الأزمة شبه معلنة في العلاقات المصرية السعودية.
هذه حقيقة يصعب إنكارها.
البلدان يحتاجان بعضهما الآخر.
وهذه حقيقة ثانية لا يجوز تجاهلها.
ما بين الإنكار بالمراوغة والتجاهل بالصمت من غير المستبعد أن تداهم المخاطر المحدقة البلدين معا في صلب سلامتهما الاجتماعية والاستراتيجية.
اقرأ أيضا.. نبوءات ثورة يناير
لا يمكن تلخيص الأزمة في الشروط السعودية المستجدة لمساعداتها المالية، أو الاستثمار السياسي بأوضاع الاقتصاد العليل لفرض ما يشبه الوصاية على القرار المصري.
هذا جانب من الصورة وليس الصورة كلها.
ماذا يطلب كل جانب من الآخر؟
السؤال ضروري حتى تستبين حقائق وخلفيات وتداعيات الأزمة الماثلة.
لا توجد هدايا مجانية.
إذا ما تصور أحد طرفي الأزمة أن بوسعه إملاء الشروط من مركز قوة غاشمة فإنه يرتكب خطأ فادحا.
عبرت الأزمة عن نفسها في غياب ولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان” عن القمة التشاورية في أبو ظبي دون تبرير، أو تفسير.
لم يكن خافيا على أحد أن الموضوع الرئيسي للقمة التشاورية هو النظر في الأزمة الاقتصادية الحادة بمصر والأردن، وسبل وحدود الدور الذي يمكن أن تلعبه دول مجلس التعاون الخليجي في الإسناد والمساعدة، طبيعته وحجمه.
الغياب بذاته رسالة بالغة السلبية في توقيت حرج.
هناك من فسر الغياب بأنه تعبير عن أزمة مكتومة مع الدولة المضيفة على الأوزان والأحجام والأدوار.
هذا احتمال وارد بالنظر إلى النظرة السعودية الجديدة لنفسها، التي لا تقبل أية منازعة على قيادة العالم العربي، أو الخليج على وجه الخصوص.
يستلفت النظر- هنا- غياب أمير الكويت، أو ولي عهده، عن القمة، حيث تبدت اعتراضات برلمانية على طلب صندوق النقد الدولي من دول الخليج دعم الاقتصاد المصري في صور استثمارات ومنح وشراء أصول بما قيمته (14) مليار دولار.
بعض ما قيل في البرلمان الكويتي تجاوز كل حد بالتحريض العصبي على العمالة المصرية والدعوة إلى سحب الودائع من البنك المركزي المصري.
ربما أرادت السلطة الكويتية بالغياب تجنيب نفسها صدامات صاخبة لا يحتملها البلد في ظروفه السياسية الحالية.
باليقين هناك أزمة صريحة ومتفلتة تحتاج إلى مقاربات أخرى غير تذكير الكويتيين بالأدوار الجوهرية المصرية في إعمارها وتحريرها والوقوف إلى جانبها تحت كل الظروف.
التاريخ وحده لا يجدي.. تلك أيام خلت.
نحتاج مقاربات تنظر في الأزمة الحالية مع الشعب المصري داخل قطاعات شعبية كويتية، أسبابها وسبل حلحلتها.
يستلفت الانتباه- أيضا- حضور أمير قطر “تميم بن حمد آل ثاني” دون أن تحظى القمة بأية تغطية جدية، أو شبه جدية على قناة “الجزيرة”.
المعنى أن قطر معنية بملف الأزمة الاقتصادية في مصر والأردن دون أن تضعه على رأس أولوياتها.
استهدف الحضور القطري- أولا وقبل أي شيء- فتح صفحة جديدة في العلاقات مع الإمارات، والرد بالمثل على بادرة حضور نائب رئيس الدولة حاكم دبي الشيخ “محمد بن راشد آل مكتوم” افتتاح مونديال قطر لكرة القدم.
السعودية قضية أخرى تستحق البحث والتحري في أسباب ودواعي وتبعات غيابها عن القمة التشاورية.
بتوقيت متزامن صرح وزير المالية السعودي “محمد الجدعان” في منتدى دافوس الاقتصادي الدولي الذي يعقد سنويا بسويسرا: “نعمل على تغيير طريقة تقديم المنح والمساعدات والودائع دون شروط”.. “ونعمل الآن مع مؤسسات دولية متعددة الأطراف من أجل أن نرى إصلاحات”.
كانت تلك التصريحات رسالة مبطنة إلى مصر والأردن على وجه التحديد.
كما كانت إشارة صريحة إلى العمل مع صندوق النقد الدولي لوضع مصر تحت الوصاية ماليا وسياسيا ودفعها إلى خفض عملتها الوطنية بوتيرة أسرع وبيع أصولها دون ممانعة كبيرة في قيمتها.
حسب المعلومات المتوافرة حدثت توترات مصرية سعودية على خلفية بخس قيمة بعض الأصول التي يجري بيعها.
هذا استثمار صريح في الأزمة الاقتصادية الخانقة، التي لا يصح أن نخدع أنفسنا بأنها قد حلت، أو في سبيلها إلى الحل.
نحن في أول النفق لا في آخره.
بنص عبارة “الجدعان” فإن: “التمويل السعودي سيكون في شكل استثمارات يتم ضخها وفق رؤية صندوق النقد الدولي”.
هكذا بكل وضوح.
وفقا لظاهر كلامه، فهو رسالة مباشرة إلى مصر والأردن، اللذان يتعرضان لانفلات في الأسعار وتدهور مستويات المعيشة ويعانيان بدرجتين مختلفتين من وطأة ديون خارجية باهظة.
المثير- هنا- أن الأردن المأزوم اقتصاديا بقسوة يفكر جديا في بناء عاصمة جديدة!، كأنه لا يريد أن يتعلم من تجارب الآخرين بالإفراط في المشروعات الضخمة التي ترهق الموازنة العامة وتستنزف المساعدات المالية دون عوائد اقتصادية في أي مدى منظور.
باليقين هناك تحفظات خليجية عديدة على السياسة الاقتصادية المصرية، ويرون أنها في حاجة إلى إعادة تشكيل لتجنب الانزلاق إلى مزيد من المعاناة والضغوط على حياة المواطنين.
من حق أي ممول أن يسأل عن الطريقة التي انفقت بها أمواله.
وهذا حق أصيل للمواطن المصري العادي أن يسأل أين ذهبت المساعدات الخليجية منذ يناير (2011)؟
بالأرقام فإنها تتجاوز (92) مليار دولار.
المشكلة الحقيقية ليست هنا.
نحن مسؤولون تماما عما ألم باقتصادنا من تصدعات وتراجعات ومصر في حاجة أن تراجع السياسات والأولويات والأخطاء التي ارتكبت.
المشكلة في فكرة الوصاية نفسها بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي.
أراد ولي العهد السعودي بالغياب عن القمة التشاورية ألا يلزم نفسه بأية اتفاقات أو التزامات خارج ما تعهدت به مصر لصندوق النقد الدولي.
أراد أن يكون واضحا أمام الأطراف العربية المختلفة أن هناك تعريفا جديدا للمساعدات السعودية، فلكل مساعدة أثمانها وشروطها حتى لو جارت على الحلفاء والشركاء المفترضين!
وأراد إعادة بناء الأدوار والأوزان والأحجام في العالم العربي، دون أية أوهام عن ندية مفترضة، فمن يمد يده بالسؤال لا يجوز له الحديث عن أية ندية!
استبعد لبنان تماما من أية حسابات سعودية بالنظر إلى حجم الدور الذي يلعبه حزب الله في معادلاته، فيما جرى إخضاع مصر والأردن لما يشبه الوصاية.
هذا كلام لا يستقيم ولا يستمر ويثير مناخ كراهية يصعب تدارك عواقبه.
بقوة الحقائق فإن مصر تحتاج إلى إسناد مالي عاجل من دول الوفرة البترولية يمنع انزلاقها إلى منحدرات خطرة تفضي إلى فوضى عارمة في الإقليم بذات قدر حاجتها إلى تصحيح الأولويات والسياسات بقرارها الحر لا بإملاء الآخرين.
بالمقابل فإن السعودية تحتاج إلى إسناد استراتيجي مصري لتجنب أية أخطار مروعة محتملة عند منابع الثروة إذا ما أقدمت إسرائيل على ضرب المفاعلات النووية الإيرانية وردت طهران بفتح النيران على جبهة متسعة عبر حلفائها الإقليميين في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
ماذا يمكن أن يكون الموقف الشعبي في مصر إذا طلب منه أن ينهض للدفاع عن أمن الخليج؟!
هذا سيناريو لا يمكن استبعاده بالنظر إلى طبيعة الحكومة الإسرائيلية الجديدة، التي توصف بأنها الأكثر عنصرية وتطرفا منذ تأسيس الدولة العبرية.
وإذا انفجرت الأمور داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة فكل شيء محتمل ووارد، ولا أحد سوف يكون آمنا إذا ما جرى النيل من سلامة المسجد الأقصى.
لن يبق حجر على حجر في العالم العربي كله.
لم تنشأ الأزمة الماثلة في العلاقات المصرية السعودية فجأة، ولا كانت أول الأزمات.
من حين لآخر تتبدى أزمات مكتومة يجري تطويقها بكلام دبلوماسي عام عن متانة التحالف الاستراتيجي بين البلدين دون نقاش جدي في نقاط الاختلاف والتباين إزاء ملفات إقليمية عديدة كإيران وسوريا ولبنان والعراق واليمن.
جرى تكبيل الدور المصري في محيطه خشية أن تفضي أي مبادرة إلى حساسيات مع السعودية.
كان ذلك ثمنا سياسيا باهظا للمساعدات السعودية نال من دور ومكانة البلد في محيطه العربي والإقليمي.
ماذا قد يحدث إذا فكت مصر القيود المفروضة على حركتها بتبادل العلاقات الدبلوماسية مع إيران، أو فتح صفحة جديدة مع سوريا، أو المبادرة بالحركة النشطة في الملف اللبناني، أو في زوايا النظر إلى الملف العراقي وملفات عربية أخرى تتداخل فيها المصالح والاعتبارات؟
السعودية ليست قوة عظمى ومصر ليست دولة صغيرة.
هذا ما يجب أن ندركه ونعمل على أساسه.