فترة من الاضطرابات
شهد السودان اضطرابات منذ الانتفاضة الشعبية في عام 2019 التي أطاحت بالديكتاتور السابق عمر البشير. فقد خرج ملايين السودانيين، الذين أغضبهم ارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى الشوارع احتجاجًا على حكمه المستمر منذ ثلاثة عقود، والذي كان قد تحول إلى شراكة بين الجيش وحزب المؤتمر الوطني الإسلامي. في النهاية. وفي 11 إبريل/ نيسان، وبعد أربعة أشهر من الانتفاضة، تحول الجهاز العسكري للبشير ضده.
ووسط احتجاجات كبيرة وعمليات قمع وحشية بسبب الوضع المتأزم، اتفق الجنرال عبد الفتاح البرهان، القائد العسكري في السودان، ومحمد حمدان دقلو (“حميدتي“) نائبه، الذي يرأس قوات الدعم السريع شبه العسكرية المسيطرة على جزء كبير من الريف السوداني، في أغسطس/ آب 2019 على تقاسم مسئوليات الحكم مع ائتلاف مدني يعرف باسم “قوى الحرية والتغيير”، والعمل على إجراء انتخابات جديدة والانتقال إلى الحكم المدني.
وقد أحدثتا السنتان من تقاسم السلطة بين المدنيين والعسكريين الذي تلا اتفاق أغسطس 2019 بعض الانفراج في الاقتصاد السوداني، الذي استفاد من رفع العقوبات الدولية في أعقاب الإطاحة بالبشير. لكن سرعان ما عطّلت هذا الانفراج التوترات بين المعسكرين العسكري والمدني، إضافة إلى الاقتتال الداخلي بين أعضاء قوى الحرية والتغيير.
اقرأ أيضًا: ماذا تريد القاهرة من الاتفاق الإطاري السوداني؟
وفي الوقت الذي بدأت تصل فيه بعض التزامات المانحين، ولو ببطء أكثر مما ينبغي، لدعم جهود الحكومة الجديدة لإعادة إطلاق الاقتصاد المتهالك، صارع القادة السياسيون الجدد في السودان لفك قبضة الجيش عن السلطة. كما حفل المعسكر المدني أيضًا بنزاعات بين أحزابه التي تنظر إلى بعضها البعض على أنها خصوم في الانتخابات المستقبلية.
ومع اقتراب أحد المواعيد النهائية لتسليم الجيش “المجلس السيادي” المؤقت بشكل كامل للمدنيين، استخدم الجيش ذريعة الخلافات السياسية لإحكام سيطرته الكاملة مرة أخرى في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، فحلّ الحكومة واعتقل كبار مسئوليها، بمن فيهم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك.
هذا الانقلاب أدخل السودان في مواجهة طويلة. بدا الجنرالات متفاجئون فيها بالمقاومة الشديدة لاستيلائهم على السلطة، سواء في الداخل، حيث واجهوا احتجاجات منتظمة وحملات عصيان مدني، أو في الخارج، حيث واجهوا انتقادات شديدة.
وفي حين توقفت برامج المساعدات من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهي بقيمة محتملة تبلغ مليارات الدولارات، وكذلك توقفت المفاوضات الحرجة للإعفاء من الديون، استمر الاقتصاد في دوامة من الأزمة المعمقة، ووصلت الاضطرابات العنيفة جميع الأرجاء المترامية في البلاد. وفشل الجيش في الحصول على الدعم الكامل من داعميه التقليديين، بمن فيهم السعودية، والإمارات العربية المتحدة وروسيا، التي لم تقدم أي منها دعمًا كبيرًا لحكومة ما بعد الانقلاب. كما فشل الجنرالات في اجتذاب ما يكفي من النخب السياسية للوقوف معهم لتشكيل حكومة ذات مصداقية. الأمر الذي يتركهم فعليًا وحدهم في تحمل مسئولية التردي المستمر للبلاد. وهو على ما يبدو السبب في اضطرارهم للبحث عن التخلي عن السلطة أخيرًا.
إرهاصات الاتفاق
وفق تقرير مجموعة الأزمات، حدث التقدم نحو الاتفاق عبر قناة منفصلة. إذ بدأت الولايات المتحدة والسعودية، اللتان تمثلان العمود الفقري للحوار الأمني الرباعي (كواد – مجموعة من الشركاء الخارجيين تضم أيضًا المملكة المتحدة والإمارات العربية المتحدة)، بتيسير محادثات مباشرة موازية بين كتلة قوى الحرية والتغيير الرئيسية والجيش. لكن رغم تحقيق هذه المحادثات تقدمًا، فإنها أقصت جهات فاعلة مهمة، بما فيها عدة أحزاب معارضة، ولجان المقاومة وعدد من مجموعات المتمردين السابقين.
كما أغضبت دبلوماسيي الاتحاد الإفريقي و”إيجاد“، الذين رأوا أن المحادثات تقوض الآلية الثلاثية.
وفي مطلع يوليو/ تموز 2022، انسحب البرهان من المفاوضات، وأطلق إعلانه المفاجئ بأن الجيش سيترك للمدنيين تشكيل حكومة بأنفسهم. لكن الأطراف المدنية (التي نظرت إلى عرض الجيش على أنه خدعة لتحميلهم المسئولية عن المأزق السياسي) ظلت منقسمة حيال إيجاد مسار إلى الأمام.
تم التوصل أخيرًا إلى اتفاق بعد أن وضع رجال قانون سودانيون مسودة لدستور جديد ينص على استعادة السلطة المدنية خلال فترة انتقالية، والذي أصبح الأساس لتجدد المحادثات من خلال الآلية الثلاثية والحوار الأمني الرباعي (كواد) على حد سواء.
نص الاتفاق
على الورق، يحقق الاتفاق بشكل غير متوقع معظم مطالب الأحزاب المناهضة للانقلاب. وينهي الدور السياسي الرسمي للجيش، ويحل فعليًا ترتيب تقاسم السلطة الذي استمر من أغسطس/ آب 2019 وحتى انقلاب أكتوبر/ تشرين الأول 2021. وينص على نظام انتقالي يصبح فيه مدني رئيسًا للدولة، ويكون رسميًا قائدًا عامًا للقوات المسلحة والقائد الأعلى لقوات الدعم السريع، رغم أنه من الناحية العملية سيستمر البرهان وحميدتي بقيادة الجيش وقوات الدعم السريع، على التوالي.
وبموجب الترتيب الجديد، سيعين المدنيون أيضًا رئيس الوزراء، ومجلسًا تشريعيًا انتقاليًا، ومجلسًا قضائيًا مؤقتًا يتكون من أحد عشر عضوًا. وسيسمى رئيس الوزراء بدوره أعضاء الحكومة وحكام الأقاليم ويرأس مجلس الدفاع والأمن، الذي يكون رؤساء مختلف أجهزة أمن الدولة أعضاء فيه (بما في ذلك، على ما يفترض، البرهان وحميدتي).
كما يحوي الاتفاق أحكامًا يبدو أنها تهدف إلى إعادة توزيع السلطة بعيدًا عن قوات الأمن. ويحظر على الأجهزة الأمنية المشاركة في السياسة أو التجارة. وتتولى وزارة المالية إدارة جميع المؤسسات التي تملكها الدولة، والتي هيمنت عليها النخب الأمنية، كنوع من اقتصاد الظل، منذ عهد البشير.
في هذه الأثناء، يلزم الاتفاق الجيش بإجراء إصلاحات تفرضها الحكومة، مثل دمج مجموعات المتمردين السابقين وقوات الدعم السريع في جيش احترافي واحد. وتجري الانتخابات في نهاية الفترة الانتقالية ومدتها سنتان.
الانتقادات
يشتكي منتقدو الاتفاق، وهم كثر، من الاتفاق نفسه ومن العملية الكامنة خلفه على حد سواء. ويرغبون برؤية كبار القادة العسكريين (لاسيما البرهان وحميدتي) وقد خضعوا للمساءلة القضائية. كما يجادلون بأن الاتفاق لن يفعل الكثير لإضعاف قبضة الجيش أو وضع ضمانات ضد حدوث انقلاب آخر.
ففي خطاب بعد توقيع الاتفاق، طمأن البرهان ضباط الجيش بأن الحكومة الانتقالية الجديدة ستترك الجيش مسئولًا عن شؤونه، رغم البند الذي ينص على اضطلاع القيادة المدنية الجديدة بتوجيه إصلاح القطاع الأمني.
هاجس آخر يتمثل في أن الاتفاق الجديد يهدد بإلغاء الترتيبات السابقة مع مجموعات المتمردين في المناطق النائية من السودان. ولاسيما تلك التي وقعت اتفاق سلام جوبا في عام 2020، الذي كان يهدف إلى توسيع تمثيل المناطق الواقعة خارج مراكز القوى النهرية التقليدية في البلاد.
وتعترض مجموعات المتمردين السابقين على اللغة التي تشير إلى أن اتفاق جوبا، الذي يعد الموقعين بـ 25% من المقاعد في الإدارة المدنية، بين تنازلات مهمة أخرى، يمكن أن يعاد التفاوض بشأنه. في حين أن هذا الاتفاق يحتوي عيوبًا ونواقص كثيرة، وخلق مجموعة جديدة من المشكلات بالنظر إلى أن مختلف قادة المجتمعات المحلية في سائر أنحاء البلاد يعترضون على أن يتم تمثيلهم من خلال أولئك الذين وضعوا الاتفاق، فإن الموقعين على اتفاق جوبا سيقاومون أي محاولة لتقويض مكاسبهم التي حصلوا عليها بعد عناء.
لكن قد يكون الهاجس الأكبر والأكثر شرعية بشأن اتفاق ديسمبر، يتعلق بالمسار. فالكثير من المجموعات المعارضة للانقلاب لها مظالم بشأن الأطراف التي تفاوضت على الاتفاق وكيفية تجمعها. فبدلًا من التوصل إلى توافق بين هذه الجهات الفاعلة أولًا، فإن قادة قوى الحرية والتغيير تفاوضوا مباشرة مع الجيش.
والكثير من أعضاء الائتلاف الأصلي لقوى الحرية والتغيير، بما في ذلك لجان المقاومة، الذين اقترحوا خريطة طريق سياسية خاصة بهم، يشعرون بغضب شديد.
عملية شاملة
يقول تقرير مجموعة الأزمات إن الاتفاق الإطاري يتعامل مع الأسئلة المحورية التي تتعلق بكيفية تسليم الجيش السلطة إلى حكومة مدنية وماهية صلاحياته في المستقبل. لكنه لم يعالج عددًا من القضايا المهمة التي فضلت قوى الحرية والتغيير عدم التفاوض عليها بمفردها، جزئيًا، لأنها تخاطر بإحداث رد فعل شعبي.
على هذه الخلفية، فإن جولة مفاوضات المرحلة الثانية التي بدأت في يناير/ كانون الثاني الجاري -بشكل رئيسي للشروع في معالجة هذه القضايا وبناء دعم أوسع للاتفاق- من المرجح أن تلعب دورًا محوريًا في تحديد مدى قابلية الاتفاق للحياة. ومن أجل مساعدة الحكومة المستقبلية على بناء ائتلاف أكبر وإشراك عدد أكبر من الجهات الفاعلة، فقد أعلن قادة قوى الحرية والتغيير خططًا لإقامة ورشات عمل على مستوى البلاد، بقيادة تجمع المهنيين السودانيين، لمحاولة التوصل إلى توافق فيما يتعلق بالقضايا الخلافية موضع النقاش.
توصيات مجموعة الأزمات
توصي مجموعة الأزمات بعدد من الخطوات التي تهدف إلى توسيع القاعدة الداعمة لحكومة مدنية انتقالية سيتم تشكيلها بعد التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن الاتفاق الإطاري، وهي تتضمن:
أولًا، يتعين على قادة قوى الحرية والتغيير، المتوقع أن يشكلوا الحكومة القادمة، أن يسعوا إلى التوصل إلى تسوية مؤقتة مع الفصائل السياسية المدنية الأخرى. وينبغي أن تركز على نحو خاص على لجان المقاومة ومنظمات المجتمع المدني مثل الجمعيات المهنية، ونقابات العمال والمجموعات النسائية التي كانت مكونات محورية في تحالف قوى الحرية والتغيير، لإبقاء الضغط مستمرًا على الجيش ليقوم بعملية الإصلاح.
وتعترف المجموعة باستحالة إقناع الكثير من لجان المقاومة بمباركة اتفاق أدانته أصلًا. لكنها توصي قادة قوى الحرية والتغيير بالاستمرار في محاولة إيجاد أرضية مشتركة، قد تكون إحدى النقاط المرجعية المفيدة للنقاش مع معارضي الاتفاق الميثاق السياسي الذي وقعته أكثر من 50 لجنة مقاومة في سبتمبر/ أيلول 2022، واقترح مسارًا إلى الأمام للمرحلة الانتقالية في السودان.
ثانيًا، يتعين على الموقعين على الإطار أخذ هواجس السودانيين الذين يعيشون في المناطق الريفية الواسعة والمضطربة في كثير من الأحيان خارج الخرطوم بعين الاعتبار في الاتفاق النهائي. إذ يبقى الاتفاق الإطاري متركزًا على الخرطوم، من حيث أن معظم الموقعين عليه موجودون في العاصمة وحولها، حتى بعد عقود هيمن فيها المركز على البلاد بشكل أضر كثيرًا بالاستقرار الأوسع في السودان.
اقرأ أيضًا: السودان.. هل يصل الاتفاق الإطاري لمحطة التوافق؟
كما يتعين إشراك أوسع للزعماء التقليديين وقادة المجتمعات المحلية (مثل زعماء القبائل) في النقاشات، بالنظر إلى أن الكثير منهم يسهمون بدرجة كبيرة في توازن القوى على المستوى المحلي. إذ ينص الاتفاق الإطاري على أن الجولة التالية من المفاوضات ينبغي أن تعالج عملية السلام في الشرق. حيث رفض زعماء قبائل البيجا اتفاق جوبا لعام 2020، وأغلقوا طرقات وموانئ رئيسية احتجاجًا على ذلك.
ثالثًا، ينبغي على نخبة قوات الحرية والتغيير بشكل خاص أن تعيد النظر في إقصاء الإسلاميين غير المرتبطين بحزب المؤتمر الوطني بزعامة البشير. وعدم التعامل مع جميع الإسلاميين على افتراض أنهم متعاطفين مع البشير.
رابعًا، الاعتراف بأن التواصل مع كل هذه المجموعات سيكون صعبًا، وسيتطلب ميسرًا محايدًا. ولذلك ينبغي على قادة قوى الحرية والتغيير أن يساعدوا في تمكين وسطاء ثلاثيين من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي و”إيجاد” من التدخل. وفي حين وجدت العملية الثلاثية صعوبة حتى الآن في إيجاد مدخل لها في المساعدة على التوسط للتوصل إلى مسار للخروج من المستنقع السياسي السوداني، فإن اللحظة مواتية لتضطلع بدور قيادي.
رابعًا، ومن أجل خلق أفضل الرهانات بأن تنجح الحكومة الانتقالية القادمة حيث فشلت الحكومة السابقة، ينبغي لمفاوضات المرحلة الثانية أن تضع خطة عمل واضحة مصممة لتجنب المعارك على النفوذ التي قوضت سابقتها.
خامسًا، توصي مجمعة الأزمات القوى الإقليمية المقربة من الجيش، مثل السعودية، والإمارات، ومصر، أن تدعم انتقال السلطة إلى المدنيين. لا سيما وأنها تعرف بأن تبعات انقلاب عام 2021 أثبتت مرة أخرى أن الجيش لا يحظى بدرجة من الشعبية تمكنه من حكم البلاد.
وكذلك، يتعين على الدول الغربية والخليجية، إضافة إلى المؤسسات المالية الدولية، أن تبدأ أيضًا بترتيب المساعدات التنموية والمالية لحكومة مدنية جديدة مباشرة بعد وفاء الجيش بالتزاماته بالتنحي جانبًا.