مع اقتراب ذكرى ثورة يناير من كل عام، تثور أسئلة في أذهان جمهور الثورة، سواء من كوادرها الفاعلين، أو من أصحاب الحلم ورواد ميادين الثورة. تمر الأعوام ولازال دراويش يناير يبحثون عن إجابات لأسئلة يخشون من طرحها علانية، يدركون جيدا أن الإجابات سوف تحمل مزيدا من جلد الذات، أو تبريرات لمواقف وآراء لم يعودوا واثقين من صحتها.

ربما يكون أبرز تلك الأسئلة هو “لماذا لم تنجح ثورة يناير في تحقيق أي إنجاز على المستوى السياسي أو الاقتصادي؟”

بعد مرور 12 عاما على ثورة يناير2011، ازدادت حدة التناقضات داخل دولة 1952، فقد تراجعت الدولة عن أغلب المكتسبات التي كانت قد منحتها للشعب المصري خلال العقود السابقة على 25 يناير، تحول نظام الحكم الشمولي الذي صنعته حركة الضباط الأحرار، إلى نظام حكم فردي، دون أي ظهير سياسي قد يخفف من حدة القبضة الأمنية، وتراجعت الدولة عن دورها في توفير الحد الأدنى من متطلبات المواطن.

ربما يميل الشعب المصري إلى حكم الرجال الأقوياء، حيث يعتبر الكثير من المصريين أن الحاكم القوي سوف يكون أكثر قدرة على تطويع الدولة لصالح المواطنين، ولم تفلح ثورة يناير في تغيير تلك النظرة.

لاتزال الصورة التي رسمها الأديب البارز نجيب محفوظ في روايته “الحرافيش”، هي التعبير الأمثل عن علاقة الشعب المصري بدولة 1952، البحث عن المستبد العادل أسهل كثيرا من بناء نظام يضمن العدالة للجميع.

كذلك فإن من الأسباب الرئيسية لعدم نجاح الثورة في تحقيق منجزات، يعود إلى نقص الخبرة السياسية لدى جيل يناير، فقد تسببت حالة “الاستقرار السلبي” التي صنعها مبارك خلال العقدين الأول والثاني من حكمه، في غياب جيل وسط سياسي قادر على بناء كوادر جديدة من الشباب الراغب في المشاركة السياسية، فقد انحصر أغلب السياسيين من أنصار الثورة بين أبناء التجربة الناصرية، وشباب ولد وعاش في عصر مبارك.

وهو ما نتج عنه الخديعة الكبرى بما سمي وقتها “الصراع بين شباب يناير والعواجيز”، وهو ما خلق حالة من الاستعلاء بين جمهور الشباب الذي تصور أنه صانع الثورة، ونسى أن الحراك الجماهيري جاء نتيجة سنوات من العمل التراكمي لأعداد محدودة من المعارضين.

أدت قلة الخبرة لدى الشباب إلى عدم قدرتهم على تقدير قوتهم وتأثيرهم الحقيقي على الرأي العام، حيث أغفل الشباب عدد كبير من المؤثرات والتوازنات التي يقوم عليها نظام الحكم في مصر، توازنات داخلية بين مؤسسات الدولة وأجهزتها التنفيذية ورجال المال والأعمال، بالإضافة إلى التوازنات الدولية والاقليمية، وهو ما نتج عنه أن تحولت ثورة يناير إلى تهديد لأغلب أصحاب المصالح داخل مصر وخارجها.

أدى ذلك العداء بين يناير وأصحاب المصالح إلى تكون جبهة مواجهة لثورة يناير ضمت أغلب أصحاب النفوذ داخل الدولة، في الوقت الذي توزع فيه الزخم الثوري بين نقاشات “إعادة صنع العجلة”، وتفرعت تلك النقاشات إلى ما يشبه الضجيج أو “الهري”، بالتأكيد تلك النقاشات كان بها العديد من الآراء الجادة والمهمة، ووجود ذلك الضجيج بعد ثورة شعبية أمر طبيعي وصحي تماما، ولكن كانت الجبهة المضادة أكثر دراية بالمزاج الشعبي الذي اختار الطريق الأسهل في تلك اللحظة.

كما لعب الإخوان الدور الأبرز في إضعاف الثورة، عندما تصوروا أنها فرصة للانقضاض على الحكم، وطريق أسهل للتمكين بدلا من المسار الذي رسمه البنا قبل 70 عاما، وجهت الجماعة الضربات الأولى للثورة والتي رغم أنها لم تكن الأقوى، إلا أنها كانت أكثر تأثيرا بسبب قدرات التنظيم الاجتماعية ونفوذه داخل التيار الإسلامي في عمومه، فقد وجهت الجماعة سهام التشويه إلى جمهور الثورة بمجرد أن اقتربوا من الحكم، وهو ما استخدمه خصوم يناير فيما بعد.

بخلاف تلك الأسباب الرئيسية من الممكن أن نسرد عشرات التفاصيل، من الانسياق نحو الصناديق الانتخابية والمحاكم، وغياب التنظيمات السياسية، وانشغال كوادر يناير بالشهرة والأضواء والمعارك الجانبية، وتغليب المطالب السياسية على المطالب الاجتماعية، وحالة الاستقطاب الحادة بين العلمانيين والمجتمع المحافظ، وغياب الكوادر السياسية المؤهلة لإدارة عملية تفاوض جادة وطويلة مع الدولة حول شكل النظام الجديد.

ربما تكون فكرة المراجعة بعد كل ما مرت به يناير من هجوم شرس وتشويه، وما تعرض له رموزها وطليعتها من سجن وتشريد، قد يكون طرح تلك الفكرة الآن هو تجربة أخرى للبكاء على اللبن المسكوب، ولكن من المحتمل أن يفتح سؤال يناير الباب لإعادة تفكير جدية في المواقف والآراء والأفكار، بعيدا عن التبرير أو جلد الذات.

لازالت ثورة يناير حاضرة في أذهان المصريين، سواء بالترحم على الحلم الضائع، والفرصة التي وأدتها الظروف، أو باتهامها بأنها كانت السبب في كل ما وصل اليه حال المجتمع المصري، في كلتا الحالتين فإن يناير لم تنس، وهو ما يفرض على طليعة يناير ممن لازالوا راغبين وقادرين على العمل السياسي، أن يعيدوا مراجعة أنفسهم وأن يجيبوا عن أسئلة يناير، وفق قناعاتهم بعد كل ما مروا به.

المراجعة الآن ليست رفاهية، بل واجب يفرضه علينا إيماننا بعدالة قضيتنا.