في الثامن عشر من يناير/كانون الأول الجاري، وعلى هامش منتدى “دافوس” الاقتصادي، قال وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، إن بلاده غيّرت طريقتها في تقديم المنح والمساعدات إلى الدول المجاورة، موضحًا أنها ستكون مشروطة بحدوث “إصلاحات”.
وزير المالية السعودي أوضح: “نحن أيضًا نقوم بالتركيز على إقليمنا ونريد أن نكون مثالا للمنطقة، ونشجع كذلك كثيرا من الدول حولنا أن تقوم بأعمال إصلاحية”. وأضاف الجدعان: “نحن نغير طريقة تقديمنا للمساعدات وتطويرها.. اعتدنا أن نعطي منحًا وودائع دون شروط، ونحن نغير ذلك، ونقوم بالعمل مع مؤسسات متعددة الأطراف.. لنقول نحن نريد أن نرى إصلاحات”.
وتابع: “نحن نفرض ضرائب على شعبنا، ونتوقع من الدول أن تقوم بفعل نفس الشيء، وأن يقوموا بدورهم، نريد أن نساعد ولكن نريد من الجميع أن يقوموا بدورهم”. كانت تلك التصريحات أوضح إشارة مُعلنة عما وراء تغيّر طريقة الدعم الخليجي لمصر.
نظرة على “الإصلاحات”
اتضح ذلك بجلاء في توصيات صندوق النقد الدولي، الذي اقترضت مصر منه مؤخرا 3 مليارات دولار وفق توجيهات وشروط محددة تخضع لمراجعات دورية، يرافقها حزمة تمويل من “الضامن الخليجي” عبر شراء المزيد من الأصول الحكومية، وتمديد ودائعهم في البنك المركزي حتى 2026. بجانب قروض بأكثر من 3 مليارات دولار عبر مؤسسات متنوعة متعددة الأطراف.
وسجلت ودائع 4 دول خليجية في البنك المركزي نحو 28 مليار دولار حتى الآن كودائع قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل قابلة لدعم الاقتصاد المصري في مواجهة الأوضاع الاقتصادية الصعبة، بحسب ما أعلنت عنه بعض هذه الدول، وما أورده التقرير الأخير بشأن الوضع الخارجي للاقتصاد المصري.
كان للودائع الإماراتية النصيب الأكبر بقيمة 10.6 مليار دولار تتوزع بين 5.6 مليار دولار ودائع متوسطة وطويلة الأجل، و5 مليارات دولار ودائع قصيرة. فيما جاءت الودائع السعودية ثانيًا بقيمة 10.3 مليار دولار تتوزع بين 5.3 مليار دولار ودائع متوسطة وطويلة الأجل و5 مليارات دولار ودائع قصيرة.
وحلت الكويت ثالثًا بقيمة 4 مليارات دولار ودائع متوسطة وطويلة الأجل، أما قطر فجاءت بقيمة 3 مليارات دولار ودائع قصيرة الأجل. إضافة إلى ذلك تعهدت تلك الدول الخليجية بشراء المزيد من الأصول والتي بيع منها حتى الآن ما يتجاوز 3 مليارات دولار لبعض أكثر الأصول الحكومية ربحيةً.
اقرأ أيضًا: لماذا يستثمر الخليج في البنية التحتية المصرية؟ أكاديمي: السيطرة والتوجيه والتأثير
وتحت مظلة هذا السياق وبالتزامن مع موافقة الصندوق على القرض، أعلنت الحكومة موافقة الرئيس عبد الفتاح السيسي على “وثيقة ملكية الدولة” التي تتعهد فيها بتسييل أصول بقيمة 10 مليارات دولار سنويًا لمدة 4 سنوات، مع التخارج من العديد من القطاعات الصناعية وتخفيف أو تثبيت التواجد في قطاعات أخرى وتكثيفها في قطاعات محددة.
“في حين شكلت هذه الأموال لغاية الآن شريان حياة، لا يُعَدّ الاعتماد على عمليات الإنقاذ الأجنبية في المستقبل المجهول أمرًا ينمّ عن الحكمة. ومن المهم تذكُّر أن هذه المساعدة تُقدَّم بفضل حسن نية الآخرين، ويمكن أن تتوقف في أي لحظة بسبب الظروف الإقليمية والدولية المتغيرة”، يقول معهد “واشنطن لسياسة الشرق الأدنى“.
تاريخ الدعم الخليجي
خلال الفترة بين 1974 و2022، كانت مصر صاحبة النصيب الأكبر من المساعدات الخليجية إذ استحوذت بمفردها على 35% من إجمالي المساعدات الخليجية لجميع الدول المُقدرة بـ231 مليار دولار، وفقًا لـ”المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية“. وتنوعت طرق الدعم عبر مساعدات مالية لدعم الميزانية وودائع بالبنك المركزي ومساعدات النفط والغاز.
ومن 1974 حتى 2010، قدمت السعودية 72% من المساعدات الخليجية الموجهة للدول الأخرى. بينما من 2011 حتى 2022 انخفضت النسبة إلى 48% مقابل 33% للإمارات و%11 لقطر و8% للكويت.
وقد ارتبطت هذه المساعدات بمصالح سياسية مبتغاة لهذه الدول، مثل الدعم العسكري المصري في حرب الخليج الثانية، أو وأد النموذج الديمقراطي بعد ثورة 25 يناير.
وبحسب مصادر مصرفية مصرية، وصل الدعم الذي تلقته القاهرة من دول “مجلس التعاون الخليجي” إلى 92 مليار دولار منذ عام 2011 حتى 2019. ومع إضافة 28 مليار دولار تعهدت به دول الخليج لمصر بالعام الماضي، يتجاوز حجم المساعدات الخليجية لمصر 120 مليار دولار، خلال أكثر من عقد أي بمتوسط 10 مليارات سنويًا تقريبًا.
بعد ثورة 2011 والاضطرابات السياسية التي تلتها، اعتمدت مصر على الدعم المالي من مختلف بلدان المجلس في مراحل مختلفة لتعويض نفاد احتياطياتها الأجنبية. في عام 2012، قدمت قطر حوالي 10 مليارات دولار للرئيس السابق محمد مرسي، سعيًا لإرساء وصول جماعات الإسلام السياسي إلى الحكم.
وبعد الإطاحة بمرسي، قدمت الإمارات والمملكة العربية السعودية والكويت دعمًا لمصر بمبلغ هائل قٌدر بنحو 23 مليار دولار بين عامي 2013 و2015. وقد وقفت هذه الدول، وبالأخص السعودية والإمارات، إلى جوار النظام الجديد ماليًا وسياسيًا في مسعاها للقضاء على إقامة أنظمة ديمقراطية بجوارها ما قد يهدد نموذجها الاستبدادي في الحكم.
اقرأ أيضًا: من الأسمدة والبنوك إلى سيناكولا.. 2022 عام اقتناص الخليج للشركات المصرية
يقول معهد الدراسات الاستراتيجية إن صعود قطر كممارس رئيسي لدبلوماسية الإنقاذ، زاد من حدة التنافس بين دول مجلس التعاون الخليجي. إذ شكّلت تدخلات الإنقاذ لدول الخليج -السعودية والإمارات تحديدا- التحولات السياسية في مصر والسودان واليمن وساعدت على إبقاء الأردن وباكستان واقفتين على قدميهما، على الأقل مؤقتًا.
ويضيف “نشرت دول الخليج مساعدات إنقاذ لوقف انتصار الإخوان المسلمين في مصر، وتشكيل المرحلة الانتقالية في السودان بعد عمر البشير، والمساعدة في الحفاظ على الأردن”. بالإضافة إلى التأثير على العملية السياسية في باكستان.
وعلى عكس حزم صندوق النقد الدولي فإن دعم الإنقاذ الخليجي لم يكن مرتبطًا عادة بالإصلاحات الاقتصادية أو الإصلاحات الإدارية (بل المصالح السياسية فقط). وقد تم استخدامه أحيانًا كمصدر بديل للتمويل من قبل البلدان المتلقية التي لم ترغب في الخضوع لمثل هذه الإصلاحات.
لاحقًا، انخفض اعتماد مصر على بلدان المجلس بشكل ملحوظ حيث تضمن اتفاق صندوق النقد الدولي في 2016 قرضًا بقيمة 12 مليار دولار. ومنح ذلك مصر نفاذًا أفضل لأسواق المال العالمية. وهنا، زادت الحكومة المصرية من معدل اقتراضها الخارجي، وقفزت الديون الأجنبية على البلاد، بحسب معهد “دول الخليج العربية في واشنطن“.
دبلوماسية مساعدات جديدة
لكن الاقتراض من صندوق النقد آنذاك ارتبط بسياق سياسي كذلك، فيه تعارضت الرغبات المصرية مع نظيرتها الخليجية. فقد تجاهلت مصر المطالب الخليجية عندما تصادمت مع مصالحها، مثل رفض لعب دور مباشر في حرب اليمن أو دعم المعارضة السورية.
وهنا تفتق ذهن الخليجيين إلى أنه “على الرغم من أن دبلوماسية الإنقاذ تشتري النوايا الحسنة والتأثير، إلا أنها لا تضمن امتثال المستفيدين منها”. لذا اعتبرت أن هذه المساعدات هي “هدرًا لأموالها”.
وبسبب إحباطها من قرار مصر عدم دعم المعارضة السورية أو التورط في اليمن، اختارت دول الخليج في عام 2016 ربط المساعدات للقاهرة بناءً على امتثالها لصندوق النقد الدولي. وعدلت أسلوب عملها، بما يعكس أسلوب “أكثر انتقائية وتفاعلية” مما كان عليه في الماضي.
وتزامن مع تلك الفترة عامل آخر اقتصادي انخفضت فيه أسعار النفط لفترة طويلة. وما ترتب عن ميزانياتها من طلبات داخلية على الإنفاق. وهنا “تكمن مشكلة الاعتماد على دول الخليج في أن هذه الدول تعطي الأولوية إلى صحتها المالية في الأوقات التي تنخفض فيها العائدات المالية وليس إلى صحة مصر المالية، على خلاف البنوك وهيئات الإغاثة المتعددة الأطراف”، تشير الباحثة كارين يونج.
وتحت تأثير هذين السياقين دخلت دول الخليج في شراكة مع المؤسسات المالية الدولية على غرار الدور الذي اضطلعت به مع صندوق النقد الدولي في إنعاش مصر.
نحو مساعدات أكثر مأسسةً
ويمكن اعتبار هذا الأمر “درسًا مهمًا في التسليم والشفافية وفي مأسسة المساعدات الخليجية والاستثمار الأجنبي المباشر. وقد يحث على زيادة التنسيق بين دول مجلس التعاون الخليجي في ما يتعلق بالأهداف التي تتوخاها كل منها من الحوكمة الاقتصادية”، وفق “معهد الخليج”.
لكن سياقًا أوسع آخر كان في الصورة: تحولات الرؤى الاقتصادية والطاقة. فنظرًا لعدم اليقين بشأن الطلب العالمي طويل الأجل على النفط والغاز، تبنت دول الخليج رؤى، وأشهرها رؤية السعودية 2030، تهدف إلى تمهيد الطريق لمستقبل اقتصادي متنوع وأكثر استدامة.
وقد قال صندوق النقد الدولى إن على دول الخليج أن تحافظ على زخم الإصلاح الذى يستهدف تحقيق الاستدامة المالية وتنويع اقتصاداتها بعيدًا عن النفط والغاز بينما يستمر الازدهار النفطي. لذا كانت سياسة الاستثمارات وشراء الشركات الرابحة جزءًا من التنويع والاستدامة المستهدفة.
ما قد يترك “عواقب بعيدة المدى على استعدادها لإنقاذ دول أخرى”، بتعبير معهد الدراسات الدولية الاستراتيجية. فإلى جانب اتخاذ موقف أكثر حذرًا تجاه الإنفاق المالي، قد تترك الخطط الاقتصادية لدول الخليج وخطط التحول في مجال الطاقة مجالًا أقل لعمليات الإنقاذ السخية.
على الرغم من أن الزيادة في أسعار الطاقة -التي ارتفعت بسبب جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية- قد تؤدي إلى انتعاش في عمليات الإنقاذ في الخليج، إلا أن الاتجاه طويل الأجل للسياسات الاقتصادية لدول الخليج قد يؤدي إلى تسريع تحولها نحو نهج أكثر “استهدافًا” في الحكم الاقتصادي.
ونظرًا لأنها أصبحت شريكة طويلة الأمد للمؤسسات المالية الدولية -إذ يساهمون في ميزانياتهم ويتعاونون معهم بطرق متعددة- تطالب القوى الغربية والمؤسسات المالية الدولية دول الخليج بانتظام بالتدخل في أوقات الأزمات. وهذا “يمنح دول الخليج نفوذاً أكبر داخل تلك المؤسسات ويجعلها مُحاور رئيسي للقوى الخارجية في المنطقة”.
أي تأثير محتمل؟
في حين أن ممارسات المساعدات الإنمائية الخارجية الخليجية باتت تتماشى تدريجيًا مع المعايير الغربية، فإن دعم الإنقاذ الذي عادة ما يقرره قادة الخليج أنفسهم ظل مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بمصالحهم السياسية رفيعة المستوى.
هذا الاعتماد المالي المتجدد على دول الخليج، قد يضطر مصر للاصطفاف، بشكل أكثر وضوحًا، مع الترتيبات الأمنية الجديدة الناشئة بين بعض بلدان الخليج وإسرائيل، والتي يتم صياغتها، بالدرجة الأولى، لمواجهة التهديد الإيراني الفعلي والمتصور، بحسب الباحث في الاقتصاد السياسي عمرو عدلي.
ويضيف “يمكن تفسير المواقف المستقلة السابقة لمصر بشأن النزاع في اليمن وسوريا من زاوية تنويع احتياجاتها المالية الأجنبية بمعزل عن دول الخليج بعد صفقة صندوق النقد الدولي عام 2016… (لكن) من الممكن أن يُتَرجم التراجع عن هذا التوجه إلى قدر أقل من الاستقلالية في المستقبل”.
رغم ذلك قد تعمل مصر على تنويع مصالحها بين دول المجلس مستغلة الاختلافات بين السعودية والإمارات وقطر سعيًا وراء مصلحتها في الحفاظ على سياسة خارجية مستقلة.
اقرأ أيضًا: ورقة سياسات| رأس المال الخليجي في شرق إفريقيا وتأثيره “الضار” على مصر
وهذه ليست المرة الأولى، وفق عدلي. فخلال حرب غزة عام 2021، اتفقت الحكومة المصرية مع القطريين على حزمة مالية لإعادة إعمار قطاع غزة. كان ينظر إلى هذا على أنه إجراء مضاد للتقارب الإماراتي مع إسرائيل وإعادة تأكيد على موقف مصر فيما يتعلق بغزة ومن ثم إسرائيل.
يُظهر اعتماد مصر المتجدد على الدعم المالي المباشر من دول الخليج أن جذور الضائقة الاقتصادية في البلاد لم تتم معالجتها في السنوات القليلة الماضية. فاللجوء إلى بلدان المجلس من أجل الإنقاذ يؤكد مجددًا “اندماج مصر في الاقتصاد السياسي للشرق الأوسط كمستقبِل ثانوي لعائدات النفط والغاز”.
علاوة على ذلك، يبدو الآن أن وصول مصر إلى هذا النوع من العائدات يعد شرطًا مسبقًا لمزيد من الاقتراض من الأسواق المالية الدولية. لذا فإن “إطالة أمد نقاط الضعف المالية هذه قد يؤثر على حجم ونطاق المشاركة المصرية في أي ترتيب أمني في المستقبل”. كما أنه يثير تساؤلات حول ما إذا كانت دول المجلس ستكون دائمًا قادرة ومستعدة للتدخل ومنح الأولوية لاحتياجات مصر من التمويل في المستقبل.
ومع ذلك، يبدو من غير المرجح أن تتغير الدوافع الجيو سياسية الأساسية لسلوك الخليج -بحسب معهد الدراسات الاستراتيجية- لا سيما الرغبة في تعزيز مصالحها الوطنية، وتأكيد استقلال سياستها الخارجية عن الولايات المتحدة، والتنافس مع الخصوم الإقليميين، وتحقيق استقرار حلفائها في المنطقة.