وسط انشغال الرأي العام بأزمة الغلاء الفاحش المستمر في التصاعد، وعدم وضوح سبل الخروج من مجمل تعقيدات الأزمة الاقتصادية المستحكمة بأسبابها الداخلية والخارجية، تدنى إلى حد كبير اهتمام المواطنين والمراقبين بمجريات الحوار الوطني، إلى حد الإحباط، وربما الشك في إمكانية بدئه، فضلا عن نجاحه، وكان من الطبيعي وسط هذا الإحباط أن يقل الاهتمام بالسؤال عن أسباب تعثر الحوار، وعن الطرف أو الأطراف التي تقع عليها مسئولية هذا التعثر، خصوصا مع تجنب تلك الأطراف جميعها تبادل اتهام بعضها البعض علنا، وإن كان هذا التجنب هو في ذاته ظاهرة محمودة، بل ومستجدة نسبيا في الحياة السياسية المصرية، وهي ظاهرة تعكس درجة من النضوج، كما تعكس قدرا من الحرص لدى الجميع على استمرار الحوار الوطني المدعو إليه أصلا من السيد رئيس الجمهورية.

يبدو لي أن هذا الحرص كان وراء المناقشات الموسعة التي جرت مؤخرا على عدة مستويات، فمنها ما جرى داخل كل حزب من أحزاب الحركة المدنية الديمقراطية (التي تمثل جانب المعارضة على مائدة الحوار الوطني، رغم تطوع بعض الكتاب، وبعض أعضاء الحوار بنفي حقيقة كون الحوار هو بين سلطة ومعارضة، بالمخالفة لملابسات ومسرح إعلان المبادرة الرئاسية، وبالمخالفة للتفاهمات التي سبقت تشكيل مجلس أمناء الحوار).

ومن تلك المناقشات ما جرى على مستوى مكتب الحركة االمدنية، إلى جانب المناقشات بين قيادات الحركة وبين الجهات الرسمية الراعية لعملية الحوار، أو لنقل الجهات المشرفة على تفعيل مبادرة الرئيس.

من المفهوم أن المناخ السياسي في البلاد ازداد تلبدا بعد إعلان تفاصيل الاتفاق الأخير مع صندوق النقد الدولي، ومن قبل وفي السياق نفسه مع الإقرار الأولي في مجلس النواب لمشروع الصندوق الاستثماري لهيئة قناة السويس، وقبل ذلك أيضا إقرار وثيقة ملكية الدولة، ومثلما انعكس هذا المناخ الملبد بغيوم القلق القاتمة على سائر المواطنين، فإنه انعكس أيضا على أعضاء وقيادات الحركة المدنية الديمقراطية، فظهرت دعوة للانسحاب من الحوار الوطني، أو تجميد المشاركة فيه حتى تسحب الحكومة مشروع الصندوق الاستثماري لقناة السويس كلية ونهائيا من جدول أعمال البرلمان، وجاءت هذه الدعوة بمثابة عبء جديد على موقف الحركة من الحوار، إضافة إلى الأعباء السابقة، أو المستمرة، وأهمها عدم الالتزام بما تم الاتفاق عليه من سرعة الإفراج عن سجناء الرأي السلميين، وعدم استكمال الخطوات المتفق عليها في هذا الشأن، خاصة توفيق أوضاع المفرج عنهم في العمل والسفر والتعليم وسائر جوانب الحياة الطبيعية، إلى جانب مطالب التوقف عن صور التضييق والإقصاء السياسي والملاحقات الأمنية.

في المناقشات الأولية بين مكونات الحركة وافقت 7 أحزاب من أحزابها الاثني عشر على فكرة تجميد المشاركة في الحوار، وتحفظ حزبان، ورفضت 3 أحزاب، لكن القرار أرجئ انتظارا لاجتماع تال عقد يوم الأربعاء الماضي، أو في الحقيقة انتظارا لجولة استطلاع جديدة للموقف من كافة جوانبه، وقد صدر عن ذلك الاجتماع بيان مهم يبدو فيه “الحرص على عدم إهدار أية فرصة قد تسفر عن البدء في مسار التحول الديمقراطي، والإصلاح السياسي والالتزام الدستوري من جانب كل مؤسسات الدولة” حسب ماورد في ديباجة البيان نفسه.

من استقراء هذه الديباجة والنص الكامل يفهم أن الحركة قد تجاوزت مقترح تجميد مشاركتها في الحوار الوطني، أو الانسحاب منه، وذلك في انتظار خطوات ملموسة لتحسين المناخ السياسي، أو بتعبير أحد أقطابها ممن شاركوا في تفاهمات الأسبوعين الماضيين استعادة مناخ التفاؤل، وروح بناء الثقة، اللذين كانا سائدين لحظة إطلاق الرئيس دعوته للحوار، والتي ظلت على زخمها عدة أسابيع، ليس فقط بالتوافق على تشكيل مجلس الأمناء، وبروح التوافق التي سادت مناقشاته، ولكن أيضا بتتابع الإفراج عن سجناء ومحبوسين وإن يكن بوتيرة أبطأ من المأمول، كما يفهم أن محاولة إعلان موعد تعسفي لبدء الحوار من جانب واحد قد جرى التخلي عنها، وكذلك جرى التخلي عن محاولة فرض قضايا على لجان الحوار دون توافق، ودون تشاور مع المقررين، وهذه كلها مؤشرات إيجابية توحي بالنضج وروح المسئولية.

لكن، مع كل تلك المؤشرات التي نراها إيجابية، يبقي التفاؤل رهنا باستمرارها، وهذا الاستمرار رهن بالتقدم في خطوات استعادة الثقة وتحسين المناخ، وبحسب تقديري الشخصي الذي أوضحته في أكثر من مناسبة، ففي ظل ضغوط الأزمة الاقتصادية، واحتمالات ظهور مفاجآت تربك الجميع، خاصة مع القلق المستشري على مستوى المعيشة، وعلى الأصول الاستراتيجية للدولة والمجتمع، فقد يصعب التقدم بالتوازي وبسرعة كافية، على كل المحاور المعلن عنها للحوار الوطني.

وقد يصعب أيضا التقدم في إطار المحور الواحد بنفس الإيقاع في كل اللجان، وبما أنه من المهم والمفيد استعادة ثقة الرأي العام، وبما أن أطراف الحوار تفترض أو تستحسن الوصول إلى نتائج أو مخرجات ملموسة قبيل الذكرى السنوية الأولى لإطلاق الدعوة الرئاسية للحوار، وبما أنه لم يتبق سوى ثلاثة أشهر على موعد حلول هذه الذكرى، فقد يكون الأنسب هو البدء بالحوار السياسي من خلال اللجان الثلاثة المتفق على جداول أعمالها، وعلى أشخاص مقرريها، ومقرريها المساعدين، وعلى أعضائها، وهذا يعني أن يجري الحوار على جولات، بحيث يبدأ بالحوار في لجان المحور الاقتصادي وحده، أو بالتوازي مع لجان المحور الاجتماعي بعد تحقيق نتائج إيجابية من الحوار السياسي، وبحيث تعطي هذه النتائج قوة دفع لسائر المحاور، وتشيع روح التفاؤل والثقة لدى الرأي العام.

وعلى سبيل التأكيد أو التدليل، فلنفترض أن مخرجات المحور السياسي قد تمثلت في تعديل مواتٍ لقوانين الانتخابات، وقانون الأحزاب، وقانون المحليات، وقانون الحبس الاحتياطي، وتنفيذ بنود الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وتخفيف القيود على حرية التعبير، فهل يجادل أحد في أن هذه ستكون نقلة نوعية في الحياة السياسية برمتها، تمتد إيجابياتها إلى كل المجالات؟ وإذا اقترن ذلك بما سبقت الإشارة إليه كمطالب للحركة المدنية، أو كتفاهمات سابقة بين ممثلي الحركة والجهات الرسمية حول استكمال الإفراج عن سجناء ومحبوسي الرأي، فأي أسباب للتفاؤل ستكون أقوى من ذلك، على خلفية المعطيات الحالية، و مجريات السنوات القليلة الماضية؟!

أليست السياسة هي التي تحكم الاقتصاد؟ وأليس الإصلاح الاقتصادي هو نتاج لإصلاح السياسات؟ وذلك بنص الجملة الختامية للبيان الأخير للحركة المدنية الديمقراطية.