؤسسة الإعلامية “بي بي أس نيوز آور” قائلاً: “ما بدأ يظهر هو على الأقل بدايات لنشوء شراكة دفاعية كاملة بين روسيا وإيران، مع قيام الإيرانيين بتزويد طائرات مسيّرة إلى الروس، وبدأ الروس بالتفكير في السبل التي يمكنهم من خلالها دعم الإيرانيين، تكنولوجيا أو تقنيا”، وهو ما من شأنه تلبية طلب إيراني قديم كانت ترفضه موسكو خوفاً من المشكلات التي قد تسببها الموافقة عليه مع دول أخرى، بما فيها إسرائيل والسعودية والإمارات وتركيا، لكن احتمال موافقة روسيا على هذا الطلب قد ازداد الآن بحسب “بيرنز”.
ووفقا لذلك بات حصول طهران على أنظمة دفاع جوي متطورة، ومقاتلات “سوخوي سو-35″، مسألة وقت، ما سيجعل نظام طهران أفضل تجهيزا لإحباط أي هجوم محتمل في المستقبل على بنيته التحتية النووية أو غيرها من المنشآت الاستراتيجية.
فمع اقتراب اكتمال صفقة استلام وامتلاك إيران عدة أسراب من القاذفة الروسية “سوخوي 35″، ربما الكثير من المعطيات ستتغير، بالنسبة لإيران وبالنسبة لإسرائيل.
4- اتجاه الاتحاد الأوروبي إلى فرض حزمة جديدة من العقوبات على 37 مسؤولاً وكياناً إيرانياً على خلفية قمع التظاهرات التي تشهدها إيران منذ وفاة الشابة مهسا أميني، وتوصية البرلمان الأوروبي بإدراج الحرس الثوري الإيراني على قائمة التنظيمات الإرهابية ، من شأنه أن يزيد من تعقيد المشهد وخلط أوراقه، في ظل التحذير الإيراني لأوروبا من تلك الخطوة، حيث وصفتها بأنها بمثابة” إطلاق أوروبا النار على قدميها”.
وحذر وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، مسئول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، في حال إدراج الحرس الثوري منظمة إرهابية، قائلا: “الاتحاد الأوروبي سيطلق النار على قدميه بهذه الخطوة “.
ودعا عبد اللهيان البرلمان الأوروبي للتفكير في عواقب القرار والتركيز على الدبلوماسية والتعامل بعقلانية؛ مشيرا إلى أنّ إيران سترد على أي قرار ضدها.
تمدد التداعيات
استمرار حالة “التسخين” في المشهد الراهن، وعدم البحث عن حلول حقيقية لإعادة تنشيط مسار مفاوضات إحياء الاتفاق النووي في أسرع وقت ممكن، من شأنه أن يفاقم الأزمة في العديد من الملفات العربية على وجه الخصوص، حال ما قررت طهران تنشيط الميليشيات المرتبطة بها في لبنان والعراق واليمن وسوريا، خاصة وأن النظام في طهران أظهر في الماضي قدرته على مهاجمة البنية التحتية للنفط والغاز في السعودية وكذلك في الإمارات، وهو ما سيكون له أيضا عواقب اقتصادية في أوروبا.
ضرورة التدخل الخليجي
تلك المتغيرات والمخاوف دفعت رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم، والذي له باع طويل بكواليس المنطقة، لدق ناقوس الخطر، محذرا من عمل عسكري محتمل قد يهز منطقة الخليج، ستكون له عواقب اقتصادية وسياسية واجتماعية وخيمة.
وقال بن جاسم، في سلسلة تغريدات عبر “تويتر: “بات الوضع في منطقتنا الخليجية محفوفا بالمخاطر ويستدعي من الجميع الانتباه الدائم تحسبا لأي احتمالات، فالغرب بقيادة الولايات المتحدة لم يتوصل حتى الآن إلى اتفاق يعيد الاتفاق النووي مع إيران إلى الحياة”.
وأضاف: “نحن نعلم أن إسرائيل تدفع بقوة للحصول على بعض المعدات والأسلحة التي تمكنها من قصف الأهداف الإيرانية التي تعتبر أنها تشكل خطرا كبيرا عليها، غير أن الجانب الأمريكي ما زال حتى الآن مترددا حيال تزويد إسرائيل بتلك الأسلحة”.
وتابع: “إذا لم تتوصل الأطراف إلى اتفاق نووي جديد مع إيران، وزودت الولايات المتحدة إسرائيل بما تحتاجه من سلاح سيكون هناك لا سمح الله عمل عسكري قد يهز الأمن والاستقرار في منطقتنا، وستكون له عواقب اقتصادية وسياسية واجتماعية وخيمة”.
واختتم “بن جاسم”: “لذلك فإنني أتمنى أن نوضح نحن في المنطقة الخليجية لأمريكا والغرب عبر كل القنوات الممكنة، خطورة أي تصعيد عسكري وضرورة معالجة المشكلات القائمة معالجة سلمية، لأننا سنكون أول الخاسرين”.
كيف يمكن منع الانزلاق؟
أمام هذا المشهد المعقد، الذي تدفع فيه إسرائيل بقوة نحو توجيه ضربة عسكرية سريعة لإيران من أجل تعطيل قدرتها على إنتاج قنبلة نووية، بات لزاما على القوى العربية والخليجية اتخاذ عدة خطوات من أجل منع اندلاع أية مواجهات عسكرية سيكون الخليج أول من تطاله نيرانها.
وفي هذا الإطار من المهم أن تنقل الرسائل الخليجية المطمئنة لإيران في هذا التوقيت الحرج، مع تنشيط سريع لمحادثات تحسين العلاقات بين طهران، والعواصم الخليجية، وفي المقدمة منها الرياض، خاصة مع تصاعد الإشارات الإسرائيلية بشأن تطوير التعاون المرتبط بمنتدى النقب، الذي يضم مصر والأردن والإمارات والبحرين والمغرب إلى جانب إسرائيل، والإصرار على بث رسائل مرتبطة بخطوات ضد طهران.
وربما يكون لتصريحات وزير الخارجية السعودي الأخيرة على هامش تواجده في دافوس تأثير إيجابي، خاصة بتأكيده أن المملكة تحاول إيجاد سبيل للحوار مع إيران، باعتبار الحوار أفضل وسيلة لحل الخلافات.
وأضاف الأمير فيصل بن فرحان، أن قرار السعودية ودول الخليج الأخرى بالتركيز على اقتصاداتها وتنميتها هو إشارة قوية لإيران والآخرين في المنطقة بأن هناك مسارات أخرى لتحقيق الرخاء المشترك.
وبمحازاة التصريحات السعودية، تسير محادثات بحرينية كشف عنها مؤخرا لأول مرة لمتحدث باسم الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني بقوله إنه “في سياق التهدئة، عقدت 5 جولات من المفاوضات مع السعودية بوساطة بغداد من أجل الترتيب لاستئناف العلاقات بين البلدين، وحتى مع البحرين تم اتخاذ إجراءات جيدة”.
أما الخطوة العاجلة الأخرى التي يجب الشروع فيها، فهي الدفع نحو العودة للاتفاق النووي أو التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران، يحل محل الصفقة السابقة التي انهارت بسبب انسحاب ترامب، فالعودة إلى الاتفاق مهما كان سيئا هو ضرورة استراتيجية لكافة الأطراف سواء الخليج، أو لإسرائيل ذاتها التي تدفع نحو الصدام مع طهران، لمنعها من تكديس ما يكفي من المواد الانشطارية لتخصيب كميات كبيرة من اليورانيوم.
وهو ما أكده أيضا الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي “أمان” اللواء احتياط تمير هايمن في تصريحات صحفية، بقوله إن سيناريوهات المفاوضات بين إيران والدول العظمى لا تزال قائمة، مشددا على أن هناك مصلحة إسرائيلية استراتيجية في احتواء المشروع النووي الإيراني، سواء عبر العودة إلى الاتفاق القديم، أو عبر طي صفحة الماضي والتوجه لإبرام اتفاق نووي جديد بحسب المستجدات.