في 25 يناير 2011 ولدت مصر جديدة..

نفضت مصر عن نفسها خوف تراكم لعقود. خرجت لتواجه الاستبداد والفساد. صرخت بأعلى صوتها لتعبر عن وجع جماعي، وتطمح إلى خلاص جماعي، وتعلن شوق جماعي للحرية والعدل والحياة الكريمة والكرامة الإنسانية والاستقلال الوطني، وكل المعاني والقيم النبيلة التي ناضل الشعب ونخبه طويلًا من أجلها على مدار عقود.

في 25 يناير 2011 ولدت مصر جديدة..

خرج المصريون، يدعمون احتجاجات سياسية، وحملات شبابية، وإضرابات عمالية، وتحركات نقابية، تراكمت ونضجت للحظة الفعل الشعبي الجماعي. التقى الظرف الذاتي بالظرف الموضوعي، فولدت الثورة.

في 25 يناير 2011 ولدت مصر جديدة..

كان الحلم بوطن للعيش والحرية والعدالة الاجتماعية -وهو حلم مشروع ونبيل وباق- حلمًا عبرت عنه أجيال متعددة وفئات مختلفة وطبقات اجتماعية متنوعة. حلم كان مكبوتًا تحت أوهام الاستقرار الذي تحول لجمود، وتحت تغول فساد صال وجال في كل أنحاء البلاد، وتحت نير استبداد كان يدعي الشكل الديمقراطي ويقيد كل فرصة جادة لتنافس انتخابي أو معارضة سياسية، ويمهد الأجواء لجريمة توريث الحكم.

في 25 يناير 2011 ولدت مصر جديدة..

جاءت مصر إلى الشوارع والميادين. جاءت بحساسيات جديدة وأجيال جديدة. جاءت لتعبر عن لحظة هم جماعي وحلم جماعي. جاءت لتقول إن الشعب حي لا يموت، وأن الشعب قادر ليس عاجزًا، وأنه مهما طال السكوت والسكون، ومهما بلغ اليأس مداه، ومهما بدا تحالف الاستبداد والفساد قويًا، فإنه هش ضعيف ينهار أمام أول ضربة جماعية من الشعب.

في 25 يناير 2011 ولدت مصر جديدة..

لتتفق أو تختلف مع 25 يناير، لتراها ثورة كاشفة لحجم الفساد والمشكلات الاجتماعية والسياسية أو متسببة في انهيار مؤسسات الدولة أو مسئولة عن جانب من سوء الأوضاع الاقتصادية، لتعتقد أنها كانت فعلًا عفويًا شعبيًا وطنيًا أو مؤامرة شاركت في الترتيب والتخطيط لها أطراف سياسية وخارجية، لتنظر لها باعتبارها ثورة ستواصل مسارها بسُبل وطرق مختلفة أو انتفاضة فشلت وانتهت وتحولت لذكرى في التاريخ. لكن لا يمكنك في كل الأحوال أن تنكر أنها كانت لحظة تاريخية مبهرة في تاريخ هذا البلد، وأنها كانت لحظة تحرر جماعي واسع من الخوف والقيود التي فرضتها السلطات المتعاقبة على هذا الشعب، ولحظة تحطيم لأصنام سياسية ومجتمعية بالية دامت طويلًا، ولحظة انكشاف واسع بكل معاني الانكشاف إيجابًا وسلبًا، وكان يفترض أن تكون لحظة انطلاق لمرحلة جديدة لمصر جديدة، لكن أسباب وأطراف عديدة أبت ذلك.

في 25 يناير 2011 ولدت مصر جديدة..

ليست القضية هنا الاحتفاء بذكرى ثورة، ولا الجدال حول نجاحاتها واخفاقاتها، ولا مراجعة مسارها ومسيرتها، وكل ذلك مهم وضرورى. لكن الأساس هنا، والذي لا تنكره أي نظرة موضوعية، أن يناير: كانت وستبقى، لحظة تاريخية لا نبالغ إذا قلنا إنها الأهم في تاريخ مصر المعاصر، وأن ما قبلها ليس كمثل ما بعدها، وأن أثرها في الوعي والوجدان العام، لأنصارها وخصومها معًا، سيظل باقيًا.

في 25 يناير 2011 ولدت مصر جديدة..

حجم تنوع وتعدد الأفكار والمبادرات والمشروعات والحملات، على كل الأصعدة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية الثقافية والفنية والأدبية، التي ظهرت وتبلورت وانتشرت بعد ثورة 25 يناير في مناخ مفتوح، تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن مصر ولادة، وأن من بين أبنائها من لديهم طاقات وأفكار قادرة على تغيير المسار، وتثبت لمن يريد أي يرى ويعي أن الحرية هي السبيل الحقيقي والوحيد لطرح الحلول وتقديم المبادرات والمشاركة العامة من المصريين في بناء وطنهم.

في 25 يناير 2011 ولدت مصر جديدة..

دفعت مصر أثمانًا باهظة، من أعمار وأرواح شعبها، ومن ثرواتها وأموالها واقتصادها، ومن حريتها وتجربتها السياسية، هذه الأثمان كانت بالأساس نتيجة الاستبداد والفساد وغياب الحريات العامة وتغييب السياسة وهيمنة الدولة على المجتمع ومصادرة التنوع تحت دعاوى وحدة الصف ورفض الاختلاف باعتباره جريمة، وإلى جانب الاستبداد والفساد تشمل التبعية والارتهان لإرادة الخارج، فضلًا عن ضعف المؤسسات وتراجع دورها وانسحاب الدولة من أدوارها الاجتماعية مع استمرار فرض هيمنتها الأمنية على كل الملفات. كانت هذه الأسباب هي ما أدت لتراجع مصر ودورها ووضعها ومكانتها، جاءت يناير لتواجه ذلك كله وتحاول كشفه وتغييره، فنجد من يحملها هي مسئولية ما آلت إليه الأوضاع!

في 25 يناير 2011 ولدت مصر جديدة..

أجمل ما في يناير عفويتها، وأنبل ما في يناير شهدائها، وأعظم ما في يناير أنها رغم أي إحباط أو يأس راهن كانت دليلًا حيًا ملموسًا على أن لكل شيء نهاية، وأنه مهما بدا التغيير مستحيلًا، فإنه قادم لا محالة، وأنه مهما حاول البعض فرض سطوة الماضي وبقاء الحاضر، فإن المستقبل هو من سيأخذ موقعه ومكانه وزمانه.

في 25 يناير 2011 ولدت مصر جديدة..

لم تكن يناير بكل نبلها وروعة فعلها خالية من الأخطاء بل والخطايا، يناير فعل بشرى، وكل فعل بشرى له ما له وعليه ما عليه، تحميلها بما لا تحتمله غير مقبول، لكن إنكار أخطائها أيضًا غير معقول، وواجب النقد واستخلاص الدروس والعبر واجب اللحظة وكل لحظة، ولهذا حديث طويل ممتد، لكن الثورة لم تكن هدفًا في ذاتها، ولا ينبغي أن تكون، أهداف الثورة هي المطلوب إثباته وتحقيقه، لكن قيمة الثورة دائمًا أنها تعبير عن أن سد المنافذ وإغلاق الأبواب لا يلغي الحلول وإنما يجعل هناك حلًا وحيدًا أخيرًا باقيًا يملكه الشعب وحده.

في 25 يناير 2011 ولدت مصر جديدة..

نعم، انكسرت يناير، وتعرضت لهزائم وانتكاسات، وبين استشهاد وإصابات وسجون كان مصير كثيرين من الفاعلين فيها. نعم سارت الأمور عكس الطموحات والآمال وربما صارت لما هو أسوأ. نعم لم تنجح يناير في تجسيد مشروعها واقعًا يعيشه المصريين، لكن هل ماتت يناير؟

لا يموت التاريخ، ولا تموت الثورات، تظل خالدة حتى ولو على سبيل الذكرى، ويظل مفعولها قائمًا بكل ما تحمله من لحظات وذكريات ودروس وعبر وأثمان وتضحيات، والذكرى دائمًا تنفع المؤمنين، والمؤمنين يناير كثيرين وإن خفت صوتهم، وإن تزايد إحباطهم، وإن تراجع دورهم، لكنهم أحياء باقون.. وللحلم بقية، وإن تعددت وتنوعت سبله وأساليبه.