يواصل نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي دميتري ميدفيديف تصريحاته المخيفة بشأن “الحرب العالمية الثالثة” و”الحرب النووية بين روسيا والغرب”. وقبيل أيام قليلة من بدء العام الثاني للغزو الروسي لأوكرانيا، دعا ميدفيديف قادة الولايات المتحدة وألمانيا لما أسماه بـ “وقف دقات عقارب الساعات النووية”. وقال “دعوا صانعي الساعات بايدن وشولتس يوقفان دقات الساعة الذرية لفترة من الوقت.. وللقيام بذلك، عليهما أن يفهما أن سهمهما الأوكراني قد اعتلاه الصدأ منذ فترة طويلة”.
اقرأ أيضا.. نقطة التحول في الحرب الأوكرانية بعد عام من الغزو
وبهذا التصريح، الذي ظهر في ساعات مبكرة من صباح 25 يناير 2023، يمكن الحديث عن دخول الحرب الروسية- الأوكرانية إلى طور جديد تماما. والمثير للانتباه هنا أن وسائل الإعلام الروسية أوضحت بأن “نشرة علماء الذرة” ذكرت أن عقارب ساعة يوم القيامة، التي تشير إلى خطر حدوث كارثة عالمية، قد وصلت إلى رقم قياسي قريب من منتصف الليل النووي، قبل 90 ثانية من ذلك”. ما يعني أن الوضع بات مخيفا، أو في أحسن الأحوال، يعني أن روسيا تدفع بكل المخاوف والتهديدات الممكنة لإجبار الغرب على الركوع وتنفيذ كل شروطها، وإلا فالعصا النووية باتت جاهزة.
في ضوء عدم وجود أي نقطة التقاء بين روسيا والغرب، سواء في الأزمة الأوكرانية أو في إعادة بناء النظام العالمي، من الواضح أن عام 2023 لن يشهد نهاية الحرب الروسية- الأوكرانية. ولن تنجح أي مفاوضات، مهما كان نفوذ الوسطاء وتأثيرهم. بل من الممكن أن يصبح عام 2023 بداية احتكاكات عسكرية مباشرة بين روسيا ودول حلف الناتو القريبة منها. الأمر الآخر هو أنه من المستحيل أن تسمح روسيا لنفسها بالهزيمة، أو حتى بالانسحاب من أوكرانيا من دون تنفيذ كييف كل الشروط الروسية: الموافقة على أن شبه جزيرة القرم جزءا من روسيا، إعلان الحياد وعدم الانضمام إلى أي أحلاف أو تكتلات، نزاع السلاح، تشكيل حكومة بموافقة روسيا، الاعتراف بروسية المناطق الأربع التي تم ضمها إلى روسيا خلال العام الأول من الغزو.
إن تنازل روسيا عن تنفيذ أي من شروطها، سيمثل شكلا من أشكال الهزيمة، أو عدم الانتصار الكامل في أوكرانيا. لكن كييف ترفض الشروط الروسية وتطرح مبادرات عكسية تماما، مثل خروج القوات الروسية بالكامل من الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك من شبه جزيرة القرم، وتعويض أوكرانيا عن جميع الخسائر، ومحاكمة المشاركين في قرار الحرب، والالتزام بعدم تكرار الغزو. وبالتالي، لم يعد أمام موسكو سوى مواصلة الحرب إلى نقطة تحول تسمح بمقاربة تجبر الطرفين على إيجاد خطوط تماس، تسمح بدورها بالمناورة حول تلك الشروط التي يطرحها الطرفان.
إن “نقطة التحول” هذه بعيدة للغاية في ظل التصريحات الروسية المخيفة، وتجييش الكرملين لكل موارد روسيا، وعسكرة المجتمع الروسي، والتحركات الروسية في آسيا الوسطى وأفريقيا وسوريا وإيران، وتوجيه الموارد والإمكانيات في اتجاه حرب طويلة. وعلى الجانب الآخر، تصبح هذه النقطة أبعد أيضا في ظل تجهيز الغرب إمكانياته المادية واللوجستية، والاستغناء التدريجي عن موارد الطاقة والخامات الروسية، وحصار روسيا رقميا وتقنيا، وإمداد أوكرانيا بالسلاح من جهة، وتوظيف جزءا كبيرا من موارده المالية والتقنية لحرب طويلة الأمد.
ويبدو أن إطالة زمن الحرب في تلك المنطقة الرمادية، وعسكرة المجتمع لدى الطرفين، ونشوب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية لدى الطرفين، وتكبد الخسائر، ستكون مختلفة، لأن قدرات الغرب الجماعي أكبر بكثير من قدرات روسيا. وحتى اعتماد سياسة النفس الطويل يمكن أن يدعم توجه إطالة الحرب في المنطقة الرمادية، ولكن روسيا ستتخلف علميا وتقنيا، وستتراجع قدراتها الرقمية والمالية. بينما لن يتأثر الغرب كثيرا بنتيجة أسباب كثيرة، من بينها نفس الأسباب التي كانت موجودة أثناء الحرب الباردة والتي ساعدت الغرب على التقدم، بينما انهار الاتحاد السوفيتي.
وهناك اعتقاد تحاول روسيا تسييده، ألا وهو أنها هي التي تعتمد تكتيك “إطالة الحرب”، وتترك تأويل ذلك للمحللين السياسيين الذين لم يستيقظوا بعد لرؤية نتائج الحرب الباردة، ويكتشفوا ولو بمحض الصدفة أن الاتحاد السوفيتي أصبح غير موجود. وكانت روسيا إبان تلك الحرب تعطي نفس الانطباع، معولة على قيام الاحتجاجات واندلاع الثورات ضد الأنظمة والحكومات الرأسمالية، وعلى انهيار وسقوط المركز الرأسمالي. وفي نهاية المطاف سقط الاتحاد السوفيتي، وصارت روسيا جزءا من العالم الرأسمالي وإحدى حلقاته. ولا يخفى على أحد أن “تكتيكات” إطالة الحروب تستلزم أدوات وإمكانيات واوراق لا تقل في وزنها وأهميتها عن الأدوات والأوراق والقدرات اللازمة لمواصلة الحروب.
في كل الأحوال، ستأتي لحظة، ستشعر معها موسكو بأنها مضطرة لكسر جمود تلك المرحلة الرمادية، والتي يمكن أن نسميها “عملية الاستنزاف”، بسبب مشاكل داخلية سوف تظهر بقوة. أي أننا هنا أمام لحظة اضطرارية، أو لحظة تحتم على روسيا التقدم إلى الأمام. والتقدم إلى الأمام هنا، يعني الاحتكاك المباشر مع دول حلف الناتو القريبة منها، كأمل أخير لصنع مقاربة تشبه مقاربة ازمة الكاريبي عام 1962. ولكن للأسف لن توجد أي فرصة للعودة إلى الوراء. إذ أن هذه المقاربة كانت موجودة بالفعل في شهري مارس وأبريل عام 2022، وانتهت إلى الأبد.
هذا يعني أنه من الأفضل لروسيا أن تتقدم وهي بعد في أوج قوتها، وأن تضرب على الحديد وهو ساخن. فإطالة المرحلة الرمادية ستضعف روسيا داخليا وخارجيا، ولن تتمكن من مواصلة هذا الصراع الذي يكاد يشبه نفس تكنيك صراع الحرب الباردة، عندما انهار الاتحاد السوفيتي بعد حوالي 70 عاما من الاستنزاف ومن دون إطلاق رصاصة واحدة. إن موسكو تعي هذا الدرس جيدا، ولكنها لا تستطيع التراجع، لأن التراجع يعني الهزيمة الحقيقية، وبداية مشاكل وأزمات أخرى في الداخل الروسي وحول روسيا ومع الصين والدول المجاورة لها.
إذًا، ليس أمام روسيا سوى التقدم الآن وهي لا تزال تمتلك بعد عددا من الأوراق المهمة. وهذا ما يجري الإعداد والتجهيز له عسكريا وأمنيا ولوجستيا، وصياغة الروايات والسرديات حوله كمقدمة أخلاقية وتاريخية لشن حرب واسعة النطاق ليس ضد أوكرانيا، وإنما ضد الغرب بمكوناته الثلاثة (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو).
الغرب أيضا يستعد بقوة ودهاء ووحشية لا تقل عن وحشية روسيا، ويطرح سردياته ورواياته من أجل التبرير الأخلاقي والتاريخي لما سيحدث من كوارث. لكن المهم والمفصلي هنا، هو أن الغرب يجيد المناورة ولديه إمكانيات أكبر ومساحة للحركة أوسع بكثير من روسيا. إضافة إلى المناورات الإعلامية حول توريد السلاح لأوكرانيا، حيث يلهث الإعلام وتلهث التصريحات حول تناقضات وخلافات غربية، بينما الواقع يقول شيئا آخر تماما، ويجري تزويد أوكرانيا بالأسلحة بكل الطرق المتاحة وغير المتاحة، وفي الوقت نفسه يستعد الغرب على كل المستويات وفي جميع المجالات لعمليات استنزاف واسعة النطاق. وكل ما يقال عن الخلافات بشأن تزويد أوكرانيا بالأسلحة، كلام فارغ ومناورات.
عام 2023 لن يشهد أي توقف للحرب، بل من الممكن أن يصبح بداية الحرب الحقيقية التي تمثل فيها أوكرانيا تلك القشة التي قصمت ظهر البعير. وروسيا في الحقيقية مضطرة لخوض هذه الحرب، لأن أي تراجع، أو على الأقل عدم تحقيق الشروط المعلنة، يعنيان هزيمة موسكو التي يمكن أن تتسبب في الكثير من التداعيات الداخلية والخارجية. وفي الحقيقة، القيادة الروسية تسير في هذا الاتجاه، وتسترجع كل أدبيات وسرديات الاتحاد السوفيتي، بل وأبعد من ذلك حيث تذهب إلى حكايات الحرب مع نابليون والحرب العالمية الثانية، وتصنع توازيات للحروب بين العرب والغرب، واستعادة قصص سيف الدين قطز ومحمود بيبرس وقنصوه الغوري.. تستدعي كل التاريخ جملة واحدة، بما في ذلك مجدها الأرثوذكسي- السلافي وأمجاد الإمبراطورية البيزنطية باعتبار روسيا وريثتها “الشرعية” وتستخدم حتى الأوراق الدينية والكنائس.. وكأنها بذلك تستقطب أطرافا أخرى إلى جانبها، ولكن العالم قد تغير كثيرا! وبالتالي، فعام 2023 لا يقدم أي نقطة ضوء أو أمل بشأن انتهاء الحرب الأوكرانية. ولكن كل التحركات من الجانبين، روسيا وبيلاروس من جهة، والغرب وحلفائه من جهة، تشير بقوة إلى الكارثة المقبلة. ربما تعول روسيا على مثل هذه الفكرة، وعلى مخاوف البشرية من الفناء للضغط على الغرب من أجل التفاوض. ولكن إصرار موسكو على شروطها ومطالبها، يبدد أي أمل. وكذلك إصرار الغرب على معاقبة روسيا وتحجيمها يغلق الأبواب أمام أي شكل من أشكال التفاؤل.
هناك تصورات بأن تركيا وإيران هما أكبر دولتين مستفيدتين من هذه الحرب. ولكن هذا وهم كبير وتقدير غير دقيق. فبنشوب الحرب الحقيقية، ستكون تركيا وإيران من أكبر وأول المتضررين. وهنا يجب النظر إلى الواقع وليس إلى الصور الذهنية والبروباجندا.. يجب النظر إلى وضع إيران على الأرض وإلى أحوالها وأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية. أما تركيا الأردوغانية فهي في مأزق حقيقي يبدو أن الأمور معه محلولة بفضل مناورات أردوغان الذي لا يكاد يدلي بتصريح ناري، إلا ويتراجع عنه بتصريح ناري آخر في الاتجاه المعاكس. وسوف تنضم فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، شاء أردوغان أم أبى. وسيتم تقليم أظافر تركيا بقوة. ويبقى فقط الانتظار من أجل المقارنة بين أردوغان قبل الانتخابات في 14 مايو المقبل، وبعد الانتخابات أيضا.. أي بعد فوزه وفوز حزبه.
هناك أيضا تصورات بأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يقوم بزعزعة حلف الناتو ويسبب الكثير من المشاكل الجوهرية للغرب. ولكن في حال النظر بعمق وواقعية لما يفعله أردوغان، يمكن رصد أنه لا يقوم بزعزعة أي شيء. فالأمريكيون والأوروبيون يفهمون مناورته وعلاقتها بالأوضاع الداخلية. وهم يتركونه يدبر أموره على هذا النحو طالما أنه لم يتجاوز بعد الخطوط الحمراء. والخطوط الحمرا عند الأوروبيين والأمريكيين مرنة جدا، ولديهم من التفهم والصبر مساحات واسعة. ففي نهاية المطاف هو يوافق على كل ما هو مطلوب. وإذا كان أردوغان يزعزع شيئا، فهو يزعزع نفوذ روسيا أصلا.، لأنه يشاركها وينافسها في سوريا، ويشاركها وينافسها في آسيا الوسطى، ويحاول أن يسبقها إلى البحر الأحمر وشمال أفريقيا. إنه يؤدي أكبر خدمة للغرب عموما. وبوتين مضطر للتعامل معه، على الأقل من أجل تحييده.
والأمر ينسحب على الصين التي باتت تواجه مشاكل كثيرة. وهنا أيضا يجب النظر بواقعية وبراجماتية إلى المصالح الكبرى، وليس بحسابات نظرية وصور ذهنية قديمة مثل العالم عن تحالف روسي- صيني أو تحالف روسي أفريقي او روسي إسلامي. هذه التمارين النظرية مجرد رفاهية لا يمكن أن يسمح بها أي عاقل لنفسه أو لغيره. فالصين لديها خطط ومشاريع أخرى، ولديها مسار مختلف تماما عن مسار روسيا. والتناقضات بين موسكو وبكين أكبر وأكثير من أي عداء أو خلافات يمكن أن تجمعهما ضد الغرب. وأحجام وموازين التبادل التجاري توضح ذلك بقوة. إضافة إلى الأوزان العسكرية والتقنية وميزانيات الدفاع.
إن القيادة الروسية لا يمكنها التراجع أو الانسحاب. وليس أمامها سوى التقدم، سواء في أوكرانيا، أو نحو أوروبا. وهنا ستبدأ الحرب التي بدأت مقدمتها على الأرض في 24 فبراير 2022. من الصعب متابعة وسائل الإعلام وحالة السيولة والتضليل والبروباجندا، لأن الواقع مرعب. وهناك للأسف كم هائل من القمامة الإعلامية التي يعتمد عليها الكثيرون من المحللين والمتابعين. بل ومن شدة الرغبة في الهروب إلى الأمام، يخلط المتابعون والمحللون بين رغباتهم وانحيازاتهم وبين الواقع المؤلم، ويصورون أوهامهم وما في رؤوسهم على أنه الواقع وما يجب أن يكون.
كل الطرق الآن، وبناء على مشهد التحركات الروسية والتهديد بالنووي، وبالذات تصريحات ميدفيديف الخطيرة، وكذلك التحركات الغربية وعمليات التسلح والعسكرة، تؤدي إلى احتكاكات روسية أوروبية في البداية. وموسكو تبحث عن كل الأسباب والمسوغات لتقنع نفسها وتقنع العالم بأن الغرب يتحرش بها ويعتدي عليها ويجهز لإبادتها والقضاء عليها. علما بأن ذلك كان من الأسهل والأوفر أن يحدث عندما كانت روسيا في أضعف حالاتها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ولكن الغرب تحديدا هو الذي حافظ على روسيا من الانهيار. وهذا لم يكن من أجل عيون روسيا، ولكن من أجل مصادر الطاقة والخامات الرخيصة، ومن أجل وجود سوق قادرة على استيعاب منتجاته، ومن أجل استخدام العقول التي بقيت هائمة بعد انهيار الإمبراطورية.
حتى فكرة استسلام أحد الطرفين باتت بعيدة جدا، على الرغم من أن الغرب إلى هذه اللحظة يؤكد بأنه لن يشارك في أي عمليات عسكرية مباشرة، ولا ينوي أصلا التورط في مواجهة عسكرية مباشرة. وبالتالي، فالمسألة هي مسألة استسلام أوكرانيا. وهذا لن يحدث “على الإطلاق” حتى إذا احتلت روسيا كل أوكرانيا، وحتى إذا دمرتها بالكامل. وذلك لأسباب تتعلق بالتكتيك العسكري وتحركات القوات في مناطق الكتل السكانية أو في الأرض المحروقة.
الآن تحديدا، تسعى روسيا بكل الطرق الممكنة وغير الممكنة لجر الغرب إلى أي احتكاك مباشر، أو حتى إلى شبهة الاحتكاك المباشر، لتتقدم خطوة إما نحو أي مقاربة، أو نحو الكارثة… والثانية هي الأرجح حتى الآن، لأن الاحتكاكات يمكن أن تظهر فجأة في القطب الشمالي حيث ترسانات سلاح روسيا وحلف الناتو، ويمكن أن تظهر أيضا في الفضاء حيث الأقمار الصناعية ونفوذ كلا الطرفين. وهناك مقدمات حقيقية وواقعية لذلك بالفعل. ومن الواضح أن موسكو تدفع بكل قوتها في اتجاه كل المخاوف الممكنة معولة على ضغط عالمي على كل المسارات، بما فيها الأخلاقي والإعلامي من أجل أن تستسلم أوكرانيا ويخضع الغرب لشروط الكرملين!! ولكن يبدو أن الحسابات غير دقيقة حتى الآن، لأن الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا قررت تزويد أوكرانيا بكل الأسلحة الممكنة..