استبقت موسكو في 19 يناير الجاري اجتماع وزراء دفاع الدول الداعمة لأوكرانيا في قاعدة “رامشتاين” الألمانية الذي انعقد بعدها بيوم واحد فقط (في 20 يناير) بتصريحات تشكل “نقطة تحول” خطيرة في الحرب على أوكرانيا. إذ قالت صراحة إن هزيمتها في أوكرانيا قد تؤدي إلى حرب نووية وأن ذلك يتفق مع عقيدتها النووية.

من الواضح أن كل طرف من الطرفين الروسي والغربي يفهم “نقطة التحول” هذه بطريقته. فنائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي دميتري ميدفيديف رأى أن “هزيمة أي قوة نووية في حرب تقليدية يمكن أن يؤدي إلى اندلاع حرب نووية، ولم تخسر القوى النووية صراعات كبرى يتوقف عليها مصيرها”. أي أن ميدفيديف، يعلن صراحة بأنه في حال خسارة روسيا الحرب التقليدية في أوكرانيا، فإنها ستتحول إلى حرب نووية.. لا يوجد أي معنى آخر على الإطلاق لتصريحه الخطير. والمعنى الآخر الوحيد المحتمل، هو “اسمحوا لنا بالانتصار في الحرب التقليدية في أوكرانيا لكي لا نضرب بالنووي”. هذا التصريح يعد أحد أخطر التصريحات الروسية منذ نشوب الحرب الأوكرانية التي أعلنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صباح يوم 24 فبراير 2022.

وفي نفس اليوم، حث الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف كييف والرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي على الإسراع بتنفيذ مطالب روسيا والإدراك سريعا بأن روسيا وزعيمها فلاديمير بوتين موجودان وسيظلا موجودين، مشيرا إلى أنه سيتم تنفيذ مطالب روسيا بطريقة أو بأخرى. وقال إنه “كلما أسرعت أوكرانيا في إظهار استعدادها لتنفيذ مطالب روسيا، والتي ستتحقق بطريقة أو بأخرى، كلما انتهى كل شيء في أقرب وقت”. وفي تعليقه على تصريحات ميدفيديف، شدد بيسكوف على أن هذه التصريحات لا تتناقض مع العقيدة النووية الروسية.

من جهة أخرى، صرح بيسكوف بأن توريد الأسلحة إلى كييف لشن ضربات على أراض روسية أمر خطير للغاية، مشيرا إلى أن مثل هذه الإمدادات ستنقل الصراع إلى مستوى جديد لا يبشر بالخير للأمن العالمي ولعموم أوروبا. جاء هذا التصريح ردا على تقرير إعلامي غربي حول احتياج أوكرانيا إلى قدرات إضافية لاسترداد شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا إلى قوامها عام 2014. وفي نفس السياق أكد بيسكوف أن تصريحات السفير الروسي لدى واشنطن أناتولي أنطونوف تتوافق هي الأخرى مع موقف الكرملين. وكان أنطوف قد هدد بأن “روسيا سوف تدمر أي أسلحة يزود بها الأمريكيون أو الناتو أوكرانيا”.

بهذه التصريحات استبقت موسكو نتائج اجتماع وزراء دفاع الدول الداعمة لأوكرانيا، حيث صرح وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن بأن الصراع في أوكرانيا وصل إلى “نقطة التحول” وحث الحلفاء على عدم التباطؤ في تقديم المساعدات إلى كييف. وقال إن “هذه نقطة تحول.. الآن ليس الوقت المناسب للتباطؤ. لقد حان الوقت للتعمق أكثر. الأوكرانيون يراقبوننا، والكرملين يراقبنا، والتاريخ يراقبنا. لذلك لن نتوقف.. سوف يستمر الدعم لأوكرانيا طالما كان ذلك ضروريا.. إن هذه لحظة حاسمة بالنسبة لأوكرانيا وعقد حاسم للعالم بأسره”. وتم بالفعل التوافق على تزويد أوكرانيا بأسلحة هجومية ومنظومات دفاع جوي ودبابات وأسلحة أخرى أكثر تطورا. إضافة إلى تدريب القوات الأوكرانية في قواعد حلف الناتو وفي ساحات الدول الأوروبية.

من الواضح أن تصريحات ميدفيديف، وحالة التصعيد النووي، تشكل نقلة نوعية في الحرب الروسية على أوكرانيا، ولكنها لا تزال مجرد تصريحات، لأن كل الأطراف النووية وغير النووية تدرك جيدا أن استخدام السلاح النووي هو خسارة للجميع، ولن ينجو منه أحد. ومن جهة أخرى، يبدو أن الكرملين يقوم بآخر محاولاته في مساره نحو اعتماد “سياسة الحافة”، سياسيا وإعلاميا، بهدف الوصول إلى مقاربة على غرار مقاربة أزمة الكاريبي عام 1962 والوصول إلى مفاوضات مع الغرب. ولكن كما قلنا في تقديرات سابقة، فإن الغرب يفشل هذه المحاولات أولا بأول. وعلى الرغم من مواصلة روسيا حملاتها الإعلامية، إلا أنها تدرك جيدا أن الأمور تتجه نحو الأسوأ، لأن تقديراتها بخصوص أزمات الطاقة والمال والتضخم والثورات الشعبية في الغرب كانت غير دقيقة. وفي الوقت نفسه، لا يمكنها التراجع، لأن الثمن سيكون باهظا على المستويين الداخلي والخارجي. وبالتالي، فعليها التقدم إلى الأمام بأي ثمن.

روسيا والعرب

قبل التهديدات النووية الروسية، وفي الأسبوع الثالث من يناير، التقى وزير الخارجية الروسي بالسفراء العرب في موسكو. وأوضح لهم مجددا أسباب الحرب من وجهة النظر الروسية، وألمح إلى مخاطر تخلي أي دولة عربية عن سياسة الحياد، أو المشاركة في العقوبات الغربية المفروضة على موسكو. وفي الوقت نفسه، يقوم الإعلام الروسي الحكومي بحملات دعائية غير مسبوقة وصلت في بعض التقارير إلى سيف الدين قطز وقنصوه الغوري الذين هزما الحملات الصليبية الأولى. واجترار الماضي السحيق بشأن الاستعمار الغربي للدول العربية وضرورة استمرار الشعوب العربية وجيوشها في المقاومة والكفاح. وأعلن بوتين عن مقدمات تحالف بين روسيا وما أسماه بالعالم الإسلامي، وفتح البنوك الإسلامية في روسيا، ووضع بعض العملات العربية في بورصة موسكو وطرحها للتصريف عبر البنوك الروسية.

إن روسيا تطالب الدول العربية بعدم التخلي عن الحياد، وفي الوقت نفسه تطلق آلتها الإعلامية للتأكيد على التحالف العربي والإسلامي مع روسيا. ولكن الأخطر هنا هو تلميحات موسكو الضمنية بأنها تملك أوراقا كثيرة للضغط، سواء باستخدام إيران في منطقة الخليج العربي، أو استخدام التنظيمات القومية والدينة في المشرق العربي، أو الدفع بمتغيرات جديدة في الأزمة الفلسطينية للمزيد من خلط الأوراق، وإشعال الموقف. ولا يخفى على أحد في هذا المقام أن روسيا متضررة ليس فقط من انحياز العرب للغرب، بل وأيضا من حياد العرب. إذ إنه وفق مبدأ الاقتصاد الحر وقوانين السوق وضرورات المصالح القومية والوطنية لكل دولة عربية، فإن دولا عربية كثيرة رفعت وتيرة التعاون مع الغرب في مجال الطاقة، وفي حل قضايا قديمة عالقة، وصنع توازنات وصياغات جديدة في العلاقات. وذلك استباقا لأي تحولات في النظام العالمي يمكن أن تجري بنتيجة الحرب الروسية- الأوكرانية.

في الواقع، تتصرف الدول العربية في الوقت الراهن، حيال الأزمة الأوكرانية، بعقلانية وبرجماتية شديدتين، انطلاقا من مصالحها الوطنية. بل وهناك حالة من الحذر في الاستجابة للبروباجندا والأفخاخ الإعلامية الروسية التي تسعى لدق الأسافين، سواء بين الدول العربية والغرب، أو بين الدول العربية وبعضها البعض. والمتفحص لطبيعة العلاقات بين كبريات الدول العربية وبين موسكو، يمكنه أن يلمح بعض الجفاف، وبعض الغضب وعدم التوقع من روسيا. ولكن الأخيرة لا تستطيع اتخاذ خطوات عملية على الأرض، لأن ذلك يمكنه أن يدفع بالدول العربية ولو خطوة بعيدا عن الموقف الحالي الذي يرضي موسكو قليلا، ويحبطها بعض الشيء أيضا. وفي الحقيقة، لا مصلحة لدى العرب في هزيمة روسيا أو أوكرانيا، ولا حتى انتصار الغرب أو هزيمته. كل ما هنالك أن صاحب القرار العربي أصبح أكثر مرونة وبراجماتية من جهة، وأعمق فهما لطبيعة الصراع بين روسيا والغرب. وكثيرون من القادة العرب يدركون جيدا الأسباب الحقيقية للغزو الروسي لأوكرانيا، بعيدا عن تصريحاتهم الحذرة أو المنافقة.

الكارثة البيلاروسية

في ظل هذا المشهد، أدلى مجلس الأمن القومي البيلاروسي بأحد أخطر التصريحات منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا. إذ أعلن مجلس الأمن البيلاروسي أن البلاد جاهزة لأي أعمال استفزازية من جانب أوكرانيا. وقال النائب الأول لوزير الخارجية البيلاروسي بافيل مورافييكو “إننا نرى جميع الإجراءات، بما في ذلك الإجراءات غير الملائمة، عندما تطلق أوكرانيا النار باتجاه حدودنا، وتنتهك حدودنا، وتستفزنا بكل طريقة ممكنة.. واليوم نحن مستعدون لوقف أي استفزاز وأي تهديد إرهابي يمكن أن يتسبب في أي ضرر لدولتنا وشعبنا على الأرض بغض النظر عن مصدره”.

في الحقيقة، لقد اتخذت روسيا إجرائين مهمين خلال الأشهر العشرة الأخيرة، ومنذ بدء غزو أوكرانيا:

الأول، هو إنشاء قوات مشتركة مع بيلاروس، ونشر قوات وأسلحة روسية على أراضيها، ودمج الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو في منظومة عسكرية- أمنية موحدة مع قادة الكرملين. والثاني، نشر منظومات دفاع جوي (إس 400) وصواريخ وأسلحة حديثة قادرة على حمل رؤوس نووية في بيلاروس، وتعميق حدة التناقضات بين مينسك والغرب.

وبالتالي، فالمشهد حاليا، يكاد يكون نسقا تقريبيا مقابلا، وليس مشابها، لمشهد الحرب العالمية الثانية، مع الأخذ بعين الاعتبار العديد من التفاصيل والتباينات والتطورات: ألمانيا وإيطاليا في جانب، والعالم كله في جانب آخر… ويبقى فقط مشهد شرق آسيا، وبالذات الصين وكوريا الشمالية، لكي يمكننا الحديث عن شكل من أشكال التشابه والتقارب مع مشهد الحرب العالمية الثانية. ولقد تحدثنا باستفاضة وبالتفصيل عن هذا المشهد قبل ثمانية أشهر، بعد بدء الغزو بشهر ونصف الشهر تقريبا. وتوقعنا إمكانية أن تسير الأمور في اتجاه تحالف موسكو ومينسك، وعلى الجانب الآخر، الغرب بمكوناته الثلاثة (الولايات المتحدة وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي). وهذا لا يعني أننا نتحدث عن مشهد مماثل أو مطابق لمشهد التحالفات والتكتلات في الحرب العالمية الثانية، وإنما الحديث يدور حول نسق قريب من هذا المشهد المرعب، مع الأخذ في الاعتبار تطور الأسلحة ووسائل الاتصال والرقميات وخدمات الأقمار الصناعية.

إن موسكو تقوم الآن بمحاولتها الأخيرة للدفع بالأمور إلى الحافة الحادة بكل قوتها من أجل استعادة مقاربة الكاريبي عام 1962، والجلوس حول طاولة المفاوضات عندما اقتربت الأمور من الحافة القاتلة وأصبحت الأصابع على الأزرار الحمراء. ولكن لا توجد أي مؤشرات على نجاح هذه المساعي، خاصة وأن الغرب بكل مكوناته أكد أكثر من مرة وشدد على أنه لن يدخل أي حرب مباشرة مع روسيا. ولكن إذا اقتربت روسيا من أي دولة من دول حلف الناتو، فإن هناك 3 قوى نووية جاهزة، إضافة إلى قدراتها الرقمية، وإمكانياتها العلمية التقنية ونشاطات أقمارها الصناعية التي أخبرت بوتين نفسه بمواعيد غزوه أوكرانيا، مما دفعه إلى تأجيل الغزو مرتين خلال الفترة ما بين 14 فبراير إلى 24 فبراير 2022.

ملامح الخطط الغربية لما بعد الحرب الأوكرانية

تحدثنا في تقديرات سابقة عن استيقاظ أوروبا من غفوتها بشأن الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية، وعن حصار الغرب علميا وتقنيا لروسيا، سواء الآن او بعد انتهاء الحرب الأوكرانية. ولم يكتمل العام الأول لهذه الحرب، وغذا بالأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرج يعلن بشكل صارح أن “التطبيع مع روسيا بعد انتهاء الأزمة في أوكرانيا غير وارد، ولن يكون الأمر كما كان من قبل. حتى لو صمتت المدافع في أوكرانيا، لا ينبغي أن نتوقع تطبيع علاقاتنا مع روسيا”. بل وذهب إلى أنه “بغض النظر عن كيفية انتهاء الأزمة الأوكرانية، فالوضع الأمني ​​في أوروبا قد تغير تماما”.

في ضوء هذه التصريحات الإجرائية، خرجت نتائج اجتماع “رامشتاين” لتصنع تحولا دراماتيكيا، استبقته موسكو بتصريحات أكثر دراماتيكية. وفي الحقيقة، فالمسألة لا تقتصر على الأمن فقط، وإنما تنسحب على محاور ومسارات كثيرة، من ضمنها الأمن وموارد الطاقة والتقنيات الرفيعة، والعديد من المجالات الإنسانية، لأن العلاقات وصلت إلى الخطوط الحمراء عموما مع الأوروبيين والأمريكيين، وتجاوزت هذه الخطوط مع دول أوروبا الشرقية، وهو ما حذرنا منه في بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، من خلال مواقف دول سوفيتية سابقة مثل دول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا)، أو دول حلف وارسو السابقة مثل بولندا والتشيك وسلوفاكيا، أو دول الاتحاد السوفيتي السابقة أيضا مثل أوكرانيا ومولدوفا وجورجيا وأذربيجان. وهناك مؤشرات على إمكانية تعثر العلاقات بشكل غير مسبوق مع أرمينيا التي كانت إلى وقت قريب من أهم وأقرب حلفاء روسيا. ولكن الأخيرة ضمن مناوراتها مع تركيا من جهة، والسعي للحفاظ على موقف إيجابي من جانب باكو من جهة أخرى، ضحت بعدد من ركائز العلاقة الاستراتيجية مع يريفان، واستعدت قطاعات واسعة من الأرمن داخل أرمينيا وخارجها.

هنا تكمن أهمية الموقف العربي، سواء بالتنسيق المشترك، أو وفقا لمصالح كل دولة على حدة، لأن روسيا لديها الإمكانيات لصنع مقاربات وتوافقات مع الغرب، بصرف النظر عن غضبها حاليا أو محاولاتها دق الأسافين لإثارة أكبر قدر من البلبلة والعشوائية في النظام الدولي. وهي أيضا قادرة على التضحية بحلفائها أو استخدامهم كأوراق للمساومة وفق ما تقتضيه مصالح موسكو وليس مصالح حلفائها.