تابعت منذ أيام فقرة عرضها الإعلامي إبراهيم عيسى حول “غذاء المصريين”، الفقرة كانت صادمة لأبعد حد نظراً للأرقام التي كانت تشير إلى تراجع إنفاق المصريين على الغذاء بنسب بدت بالنسبة لي مفزعة وكاشفة لتأثير الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي نعيشها على الطبقات الفقيرة والمتوسطة.

اقرأ أيضا.. في أزمة الاقتصاد الخانقة: السياسة أولاً

فبحسب دراسة مركز الغذاء العالمي التي عرضها عيسى قلل المصريون استهلاك اللحوم بنسبة 85% والدواجن 73% والبيض 75% والألبان 60% والأسماك 61%.

هذه الأرقام إن كانت دقيقة، وأظنها كذلك، فإنها تشير إلى أننا في طريق أصعب مما يتخيل أحد، وأن الأزمة الاقتصادية الصعبة تنتقل من مساحة الفقر والغلاء إلى ما يشبه “الجوع”، وهو مؤشر خطير، فاللوهلة الأولى يظهر للمتابع أن تلك الأرقام تعبر عن تقليل إنفاق المصريين على الغذاء، ولكن يبدو أن الحقيقة على خلاف ذلك، فالأرقام تؤكد عدم قدرة الناس على الشراء من الأصل، وتراجع قدرتهم على الإنفاق على الغذاء بنسب كبيرة ومخيفة.

وربما نحتاج إلى عودة سريعة للوراء قبل الأزمة الأخيرة لنتعرف على نسب الفقر في مصر، فقد تكون الأرقام كاشفة لعمق المشكلة التي تتعرض لها الطبقات الفقيرة والمتوسطة، فحسب جهاز التعبئة العامة والإحصاء عن نسب الفقر المدقع في مصر (الفقر المدقع هم المواطنون الذين يفشلون في تأمين الاحتياجات اليومية من الغذاء) في عام 2019/2020 الجهاز، في بيان بمناسبة اليوم العالمي للقضاء على الفقر الذي يحتفل به يوم 17 أكتوبر من كل عام، إن الفقر المدقع في مصر انخفض على مستوى الجمهورية إلى 4.5% عام 2019/ 2020 من 6.2% عام2017 / 2018، هذا البيان الصادر من مؤسسة رسمية يؤكد أن من يعيشون في الفقر المدقع قبل الأزمة الاقتصادية العميقة الحالية كان يصل إلى نحو 4 ملايين مواطن، وهو ما يوحي بأن الأرقام الآن أضحت أكثر صعوبة بعد أن تضررت الطبقة الفقيرة بدرجة فادحة منذ الربع الأول من العام الماضي.

وباستكمال هذا البيان الذي أصدره جهاز التعبئة والإحصاء في أكتوبر 2021 فإن نسبة الفقر انخفضت لتصل إلى 29.7% خلال عام « 2019-2020» مقابل 32.5% عام «2017-2018» ما يعني أن نفس الأرقام الرسمية تشير إلى أن نسبة الفقراء حتى عام 2020 وصلت لنحو 30 مليون مواطن،دعك من أن هناك أرقام تشير إلى أن النسبة أكبر من ذلك، إلا أن البيان يحمل أرقاماً كاشفة لما يمكن أن نكون قد وصلنا إليه بعد الانخفاض الكبير في قيمة الجنيه، والارتفاع المتواصل في الأسعار ومستويات التضخم، وهو ما يعني أن هناك ضربة كبرى تلقاها المصريون أوصلتهم إلى الإحجام بنسب كبيرة عن شراء اللحوم والألبان والبيض والأسماك.

هذه الأرقام تزداد قتامة ويزداد المشهد سوءاً إذا ما عرفنا أنه بحسب المسح الطبي الذي جرى عام 2014 فإن اليونيسيف- منظمة الأمم المتحدة للطفولة- تؤكد أن “سوء التغذية هو سبب ثلثي وفيات الأطفال، وتعتبر مصر ضمن 36 بلداً يتركز فيها 90% من عبء سوء التغذية العالمي”، وبحسب اليونيسيف أيضاً فقد وصلت معدلات التقزم بين الأطفال دون الخامسة إلى 21% في 2014، بينما وصلت معدلات نحافة الأطفال ونقص الوزن إلى 8 و6% على الترتيب.

وبحسب نفس الدراسة فإن “أسباب سوء التغذية في مصر يرجع لضعف الحصول على نظام غذائي متوازن لدى الشرائح الأفقر من المجتمع أو بعبارة أخرى: انعدام الأمن الغذائي”.

بترتيب كل هذه الأرقام التي تبدأ عند الإنفاق على الغذاء وتمر بنسب الفقر وتنتهي عند التقزم وسوء التغذية ينكشف مشهد غاية في السوء عن واقعنا الاقتصادي الذي بدا هو الأصعب على هذا البلد منذ عشرات السنين.

ومن الاقتصاد إلى السياسة ربما يكون من المهم التأكيد من جديد أنه لا حلول اقتصادية في كل أزمات مصر الكبيرة والخطيرة بعيداً عن السياسة، وربما لا يصبح تعسفاً التأكيد الآن أن موت السياسة- بفعل فاعل- خلال السنين السبع الفائتة هو أحد أهم الأسباب لما نعيشه من واقع اقتصادي صعب للغاية، ومن مؤشرات خطيرة ومقلقة.

سيطر الحكم الفردي المطلق على البلد جبراً منذ عام  2014، وأسكت كل الأصوات، وانفرد بالقرار بشكل كامل ودون منازع، فلا رقابة سياسية أو برلمانية، ولا إعلام يكشف ويفضح، ولا أحزاب ترفض وتقدم البدائل، وكانت النتيجة هو الإنفاق دون رقيب على مشروعات غير إنتاجية، افتقدت لفهم أولويات بلد تعاني شرائح واسعة فيه من الفقر والاحتياج.

والآن بات من الواضح أن الأوضاع الخطيرة التي تعيشها البلد تستلزم أولاً اعترافاً صريحاً وواضحاً بخطأ المسار الذي سرنا فيه طوال السنوات الفائتة، ثم البدء الفوري وبلا تأجيل أو انتظار في إجراء تغييرات سياسية كبيرة وجذرية، تشمل السياسات ولا تستثني الوجوه والرموز الذين تصدروا المشهد طوال الفترة الماضية، تغييرات تبدأ من الفهم بأن مصر أكبر من أن يقودها فرد واحد أو حزب واحد، وأن السياسة هي التي تقي المجتمع مخاطر الانفجار، لا قدر الله، وأن إصلاح الاقتصاد مدخله الوحيد والمباشر المشاركة السياسية من الجميع، وتغليب المصلحة العامة، والإيمان بأن الإنتاج والصحة والتعليم هم الاستثمار الأمثل في المستقبل، وأن الصحافة الحرة والقضاء المستقل والبرلمان المنتخب انتخاباً شفافاً ليسوا ترفاً بل هم جزء من صميم أي عملية انتقال سياسي أو تقدم اقتصادي.

الفهم الواضح بأن السياسة هي البدء وهي الختام هو الذي سيجنبنا مخاطر الأرقام المخيفة التي ذكرتها في بداية هذا المقال، والإيمان بأن البلد تغيرت ولا يمكن أن تعود للخلف ربما ينجينا من مخاطر وأزمات لا يمكن للبلد أن تتحملها، والإدراك بأن الحكم على الطريقة القديمة قد انتهى ولن يعود هو الذي سيجنبنا أخطاء الماضي القريب، وهو الذي سيساهم في رسم خريطة طريق جديدة تضع مصر على الطريق الصحيح لتلحق بعصرها الذي تخلفت عنه عشرات السنين.