على مدار الأسبوعين الماضيين أصبح من الملحوظ التراجع الطفيف في سعر صرف الدولار أمام الجنيه المصري، حيث يستقر السعر الرسمي عند أقل من 30 جنيهًا للدولار الواحد، وهو سعر شبه مستقر نتيجة خطوات وإجراءات عديدة اتخذت للسيطرة على السوق الموازية، والتي تراجعت فيها أسعار الدولار بشكل ملحوظ، فضلًا عن عودة تدفقات الأموال الساخنة مرة أخرى من صناديق الاستثمار العربية والأجنبية.

اقرأ أيضا.. مبادرة تمويل الصناعة مقترحات وتحديات

في ذات السياق، يتم تداول استطلاع رأي لوكالة رويترز الإخبارية، يتنبأ فيه عدد من الخبراء الاقتصاديين بتراجع سعر الدولار إلى 26 جنيها خلال شهر يونيو المقبل، وهو ما يعني مزيد من اتجاه الهبوط في سعر الصرف.

وبغض النظر عن قابلية هذا التنبؤ من عدمه، ودقة النماذج الرياضية التي دفعت باتجاهه، فإن السؤال الذي يطرحه بعض المواطنين بشكل خافت وقد يرتفع ذلك الصوت مقبلًا، لماذا لا تنخفض الأسعار حينما انخفض سعر الدولار وتسارعت وتيرة الإفراجات عن السلع المحتجزة في الجمارك؟

أثر التعويم الأخير للجنيه بشكل كبير على المواطن الفقير ومحدود الدخل
أثر التعويم الأخير للجنيه بشكل كبير على المواطن الفقير ومحدود الدخل

رغم التراجع المحدود لأسعار الأعلاف على سبيل المثال لازالت أسعار الدواجن ومنتجاتها مرتفعة، ولاتزال معدلات التضخم مرتفعة بحسب أحدث تقارير جهاز التعبئة العامة والإحصاء وبيانات البنك المركزي والتي تحدد نسبة التضخم عند ٢١٪؜،  وربما تتجه للانخفاض في الأشهر القادمة، لكن ذلك لايعني انخفاض متوقع في أسعار السلع، فما هي الأسباب؟

علاقة الدولار بمنظومة الأسعار المصرية هي علاقة معقدة ومركبة، حيث يؤثر الدولار على الأسعار من خلال تكلفة الاستيراد، وتكلفة إنتاج السلع، ومستويات التحفيز، فارتفاع سعر الدولار يرفع تلقائيًا سعر السلع النهائية المستوردة بالكامل، ويرفع بالتبعية سعر السلع المنتجة محليًا والتي يدخل في إنتاجها مواد أو أدوات مستوردة، بل حتى السلع المنتجة محليًا بشكل كامل دون أي مدخلات إنتاج مستوردة أو مقومة بالدولار ستتحفز نحو الصعود، وذلك بسبب ارتفاع مستويات التضخم بشكل عام مما يدفع المنتجين لتغيير الأسعار نتيجة تغير القوى الشرائية للعملة والأفراد، وبالتالي يراجع تلقائيًا أسعار المنتجات وتكلفة إحلال السلع، وغيرها من العوامل.

لكن ” دالة الأسعار” ترتبط بعوامل ومحددات كثيرة غير مقتصرة على سعر صرف الدولار، فيدخل فيها محددات أخرى مثل تغير أذواق وسلوكيات المستهلكين، ودرجة مرونة السلع، وزيادة تكاليف الإنتاج المحلية مثل هيكل الأجور أو المواد الخام أو تكلفة الطاقة، وكذلك تؤثر العوامل التنظيمية مثل قدرات الحكومة على تنظيم الأسواق، وتأثير الظروف الموسمية التي يزداد فيها الإقبال على سلع معينة، وأسباب أخرى عديدة تضاف إلى محددات التأثير على أسعار السلع.

إذًا قد ينخفض بالفعل سعر الدولار ويستقر سعر الصرف في البنك المركزي، وقد تعود حركة الاستيراد لكامل نشاطها، ولا تنخفض الأسعار بذات المستوى، وهذا يرجع لعدة أسباب رئيسية:

السبب الأول هو طبيعة التجارة الخارجية وحركة الاستيراد، والتي في العادة هي دورة تستمر لعدة أشهر بداية من عملية التعاقد وآجال التعاقدات، وحركة الشحن والنقل والتخزين، وعمليات الفحص والإفراج الجمركي، والتي تختلف بطبيعة الحال من دولة لدولة بحسب كفاءة النظام الاقتصادي بها، لكن بشكل عام فإن دورة الاستيراد تأخذ فترة زمنية يتم تحديد الأسعار فيها وحساب التكلفة بشكل مسبق، مما يجعل فترة تغير الأسعار نحو الهبوط، أكثر بطئًا من ارتفاعها.

الأمر الآخر هو ما يمكن وصفه بجشع التجار، فلن يتقبل التاجر بسهولة على خفض أسعار السلع أمام المستهلكين حتى لو تراجعت تكلفتها بشكل حقيقي، وذلك لأن المستهلكين تكيفوا بالفعل على مستوى الأسعار المرتفعة وبالتالي فلا داعي أمام التاجر الجشع لخفض سعر السلعة طالما تحقق عائد أكبر، فطبيعة الاستثمار وفكرته تدور حول تحقيق أعظم مكسب ممكن للوصول لأكبر قدر من الثروة. وهذا السبب يرتبط بشكل مباشر بالسبب الثالث، وهو ضعف فاعلية الرقابة الحكومية على حركة الأسعار، نتيجة نفوذ وسيطرة المحتكرين على القطاعات الإنتاجية المختلفة، أو ضعف الأجهزة الرقابية، أو غياب تأثير نقابات العمال وجمعيات المستهلكين على ضبط سلوك التجار وإجبارهم على تصحيح الأسعار عبر حساب التكلفة والربح، وذلك طبعًا بحسب درجة مرونة السلعة.

إذًا تعدد الأسباب المؤثرة في دالة الأسعار كما تناولنا بالشرح، يساهم في محاولة فهم هذه العلاقة المعقدة بين الدولار والأسعار، وبالطبع هذا التحليل لا يهدف لإيجاد مبررات حول رفع سعر السلع بطريقة غير مبررة، لكنه قد يدفعنا لإعادة المناقشة حول أسباب ارتفاع أسعار السلع، وكيفية التفاعل مع تلك الأسباب عبر المسار الذي يدعم زيادة الإنتاجية وخفض التضخم وتحقيق التنمية الاقتصادية.