بعد 12 سنة من ثورة يناير نعود مجددًا لنجد أنفسنا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الإصلاح، أو الانفجار، ونحن اليوم أكثر حاجة من يوم 25 يناير 2011 إلى الإصلاح الذي يسد أبواب الانفجار، ويمنع حدوثه مرة أخرى.

في 2011 كانت مصر كلها على موعد مع انفجار الأوضاع القائمة وقتها، كل المؤشرات كانت تدل على أنه قادم لا محالة، يراه كل ذي بصيرة، بل إن بعض المنتسبين إلى النظام كانوا يحذرون من انفجار قادم، وتوقعه بعضهم على أكثر تقدير في أواسط سنة 2011.

ولكن عيون النظام غشيت عن أن ترى هذه الحقيقة، وضيَّعت فرصة كانت سانحة للتغيير الآمن، وكان مشروع التوريث هو تلك الغاشية التي منعت عنهم رؤية الحقائق.

اليوم وباعتراف الجميع، النظام، قبل معارضته، نحن في وضع أكثر حرجًا مما كنا عليه قبل ثورة يناير.

**

طوال السبعين سنة الأخيرة كانت أولويات الإصلاح الاقتصادي مقدمة على ضرورات الإصلاح السياسي.

قدَّم جمال عبد الناصر البعد الاجتماعي للديمقراطية على البعد السياسي وفضله عليه، وبعد النكسة التفت إلى أهمية وضرورة الإصلاح السياسي، ثم دفعته تطورات الحوادث إلى التركيز على إعادة بناء القوات المسلحة وترميم السياسة الخارجية، والتحضير لخوض معركة تحرير سيناء، ولكنه رحل قبل أن يتم إزالة آثار العدوان، ومن دون أن يعيد الاعتبار لإصلاح النظام السياسي.

وطرح أنور السادات شعار الديمقراطية السياسية في ذروة صراعه مع الممسكين بمراكز السلطة الرئيسية وقتها، وحين انفرد بحكم مصر، اكتشفنا معه أن الديمقراطية لها أنياب، وانتهى عهده بمصرعه على منصة الاحتفال بالذكرى الثامنة لحرب أكتوبر، بعد أن كان قد قام بأكبر وأشمل عملية حبس شملت سياسيين ومفكرين وكتاب وصحفيين وقادة نقابيين من كافة الاتجاهات الفكرية والسياسية، والعديد من قيادات وكوادر الأحزاب المصرية.

حسني مبارك ركَّز من أول يوم في عهده على أولوية الإصلاح الاقتصادي، وأغفل طوال فترة حكمه الطويلة أي حديث عن الإصلاح السياسي، إلا حين بدأت عجلة توريث السلطة لنجلة في الدوران، وجاءت ثورة يناير لتخلعه من الحكم وتقضي على مشروع التوريث، ولتضع الحرية والديمقراطية والإصلاح السياسي على رأس أولوياتها.

وبعد 30 يونيو وضع الرئيس السيسي هدف تثبيت الدولة فوق كل الأولويات، ومن بعد عاد ليجعل الإصلاح الاقتصادي في المقدمة من جديد، وماتت فرصة الإصلاح على صعيد السياسة.

قصة السنوات السبعين الماضية يمكن تلخيصها في عبارة قصيرة ومحزنة: نعم للإصلاح الاقتصادي، لا للإصلاح السياسي، وللأسف لم يتم الإصلاح الاقتصادي، ففقدنا الإصلاحين معًا.

**

ثورة يوليو رغم أنها تعد إلى الآن هي الثورة الأكمل التي استطاعت أن تمضي طويلًا في مشوار التخلص من المحتل، وتقلص تأثير ونفوذ الاستعمار بسلوكها طريق التنمية الشاملة ودخولها في معركة هائلة على محاور الإنتاج الزراعي والصناعي والتوسع في التعليم العام والفني والجامعي، وتنفيذ أول خطة خمسية حققت خلالها نموًا حقيقيًا يزيد عن 6‎%‎ بشهادات دولية.

رغم كل الإنجازات التي حققتها ثورة يوليو في فترتها الناصرية، ورغم نجاحها في تحقيق الكثير من أهداف الثورة الوطنية المصرية التي ظل الشعب يناضل من أجل تحقيقها طوال قرنين من الزمان، إلا أنها أخفقت في امتحان الديمقراطية والإصلاح السياسي.

كانت الديمقراطية واحدة من أهداف الثورة الست، نجحت الثورة في تحقيقها جميعًا بنسب متفاوتة من النجاح، إلا أن المسيرة الثورية طوال 18 عامًا فشلت في تحقيق النجاح الحاسم، وهو النجاح على محور الإصلاح السياسي والتقدم على طريق الديمقراطية.

أقامت ثورة يوليو لأول مرة في التاريخ نظامًا جمهوريًا، لكنها أخفقت في إقامة جمهورية ديموقراطية حقيقية.

وكانت تلك هي سوءتها التي تسللت منها القوى المضادة للثورة لتقضي على كل ما تحقق من إنجازات على الصعيد الوطني وعلى المحاور الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية.

**

من انتفاضة يناير سنة 1977 إلى ثورة يناير 2011 ومن بعدها 30 يونيو 2013 ظل وعد الإصلاح الاقتصادي قائمًا على مدار قرابة نصف قرن، ولم يتحقق حتى اليوم، بل تزداد القرارات الاقتصادية تخبطًا، وتنهار الأوضاع الاجتماعية، ويئن المواطنون تحت وطأة إصلاح لا يُؤتي ثماره المرجوة، ووعود بتحسين الأوضاع لا تتحقق.

بعد الانفتاح الاقتصادي في 1974 ضاقت الدنيا على الفقراء أكثر فأكثر، وبدأت مسيرة تسمين القطط السمان، وانتفض الشعب في يناير 1977 وجاء وعد الرخاء بعد السلام، لم يتحقق السلام ولم يأت الرخاء.

في أول عهد الرئيس مبارك عقد أول مؤتمر اقتصادي، ثم وضعت أوراقه في الأدراج، وذهبت توصياته أدراج الرياح، وتوسعت السلطة في سياسة الخصخصة حتى كادت تبيع كل شركات ومصانع القطاع العام، وانتهى الأمر إلى زيادة معدلات الفقر، وانهيار مستمر في الأوضاع الاقتصادية.

بعد ثورة يناير تقدمت السياسة بعض الوقت لتعود وتتراجع تحت وقع شعار دوران عجلة الإنتاج، وبسقوط دولة الإخوان، طرح من جديد التركيز على إصلاح الوضع الاقتصادي الذي وصل بنا إلى ما نحن فيه اليوم، من تعويم الجنيه، وخفض قيمته الشرائية، وسعار زيادة الأسعار، وتزايد نسب البطالة، وزيادة مطردة في نسب الفقر، والقضاء على الطبقة المتوسطة واتساع رقعة الفقراء.

**

لم نجرب مرة واحدة طوال العقود الماضية البدء من الإصلاح السياسي، وما زلنا نعيد التجربة وراء الأخرى لنصل إلى نفس النتائج، أوضاعا اقتصادية أشد سوءًا، وأحوالا سياسية أشد قمعًا وانغلاقًا.

كل التجارب الناجحة في الدول التي مرت بظروف مشابهة لظروفنا أثبتت أن الإصلاح السياسي الحقيقي هو البداية الطبيعية للتغلب على المشاكل وتجاوز الأزمات.

والأهم أنه جاذب للاستثمارات، وصانع للتنمية المستدامة، وهناك تجارب كثيرة في العالم كان الإصلاح السياسي فيها هو مقدمة النهوض من ركام الفساد والرشوة والتخلف والفقر والجوع، وأصبحت في مصاف الدول المتحضرة والمزدهرة والأعلى دخلاً على مستوى العالم.

**

عنوان الإصلاح السياسي في مصر اليوم يعني أول ما يعني تغييرًا جذريًا.

ربما يكون الإصلاح على صعيد السياسات الاقتصادية والأوضاع الاجتماعية والفكرية في حاجة إلى وقت، وربما في حاجة إلى برامج مرحلية تنقلنا شيئًا فشيئًا إلى تحسين تلك الأوضاع وتغييرها وإصلاحها ودفعها إلى التقدم باستمرار.

لكن في السياسة وفي ظل أحوالنا القائمة فنحن نحتاج إلى المسارعة إلى الثورة على تلك الأوضاع التي تكبل انطلاقة مسيرة أي إصلاح على أي محور من محاور ذلك الإصلاح المنشود.

الإصلاح السياسي هو المقدمة الطبيعية والضرورية لضمان جدية وصحة ونزاهة الإصلاح على كافة الأصعدة الأخرى.

بتُّ مقتنعًا أكثر من أي وقت مضى أن مرحلة الانتقال إلى الديموقراطية هي أشق وأصعب مراحل التحول في أي بلد له نفس ظروفنا، ويعاني من أحوال تزداد سوءًا من بعد سوء باطراد مستمر وبدون أمل في التوقف عند حد.

قناعتي الراسخة أن الانتقال إلى الديمقراطية عبر عملية إصلاح سياسي شاملة يجب أن يتأسس على قواعد العدالة الاجتماعية، ومع ذلك فالخطوة الأولى تبدأ من السياسة.

من إصلاح الحكم، وإصلاح النظام السياسي، وتهيئة القواعد والأسس التي ينبني عليها حكم ديمقراطي رشيد.

**

اتصل أحد المقربين من الملك الإسباني خوان كارلوس في أعقاب أول انتخابات حرة في إسبانيا يستنكر عليه أن يسمح للاشتراكي الشاب “فيليب جونزاليس” بتشكيل حكومة الاشتراكيين قائلًا في ثورة غضب واستنكار:

-خوان.. هل جننت؟ كيف تسمح للاشتراكيين بالسلطة وهم أعداؤك؟

جاء رد الملك منضبطًا على متطلبات المرحلة الانتقالية، والأهم أنه جاء منضبطًا على قواعد الدستور، فقال لصديقه المقرب:

-من قال لك أن الاشتراكيين أعدائي؟، إن دستورنا يجعل كل القوى السياسية بالنسبة لي سواء، إنني أقسمت على احترام الدستور، وما يريده الشعب هو ما يجب أن يكون.

وقائع هذه المحادثة حكى تفاصيلها وملابساتها وخلفياتها الأستاذ هيكل في كتابه “زيارة جديدة للتاريخ”، وهي -في نظري- تمثل جوهر الإصلاح السياسي الذي نحتاج إليه.

**

الإصلاح السياسي الذي نحتاج إليه هو الذي يوفر بيئة سياسية حاضنة للإصلاح على كافة المحاور الاقتصادية والاجتماعية والفكرية.

بيئة تقدس الحريات العامة، وتحترم حقوق الانسان، وتكرس ثقافة المواطنة المبنية على قواعد العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.

بيئة سياسية تسمح بوجود أحزاب سياسية ذات امتدادات شعبية، تقيم حياة سياسية حقيقية، وتكون مفارخ لفرز الكفاءات وأصحاب الخبرة والقادرين على تحمل مسؤولية إدارة شؤون البلاد.

بيئة سياسية تضمن حريات الصحافة والإعلام والنشر، وتكفل حرية تكوين النقابات التي تدافع عن حقوق المنتسبين لها، وتضع ضمانات بناء مجتمع مدني مستقل ومشارك بفاعلية في إعداد الخطط التنموية والاستراتيجيات الوطنية للنهوض بالبلاد والتحسين المستمر للظروف المعيشية للمواطن ورفاهيته.

بيئة سياسية تصنعها أحزاب قوية قادرة على التواصل مع جماهيرها، تتنافس عبر برامجها وكوادرها للحصول على ثقة المواطنين التي هي مناط تداول السلطة وأساسها الدستوري.

بيئة سياسية تسمح وتُمكّن لمفهوم التداول الديمقراطي والسلمي للسلطة.

**

السطوة الأمنية على الحياة السياسة لا تصنع بيئة سياسية حاضنة لإصلاحات حقيقية على الصعيد الاقتصادي.

الأحزاب ذات الصبغة الأمنية، والإعلام الموجه، والمجتمع المدني المكبل، والنقابات المحجوزة خلف أسوار مبانيها، والصحف الغارقة في ديونها، والمواقع المحجوبة، والحريات المنقوصة، والسجون التي تئن من نزلائها وزائريها، كل هذا “الكوكتيل” من العدوان والانتقاص من الحريات العامة، لا يمكن أن يوفر مناخات صحية لجذب استثمارات حقيقية وجادة، ولا يحقق إصلاحات جذرية لمشاكل الاقتصاد المصري في وضعه الراهن.

والخوف كل الخوف من أن تنتشر حالة اليأس جراء انسداد كل سبل الإصلاح ما قد يدفع إلى الانفجار.

الانفجار هو الإجابة الوحيدة المتوقعة على فراغ الأجوبة، وزيادة نسب القلق، والخوف من المستقبل، وضبابية المشهد.

الانفجار ليس حلًا، بل هو على الحقيقة يعقد المشكلة، ويصعب حلولها ويمد أجل التخلص منها.

**

الإصلاح السياسي يحتاج إلى إرادة سياسية، وهو اليوم قرار في أيدينا، إذا تأخر قد يتحول إلى اضطرار.

الإصلاح السياسي هو المدخل إلى تجنيب البلاد والعباد الكثير من الأخطار، وفتح منافذ التعبير السلمي عن الرأي، تقينا شرور ومخاطر ومآلات الانفجار.

الإصلاح السياسي الجذري، هو الطريق الآمن للتغيير السلمي.

نحن في حاجة إلى خارطة طريق للإصلاح السياسي وفق جدول زمني محدد سلفًا يفضي بنا إلى الوصول إلى محطة الحكم المدني الرشيد، الذي يخضع للمساءلة، والتداول السلمي للسلطة.

أكثر ما يتفق عليه علماء السياسة والاجتماع أن الاستقرار السياسي هو أحد أهم المتطلبات الضرورية للتنمية والانطلاق في بناء دولة حديثة، ولكنهم لا يختلفون على أن الاستقرار السياسي يستلزم -أولًا- إصلاحا سياسيًا يضمن هذا الاستقرار وينميه، ويدعم استمراره.

“يناير” طرحت الديمقراطية على رأس أولوياتها ورغم ذلك أثبتت التجربة أن قضية الإصلاح السياسي لم تكن في أي لحظة أو أي مرحلة من مراحلها على جدول أعمال الممسكين بالقرار في مصر.

واليوم نحن نواجه لحظة انسداد غير مسبوقة على كل المستويات، تهدد الاستقرار السياسي، ويمكن أن تطيح به، والأسباب متعددة، منها ما هو وارد، ومنها ما هو مقيم، وبعضها راجع لسوء تقدير اللحظة التاريخية، ونتيجة للإصرار على سياسات ثبت خطؤها عندنا أكثر من مرة، وفي التجارب المماثلة في العالم من حولنا مرات عدة، وربما طبيعة النظام تغلب توجهاته، وتجعله يتشبث بفكرة غلق المجال العام تأمينًا لاستمراره، وهو الأمر الذي ثبت فشله في يناير 2011 ويونيو2013.

**

هذا الانسداد يفرض علينا المسارعة إلى بناء كتلة وطنية يسميها “جرامشي” الكتلة التاريخية، وفي حالتنا هي أقرب إلى صيغة جبهة وطنية من أجل التغيير الشامل المتدرج والسلمي، تضع على رأس أولوياتها الإصلاح السياسي الذي يهدف إلى الانتقال من حكم الفرد إلى الدولة الديمقراطية، ومن حكم العسكريين إلى الدولة المدنية، ومن تخبط الأولويات إلى الحكم الرشيد.

الحوار الوطني الذي طالت مدة إعداده، ويستبشر به البعض خيرًا، يمكن أن يكون هو الرحم الذي تولد منه هذه الجبهة الوطنية التي تتبنى مشروعًا ديمقراطيًا تعدديًا يستنهض طاقات المجتمع ويوجهها نحو تحقيق المصلحة الوطنية.

يتأسس هذا المشروع على حد أدنى من التوافق على حزمة متكاملة من الإصلاحات السياسية الجذرية، تبدأ بتعزيز مبادئ المواطنة، والفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتأمين استقلال القضاء، وتحرير الإعلام من قبضة الأجهزة الأمنية، والسماح بإعلام تعددي يتمتع بحريته ومسئوليته تجاه حقوق المواطن، والسعي المتواصل من أجل تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية.

مشروع للإنقاذ يطلق حرية تشكيل مؤسسات المجتمع المدني، ويلغي القوانين المقيدة لحرية تكوين الجمعيات والنقابات والاتحادات التطوعية، مهما كان طابعها السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الاقتصادي، ويفسح كل مجالات المساهمة الفعالة في الانتقال من حكم الفرد إلى حكم الشعب وفي فتح باب المساواة في المنافسة السياسية أمام الجميع.

جبهة وطنية تضم كل القوى الديمقراطية لا تستثني غير أعداء الديمقراطية، والمنحازين علانية للاستبداد.

هذا هو البديل الآمن ضد الانفجار، وهو الطريق الوحيد للخروج المأمون من هذا النفق المسدود.

**