تحت هذا العنوان نشر المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية (IFPRI) في 29 ديسمبر الماضي نتائج مسح حول تأثير ارتفاع أسعار السلع الغذائية على الأسر الفقيرة في مصر. قال المعهد في مستهل تقريره، إنه بسبب اعتماد مصر على الواردات الغذائية، فهي معرضة لصدمات أسعار الغذاء، بسبب ارتفاع الأسعار العالمية والصدمات التجارية الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022.

اقرأ أيضا.. تغير المناخ وأثره على موارد مصر المائية

تمثل الواردات الغذائية أكثر من 40% من استهلاك السعرات الحرارية في مصر، والتي تعد أكبر مستورد للقمح في العالم. قبل بدء الحرب، جاء حوالي 85% من واردات الغذاء من روسيا وأوكرانيا. ومنذ ذلك الحين، أدى اضطراب سلاسل الإمدادات وارتفاع أسعار السوق العالمية، وعوامل أخرى (مثل أسعار الطاقة) إلى ارتفاع حاد في معدل تضخم أسعار الغذاء المحلي، والذي وصل إلى 31% في نوفمبر الماضي، وكان بدوره محركا رئيسيا لزيادة معدل التضخم السنوي الإجمالي، والذي زاد من 6% إلى 19% بين يناير ونوفمبر الماضي، بحسب بيانات البنك المركزي المصري، وهو أعلى معدل في خمس سنوات.

في هذا المسح، قام باحثو المعهد بتقييم كيفية استجابة الأسر الفقيرة في مصر لهذه الضغوط الاقتصادية، وكيف أثرت جهود الحكومة في الحماية الاجتماعية على الاستهلاك منذ بدء الحرب. وبشكل عام، تشير نتائج المسح إلى أن العديد من الأسر الفقيرة قللت من استهلاك بعض الأطعمة المغذية غير المدعومة، مثل اللحم والدجاج والأسماك ومنتجات الألبان، بينما بقى استهلاك هذه الأسر للأطعمة المدعومة، مثل الخبز، دون تغيير.

يقول التقرير إن مصر تقوم باستثمارات كبيرة في برامج الحماية الاجتماعية، ويشير إلى الدور الهام للبرنامج الوطني لدعم الغذاء. ومع أن الأسر الفقيرة هي الأكثر عرضة لصدمات ارتفاع أسعار المواد الغذائية، لأنها تنفق نسبة أكبر من دخلها على الغذاء، لكن التقرير يشير إلى أن الحكومة واصلت دعمها خلال العام الماضي للحفاظ على أسعار المواد الغذائية الرئيسية دون تغيير، ويرى أن البنية التحتية للحماية الاجتماعية وبرنامج الدعم الحكومي للغذاء، قد توفر الحماية للأسر الفقيرة من صدمات ارتفاع الأسعار.

لذلك، توقع الباحثون أن تكون استجابة الأسر الفقيرة لارتفاع الأسعار مختلفة، بين الأغذية المدعومة والأغذية غير المدعومة. وخلال شهري أكتوبر ونوفمبر 2022 قام باحثو المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية بمسح أكثر من 6000 أسرة فقيرة وشبه فقيرة من جميع أنحاء مصر عبر الهاتف. حيث طُلب من الأسر الإبلاغ عن كيف تغيرت عاداتهم في استهلاك الغذاء بعد شهر مارس الماضي، وأسباب هذه التغييرات، والتغيرات الملحوظة في الأسعار، واستراتيجيات المواجهة التي استخدموها للاستجابة لصدمات الأسعار.

تضمن المسح 21 مادة غذائية مدعومة وغير مدعومة. وتؤكد نتائج المسح أن الغلاء أو معدلات التضخم السنوية في بعض المجموعات الغذائية أعلى من الرقم الإجمالي البالغ 31%، وإن معدل التضخم في الخبز والحبوب تضاعف أربع مرات تقريبًا منذ بداية الصراع. ومعظم الأسر الذين تم استجوابهم أبلغوا عن انخفاض في استهلاك الأغذية غير المدعومة، مع بقاء استهلاك الأطعمة المدعومة ثابتًا- أو- زيادته زيادة طفيفة.

أفاد 85% من الأسر عن انخفاض في استهلاك اللحوم، و75% من الأسر أبلغوا عن انخفاض في استهلاك الدجاج والبيض، و61% من الأسر أبلغوا عن انخفاض في استهلاك الأسماك، و60% أبلغوا عن انخفاض في استهلاك الألبان ومنتجاتها. وهو أمر متوقع بسبب الزيادات الكبيرة في أسعار هذه العناصر. لكن هذه المجموعات الغذائية هي المصادر الرئيسية للبروتينات والمغذيات الأخرى، ما يشير إلى تراجع محتمل في جودة النظام الغذائي وزيادة معدلات سوء التغذية.

وعلى العكس من ذلك، أبلغت بعض الأسر عن زيادة في استهلاكها لمجموعات غذائية أقل تغذية لتقليل الإنفاق على الغذاء. نوعان فقط من الأطعمة غير المدعومة أبلغت الأسر عن زيادة في استهلاكها هي البطاطس والمكرونة. زاد الاستهلاك من البطاطس لدى 21%، وزاد استهلاك أنواع المكرونة لدى 14% من الأسر الفقيرة. هذه المواد الغذائية النشوية تحتوي على عناصر غذائية أقل، لكنها تسبب الامتلاء وتسد الإحساس بالجوع لفترة.

وتوضح النتائج أيضا أن الاستهلاك المبلغ عنه للأغذية المدعومة الرئيسية، الخبز والسكر والزيت، لم يتغير بالنسبة لمعظم الأسر. ومع ذلك، أفاد 24% من الأسر بأن استهلاكهم من المخبوزات غير المدعومة انخفض، الأمر الذي يشير إلى تحول هذه الأسر من الأغذية غير المدعومة إلى الأغذية المدعومة، لمواجهة ارتفاع أسعار الغذاء خلال العام الماضي.

كما تم سؤال الأسر عن أسباب تقليل استهلاك المواد الغذائية، وأفاد أكثر من الثلثين أن ارتفاع الأسعار هو السبب الرئيسي في خفض الاستهلاك، وأشار 85% من الذين قللوا استهلاكهم من اللحوم أن ارتفاع أسعارها هو السبب في خفض الاستهلاك، وذكر أكثر من 70% من الأسر التي أبلغت عن انخفاض في استهلاك الدجاج والبيض، أن الزيادات في الأسعار هي السبب الرئيسي في خفض الاستهلاك.

أخيرًا، طُلب من الأسر الإبلاغ عن كيفية استجابتهم لصدمات أسعار الغذاء. أكثر طرق المواجهة استخدامًا كانت التوقف عن سداد الديون (84%)، بعدها كان التحول إلى أطعمة وأنواع أقل جودة (70%)، والطريقة الثالثة كانت تقليل استهلاك الغذاء (47%). كما أفادت نسبة كبيرة من الأسر عن خفض في النفقات على الصحة (43%)، وعلى التعليم (25%).

مع العلم بأنه من المرجح أن يكون لبعض استراتيجيات المواجهة هذه آثار سلبية دائمة على سبل العيش، فعلى سبيل المثال، يؤدي تقليل استهلاك الغذاء إلى زيادة معدلات نقص التغذية، كما أن التحول إلى أطعمة أقل جودة يزيد من سوء التغذية، وبيع الأصول الإنتاجية وتقليل الإنفاق على التعليم والصحة يؤثر سلبًا على رأس المال البشري.

ويخلص التقرير إلى أنه على الرغم من الزيادة الكبيرة في أسعار العديد من المواد الغذائية الأساسية، بما في ذلك الخبز والحبوب، تشير هذه النتائج إلى أن برنامج الدعم الحكومي للغذاء قد يحمي جزئيًا استهلاك الأسر لهذه المواد الغذائية. لكنه يؤكد على أن التحول عن الأطعمة الغنية بالبروتين والتوجه نحو الأطعمة الأقل تغذية، أمر مؤسف وإن كان متوقعًا، قد يساهم في زيادة العبء المزدوج لسوء التغذية، وقد يؤدي إلى تفاقم معدلات زيادة الوزن والسمنة المرتفعة بالفعل في مصر، والتي ترتبط بدعم المواد الغذائية والاستهلاك المرتبط بها من الأطعمة كثيفة الطاقة.

يعترف التقرير بأن الأسر المصرية الفقيرة واجهت صعوبات كبيرة في عام 2022 وأن هذه الصعوبات ستعيق الكثيرين عن الخروج من دائرة الفقر، لكن ما لم يقله التقرير هو إن قرارات سياسية، مثل تخفيض قيمة العملة المحلية في مقابل الدولار، بالتزامن مع الحرب في أوكرانيا وارتفاع أسعار الطاقة، قلل إلى حد كبير من القدرة الشرائية لملايين الأسر حتى من الفئات الوسطى.

“محدش بيبات من غير عشا”، هكذا يقول المصريون. ولا أعلم مدى صلاحية هذا المثل الدارج، وما إذا كان صحيحًا دائمًا وفي كل الأحوال، أم أنه خاص بظروف معينة. قد تكون المجاعة شيئًا من الماضي، لكن نقص الغذاء وسوء التغذية أمر واقع ومؤلم.

مع دخول الحرب الروسية في أوكرانيا عامها الثاني في فبراير القادم، من المتوقع أن تظل أسعار الطاقة عند مستويات مرتفعة، ومع سيطرة الشركات الخاصة الكبرى على سوق الغذاء، واستمرار نفس السياسات الاقتصادية، من المتوقع أن تظل أسعار السلع الغذائية الأساسية مرتفعة، وربما ترتفع أكثر، الأمر الذي ينذر باضطرابات وقلاقل اجتماعية لا يتمناها أحد.