لم ينجز المصريون في القرن الحادي والعشرين أعظم من ثورة 25 يناير 2011، أنجزوها في مائة ساعة بين عصر الثلاثاء 25 وعصر الجمعة 28، من لحظة توافد الحشود وحتى أعطت الشرطة ظهرها للمتظاهرين وتخلت عن مهمتها في حماية النظام، عندما انكسرت الشرطة سقط النظام فورا فقد كانت هي الذراع الوحيد الذي بقي له ومعه. وكل ما جاء بعد ذلك ليس من الثورة، بل من الثورة المضادة، وبالتحديد نزول القوات المسلحة عند غروب شمس 28 يناير لم يكن من الثورة بل كان -في الحقيقة عليها- بدأ باحتوائها وتملقها ثم انتهى بالانقضاض عليها والتخلص منها، في هذه الساعات المائة بلغ الشعب رسالته لنفسه ثم لحكامه ثم للعالم، قال: الدولة انفصلت عن الشعب، ثم ضلت الطريق، ولزم إيقافها عند حدها، ثم لفت انتباهها، ثم توجيهها في الطريق الصحيح.

كانت الدولة المصرية -على مدار ستين عاما من ثورة 23 يوليو حتى ثورة 25 يناير- قد عقمت ثم كمكمت ثم تعفنت عفونة كاملةً، عندما خرج الشعب المصري عن صمته، ونزل إلى الميادين العامة في الخامس والعشرين من يناير 2011، ليسجل حضوره العلني في حركة التاريخ، وليقول لنفسه ثم لحكامه ثم للعالم إنه شعب حاضر حي باق لم يمت، وأنه مالك هذه المليون كيلو متر مربع برها وبحرها وجوها وتاريخها وحاضرها ومستقبلها، وأنه -أي الشعب- السيد وصاحب السيادة وله وحده القول الفصل في: من يحكم؟ وكيف يحكم؟ ولصالح من يحكم؟ فثورة يناير كانت ثورة على مجمل الستين عاما لدولة 23 يوليو كما هي ثورة على ثلاثين عاما من حكم مبارك.

كانت الدولة المصرية قد عقمت بعد عقدين من حكم عبد الناصر الذي لم ينقلب فقط على حكم سلالة محمد علي باشا لكن انقلب بصورة أخطر على كفاح المصريين من أجل الحكم الدستوري وتقييد سلطة الحاكم، فجاء حكم عبد الناصر ليدفن هذا النضال المجيد للمصريين ثم ليؤسس ديكتاتورية جمهورية تتفوق على ديكتاتوريات الحكام من محمد علي باشا حتي فاروق الأول.

ثم كانت الدولة المصرية قد كمكمت بعد عقد كامل من حكم السادات الذي احتفظ بديكتاتورية عبد الناصر في جوهرها مع إضافة ديكورات ديمقراطية شكلية ثم انقلب على التوجهات العامة لحقبة عبد الناصر فبدت الدولة المصرية ألعوبة خفيفة يتمرجح بها كل حاكم حيث يشاء ذات اليسار أو ذات اليمين.

ثم كانت قد تعفنت عفونةً كاملة بعد ثلاثة عقود من حكم مبارك، انتكست خلالها الدولة المصرية إلى كائن سياسي مشوه ظاهره جمهوري ومضمونه ملكي عائلي، وبات على أركان الدولة ذاتها ومؤسساتها الصلبة ذاتها أن تختار بين أمرين لاثالث لهما: إما التمديد لرئيس أكلته الشيخوخة، أو التوريث لنجل الرئيس في سابقة غريبة على العهد الجمهوري.

هنا نزل الشعب المصري، وحرر الدولة ذاتها، وفك أسرها، وأعفاها من الارتهان المهين المذل للأب والنجل، لحظة مجيدة تحررت الدولة المصرية فيها، بفضل الشعب، من لحظة عجز مذلة ومهينة.

وكان على الدولة المصرية أن تبدأ من هنا، من 25 يناير 2011، من روح الشعب وسيادته وحضوره الغالب على كافة مكونات اللحظة.

لكن الدولة المصرية لم تدرك ما في الثورة من إضافة لها وليس خصما منها، ارتابت في الثورة ولم تطمئن لها، لم تدرك أن الثورة نقطة بداية جديدة يمكن الانطلاق منها ثم البناء عليها ثم تجديد الدولة وتخليصها مما أدركها من عقم ثم كمكمة ثم عفن، كانت ثورة 25 يناير 2011 منحة من التاريخ للدولة المصرية في لحظة عجزت فيها الدولة أن تصلح نفسها من داخلها.

وبالعكس كان العفن يزحف على الخلايا الصالحة منها، لقد اختارت الدولة المصرية بدلا من ذلك أن تكون جزءا من الثورة المضادة مرتين. مرةً حين أدارت انتخابات بطريقة لم يكن من الوارد إلا أن تسفر عن تسليم مقاليد البلاد للإخوان وكانت هذه رغبة دولية ليس في مصر وحدها لكن في كل بلدان الربيع العربي، الأمريكان -بالتحديد- كانت لديهم رغبة في تجريب الإخوان في مصر وتونس وغيرها. ثم مرة ثانية مع تأسيس الجمهورية الجديدة التي هي ليست شيئا أكثر من ثورة مضادة شاملة ضد الثورة وضد الإخوان وضد الديمقراطية وحتى ضد تراث دولة 23 يوليو القائم -من عبد الناصر ثم السادات ثم مبارك- على شيء من الديكتاتورية في مقابل شيء من المزايا الاجتماعية، فجاءت الجمهورية الجديدة بديكتاتورية محضة صافية مشفية في مقابل صفر مزايا اجتماعية فحتى الرغيف الحاف لم تتسامح فيه إلا بسعره.

بعد اثني عشر عاما من ثورة 25 يناير 2011، عادت الدولة المصرية إلى مأزقها القديم، ليس في شكل اختيار جبري قسري قهري بين تمديد لمن بات لا يقدر وتوريث لمن لا يستحق، ولكن في شكل حكم فردي مطلق استعاد ما في تراث دولة يوليو من طغيان لكن بدون ما في ذاك التراث من مزايا اجتماعية. ثم الشعب منهك القوى بعد سنوات من القهر القصدي والفقر العمدي، ثم القوى الدينية مثل الإخوان تم تفكيك بنيتها التنظيمية وتجريدها من قوتها المالية وتشتيت قيادتها بين السجون والمنافي واللواذ بالصمت، ثم القوى المدنية تم عقاب كل من له صلة من قريب أو بعيد بالثورة ثم استنزاف كل من لديه روح المبادرة والطاقة على الفعل، ثم عموم المصريين تحت ضغط توفير الحد الأدنى من مقومات الحياة التي تزداد مشقة كل يوم.

السؤال الآن: هل بات يلزمنا ثورة جديدة؟

الجواب: مصر لايلزمها ثورة جديدة، فقط يلزمها البناء على ثورة 25 يناير 2011، هي ثورة كافية، تكفي المصريين حتى نهاية هذا القرن ال21، ولا تحتاج إلى ثورة إضافية، هي من البلاغة والوضوح والبيان بحيث لاتزال رسالتها ترن في أذن كل مصري مهتم بالشؤون العامة، هي كافية لإعادة توجيه الدولة في المسار الصحيح، مسار مصري وطني صميم، لا يتأثر بإيحاءات دولية ولا إقليمية، فقط يستجيب لنداءات المصريين في الثورة: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية.
خلال الإثني عشر عاما من تاريخ ثورة 25 يناير تبلورت عدة دروس كبرى:

1- الدرس الأول من الدولة المصرية: كانت الدولة منقسمة بين فريق الشيوخ حول الرئيس وفريق الشباب حول الوريث، لهؤلاء فكر، ولأولئك فكر مختلف، الشيوخ امتداد لحكم دولة يوليو، الشباب امتداد لموجة نيوليبرالية في الاقتصاد والسياسة تزحف من الغرب على العالم كله، الجيش والمخابرات أقرب لفريق الشيوخ، الشرطة أقرب لفريق التوريث، قوة رجال الأعمال الصاعدة تتراوح بين الفريقين، وفي مثل هذا الانقسام فإن القدرة على الفعل الموحد الذي هو أهم سمات الدولة لم يكن ممكنا، الرئيس نفسه كان يرضي هؤلاء بإشارة ثم يعود ليوازن الموقف بإشارة ترضي الفريق الآخر، ثم هذا الانقسام ظهر في الإعلام: الإعلام الرسمي في أغلبه كان تحت سيطرة الوريث، بينما استطاع الشيوخ من مواقعهم في السلطة توجيه الإعلام المستقل والحزبي والمعارض ضد التوريث، أشد الأصوات معارضة للتوريث كانت محمية ومدعومة من أشخاص مهمين في أعلى قمة النظام، كانت الدولة ضائعة تحت قيادة نظام بعضه ضد بعضه.

كان الفريق القديم يعلم أن النظام انتهى حتى قبل الثورة، وبعضهم كان يفكر في ترتيب أموره الخاصة بعد أن يخرج من السلطة، لكن لم يكن لدى أحدهم القدرة على أن يتوقف أو يستقيل أو يقفز من المركب، كان أكثر رجال الرئيس قضوا معه أكثر من عشرين عاما، فتحول وتحولوا معه إلى ظواهر طبيعية تستمر ما استمر الليل والنهار. فريق الشيوخ كان على يقين أن الدولة -منذ 2002 تاريخ ظهور فكرة التوريث- قد انحرفت عن المسار الصحيح في وجهة نظرهم.

هذا المسار الصحيح هو أن كل رئيس من ضباط الجيش يعين خلفا له كنائب رئيس يكون من ضباط الجيش وهكذا يستمر الحكم يتوارثه الجيش، ثم كان لهم اعتراض على الخصخصة والدور المتزايد لرجال الأعمال في السياسة، ثم لم يكونوا يبلعون فكرة أن يخضعوا لنجل الرئيس وهو لا يفرق في شيء عن أنجال كل منهم، ومن ثم كان لديهم اعتقاد راسخ أن مستقبلهم السياسي مسدود ومغلق سواء بثورة أو غير ثورة، فتوريث النجل كان معناه الاستغناء -في الوقت المناسب- عن كل رجال الأب، لم تكن تشغلهم فكرة مثل الديمقراطية أو الحريات أو العدالة الاجتماعية لكن كانوا -من الخبرة العتيقة- بحيث يراعوا القدر الأدنى من الديمقراطية والحد المعقول من الحريات وعدم الافتئات على ما بقي من عدالة اجتماعية من تراث دولة 23 يوليو.

عندما قامت ثورة 25 يناير 2011 لم يكن لدى رجل واحد من الحرس القديم أدنى استعداد للدفاع عن بقاء الرئيس. لم يكن لهم -من حيث المبدأ- موقف مضاد من الثورة، ولم يكن لديهم خوف منها، إلا بعد أن انقسموا إلى فريقين، فريق السياسيين حول اللواء عمر سليمان، ثم فريق المشير طنطاوي وكان أقوى من في البلد بحكم أنه وزير الدفاع.

الثورة أشاعت جوا يحذر من إعادة انتاج النظام القديم، استفاد منه المشير في إعاقة ترشح اللواء عمر سليمان ثم في إعاقة فوز الفريق أحمد شفيق وكلاهما كان مستعدا لخوض سباق انتخابي ديمقراطي بلا تزوير في أول انتخابات بلا تزوير منذ إعلان الجمهورية 1953. كانت المعركة في هذه اللحظة ليست بين الثورة والنظام، كانت بين فريقين من كبار رجال مبارك بعد أن خلصتهم الثورة من فريق التوريث، فريق المشير أصبح هو الحاكم الفعلي للبلاد، والمشير يرى الموت ولا يرى عمر سليمان أو أحمد شفيق رئيسا للبلاد، ومثلما خلصته الثورة من التوريث، تطوع الإخوان وخلصوه من ترشح سليمان ثم من فوز شفيق، وأصبحت مقاليد البلاد رسميا وفعليا في يد فريق العسكريين، وفريق العسكريين سمحوا بفوز الإخوان لما كان ذلك أنسب الحلول بالنسبة لهم، حل أفضل من أي رئيس يمثل الثورة أو أي رئيس من خصوم المشير من كبار العسكريين وكبار رجال مبارك. لم تكن الدولة -في اللحظات الأولى من الثورة- في وارد العداء مع الثورة، العداء أو الخصومة جاءت من بعض الأطراف التي نالتها الخسارة بصورة مباشرة مثل الشرطة ومثل الحزب الوطني ومن فيه من عائلات تقليدية وقوى انتفاع ومراكز فساد عششت في دهاليزه ثلاثين عاما أو أكثر. ثم الفراغ الذي تركته الشرطة مع روح الخصومة لدى الحزب الحاكم هما من فتح الباب لما حدث من فوضى مقصودة لذاتها وكعمل عدائي موجه ضد الثورة.

2- الدرس الثاني من حكم الإخوان: صحيح جاؤوا للحكم بانتخابات هي الأكثر شفافية منذ إعلان الجمهورية في 18 يونيو 1953، وصحيح جاؤوا بربع أصوات الناخبين، لكن لم تكن لديهم روح الديمقراطية، كانت تحركهم روح الغزاة وهمة الفاتحين بالمعنى الجهادي للغزو والمعنى الديني للفتح، غابت عنهم في الممارسة العملية ألف باء الديمقراطية من تعدد وتنوع وتشارك وتسامح ونسبية، صحيح لم يمارسوا القهر والقمع لكن ذلك كان عن عجز وعدم استطاعة لتعذر الأدوات التي كانت في يد الدولة العميقة وهي دولة مبنية على الخصومة التاريخية مع الإخوان، الدولة العميقة -منذ العصر الملكي- تقبل أن تتحالف مع الإخوان أو تستخدمهم أو تحتويهم أو تهادنهم، لكنها وجدت نفسها في تجربة جديدة، حيث في الظاهر تخضع لهم، وحيث في الواقع تلعب بهم وهم فوق قمم السلطة وفوق رؤوس المؤسسات، استعصت الدولة العميقة على الإخوان، بينما كان الإخوان يعتقدون أن فوزهم بالرئاسة يستحل البلد لهم غنيمة حرب.

خطأ الإخوان الاستراتيجي، غير أن المشير طنطاوي الرئيس الفعلي للبلاد بعد سقوط مبارك استخدمهم ليضرب بهم الثورة ويصفيها من محتواها، كما استخدمهم ليضرب خصومه من كبار العسكريين مثل عمر سليمان وأحمد شفيق، غير هذه الخطأ، أخطأوا حين قرروا التحول بين يوم وليلة من قوة معارضة نصف سرية نصف علنية، حيث التنظيم سري والنشاط السياسي علني، إلى قوة حكم تقود كل مؤسسات البلد مرة واحدة ودفعة واحدة وفي وقت مضطرب وفي لحظة ثورية عاصفة ودون سابق أدنى خبرة بممارسة الحكم، بهذا الخطأ الاستراتيجي استخدمهم المشير طنطاوي والدولة العميقة كاسحات ألغام، وضعوا أنفسهم في وجوه المدافع، وتم تحميلهم في سنة واحدة حكموها كل أوزار دولة يوليو التي ارتكبتها في حكم دام ستين عاما.

كان الأفضل للإخوان والثورة ولمصر أن يرفق الإخوان بأنفسهم، ولا يتحولوا في لحظة من قوة معارضة غير شرعية إلى قوة حكم تدعي أنها تمثل الشرعية، وهي في الحقيقة لم تكن غير شرعية تم توليدها في صوبات اصطناعية مجهزة تحت عين المشير طنطاوي.

ولأن الإخوان لايدرسون التاريخ عموما ولا حتى تاريخهم خصوصا، فقد كرروا أخطاءهم التي أمكنت عبد الناصر من التحالف معهم ثم استئصالهم بين عامي 1952- 1954، كرروها بحذافيرها مع المشير طنطاوي ورجاله 2011 – 2013 بما أمكنهم من تكرار سياسة عبد الناصر، فقد تحالف معهم المشير وقت الحاجة إليهم ثم تم استئصالهم بعد الاستغناء عنهم، وفي المرتين كان الإخوان انتهازيين براجماتيين في لحظة التحالف ثم كانوا ضحايا لعسف مروع عند الاستئصال، مع فارق أنه عند استئصال عبد الناصر لهم كانت دول مثل السعودية والأردن تفتح أبوابها لهم، أما في الاستئصال الأخير فحلت قطر وتركيا مكان السعودية والأردن.

خلاصة الدرس: خسرت السياسة المصرية الإخوان كقوة معارضة، وكان الأولى بالإخوان ألا يندفعوا للحكم بغير استعداد سابق، فالهامش الضعيف الذي فازوا به في انتخابات الرئاسة لا يكفي سندا لحكم مستقر في بلد مضطرب في لحظة ثورية ترتفع فيها التوقعات وفي دولة قليلة الإمكانات شاخت مع شيخوخة مبارك، وعلى سبيل المثال فإن الإعلان الدستوري الذي أصدروه في نوفمبر 2012 وكان القشة التي قصمت ظهر البعير كان الضباط الأحرار يصدرون مثله كل يوم في الأيام الأولى من حكم دولة يوليو، الفرق أن الضباط كانوا يركنون ظهورهم على دبابة بها خلعوا الملك ذاته، لكن الإخوان كانوا يركنون ظهورهم على ربع أصوات الناخبين بعد ثورة هم أنفسهم تحالفوا مع المشير طنطاوي ضدها.

3- الدرس الثالث من قوى الثورة ذاتها، الثورة كانت تملك كل مقومات النجاح من حيث التوقيت الذي وقعت فيه، لكنها كانت تملك كل مقومات الفشل من حيث التنظيم الذي كانت تفتقد إليه.

وهذا وغيره من الدروس موضوع مقال الأربعاء المقبل.