على الرغم من فشل اللقاء التشاوري الذي استضافته حكومة الدبيبة في طرابلس ودعت إليه وزراء الخارجية العرب، حيث غاب معظمهم وحضر وزراء خارجية الجزائر وتونس وفلسطين بجانب مندوبين من أكثر من دولة عربية، إلا أن توافق من حضروا ومن لم يحضروا على أن حل الأزمة الليبية سيكون في إجراء الانتخابات كان واضحا.
والمؤكد أن إجراء الانتخابات الليبية سيظل مخرجا للصراع في ليبيا إذا وضعت مجموعة من الشروط والقواعد المسبقة التي يلتزم الجميع باحترامها، ويتم التعامل مع الانتخابات باعتبارها وسيلة لتحقيق هدف أكبر هو الاستقرار والوحدة والبناء.
والحقيقة أن الأزمة الليبية في جوهرها هي أزمة انقسام سياسي ومناطقي دعمته قوى إقليمية، وأن هذا الانقسام خلق أدوات إدارة وحكم وشبكات مصالح في الشرق والغرب جعلت التخلي عنها ليس بالأمر السهل، وهو شبيه بانقسامات كثيرة عرفتها تجارب عربية وإفريقية وعالمية تحول فيها من انقسام بين نخب سياسية إلى انقسام له قاعدة اجتماعية وشبكات مصالح بحيث لم يعد الخلاف فقط بين قادة في بني غازي أو طرابلس أو مصراته إنما صار بين شبكات مصالح مستفيدة من هذا الانقسام.
وقد قابل هذه النخب والشبكات رأي عام شعبي عابر للمناطق يرفض هذا الانقسام ويعمل على تجاوزه ويطالب بتوحيد البلاد ولو بصورة فيدرالية بين أقاليمه الثلاثة، وتظاهر أكثر من مرة احتجاجا على سوء الأحوال المعيشية في كل المناطق دون تمييز.
ولذا علينا ألا نندهش من أن كثير من الاتفاقات التي وقع عليها فرقاء الساحة الليبية منذ اتفاق الصخيرات في المغرب في 2015 مرورا بتفاهمات برلين وباريس وإعلان القاهرة وغيرها لم تنفذ على أرض الواقع، وأن أي اتفاقات مستقبلية لا تضن آلية للتنفيذ وتفاهم محلي ودولي على “فرض التنفيذ” سيكون مسارها الفشل.
ورغم أن الانقسام الحادث بين أطراف الساحة الليبية ظل مدعوما من قوى عسكرية وميليشيات مسلحة بعضها أجنبي موجودة على الأرض، إلا أن الجميع في داخل ليبيا وخارجها بات يعتبر أن “الانتخابات هي الحل”، ومعها الشعار القديم “توحيد المؤسسات”، وهما حلان أو مخرجان يدعمهما الجميع قولا، وبقيت آليات تنفيذهما تمثل التحدي الحقيقي.
وبدا واضحا أن أزمة الانتخابات الليبية ليست أزمة إجراءات إنما هي أزمة بنيوية أكثر عمقا، تتعلق بتخوفات متبادلة بين أطراف الساحة الليبية من اليوم التالي لإعلان اسم الفائز بهذه الانتخابات.
والحقيقة أن سؤال إجراء الانتخابات بات شعارا مرفوعا من مختلف فرقاء الساحة الليبية، كما أكد عليه أيضا المبعوث الأممي الجديد لليبيا السنغالي “عبد الله باثيلي” الذي طالب الجميع بضرورة الالتزام بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية وضمان وجود سلطة تنفيذية واحدة كما دعمت قوي إقليمية ودولية كبرى مؤثرة في الملف الليبي هذا التوجه، وهو يمثل في حد ذاته بيئة مواتيه لإجراء الانتخابات ولكنها تظل غير كافية.
والحقيقة أن الانتخابات الليبية تواجه تحديا رئيسيا يتجاوز “الجوانب اللوجستية” التي يتحدث فيها الكثيرون ويقصرون الأمر على ضرورة وجود مراقبين دوليين وقضاة وصناديق زجاجية وغيرها، لأن المطلوب هو إيجاد صيغة للتفاهم على أشخاص يكونوا محل توافق بين الأطراف الليبية المختلفة.
إن هذا التصور يعني إجراء نوع من “الانتخابات المقيدة” التي تشهدها مجتمعات كثيرة في بداية تحولها السياسي والديمقراطي، والمقصود هنا أن يجري التفاهم على ترشح أسماء بعينها قبل إجراء الانتخابات، ويترك لإرادة الناخبين الحرة أن تختار بينهم، بحيث لا يمثل نجاح أي منهم تهديد “وجودي” لباقي الأطراف ويعترف بنجاحه المرشحون الخاسرون.
والحقيقة أنه لا توجد حتى الآن أي مؤشرات على أن المجتمع الدولي يسير في هذا الاتجاه، وأنه مستعد -أيا كان شكل الانتخابات- أن يضمن احترام الجميع لنتائجها، لأن ذلك يتطلب امتلاك آلية “جبر” وأدوات خشنة لفرض احترام نتيجة الانتخابات على الجميع؟ ولا يوجد حتى اللحظة مؤشرات تقول إن المجتمع الدولي والأطراف المؤثرة في الملف الليبي مستعدة لهذا التوجه.
وبالتوازي مع مسألة شروط الانتخابات، مطلوب أيضا التوافق على القاعدة الدستورية التي ستجري على أساسها، فالدستور الليبي الصادر في 2016 وتضمن 12 بابا و220 مادة لم يترجم على أرض الواقع في نصوص ملزمة، حيث أعلن في اجتماع القاهرة الذي عقد في شهر مايو من العام الماضي التوافق على 140 مادة، وتركت بعض المواد القليلة جدا كما قيل وقتها “لمزيد من المراجعة والدراسة والتعديل”.
ومنذ ذلك التاريخ لم يتم التوافق على هذه المواد “القليلة جدا” لوضع قاعدة دستورية تجري على أساسها الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وحتى لو حدث هذا التوافق على الورق فإن أزمة ليبيا ستبقى في إعمال النص الدستوري وفرض احترامه في الواقع.
سيبقى التحدي الذي تواجهه ليبيا، سواء أجريت الانتخابات بمنافسة كاملة بين كل الأطراف أو مقيدة بين أطراف يقبل فيها الخاسرون سلطة الفائز، في امتلاك آلية لفرض احترام نتيجة الانتخابات، وهو ما غاب عن ليبيا منذ اتفاق الصخيرات وحتى اللحظة.
سيبقى إجراء الانتخابات في ليبيا هدفا مشروعا لتحقيق هدف أكبر هو وحدة البلاد واستقرارها، وليس تعميق الانقسام ورفض الخاسر القبول بشرعية الفائز، وإنه قبل إجرائاها لابد من معرفة أن هذا البلد تاريخه على مدار عشر سنوات هو تاريخ لاتفاقات وتفاهمات مهدره كانت مجرد حبر على ورق، وأن مشكلتها ليست في النصوص إنما في تنفيذها، وأن الانتخابات التي هي بالتأكيد جانب من الحل وقد تكون طريق الحل إذا ضمن المجتمع الدولي والقوى الإقليمية والفاعلون المحليون الالتزام بنتائجها مهما كانت.