لا يتوقف أمر مشاكل العمل القانوني داخل أروقة المحاكم، أو ما بين المحامين والقضاة أو العاملين بالمحاكم، حيث تشهد الحياة المصرية، خصوصا في السنوات الأخيرة تطورات، أو لنقل انتكاسات شديدة في العلاقة ما بين السلطة القضائية وبين المحامين، سواء كان ذلك من خلال ممارستهم لأعمال مهنتهم، أو من خلال التعامل مع الموظفين المدنيين، بل تطور الأمر إلى أن وصل لخلافات في المحافل العادية والأمور ذات الشأن الخاص، وهو الأمر الذي بات له أثر بالغ الخطورة على ممارسة الحق في الدفاع وممارسة مهنة المحاماة.

اقرأ أيضا.. عدم الطعن على عقود الدولة.. فقه تسبيب الضرورة من “الدستورية العليا”

وشهدت محافظة مطروح أخر تلك المحطات، إثر خلاف بين أحد المحامين وبين أحد الموظفين، سرعان ما تطور الأمر إلى الشجار والتعدي، وسرعان ما تهافت المحامون إلى نجدة زميلهم، بعد أن تشارك زملاء الموظف معه، وكانت بداية الأزمة وقت أن تم عرض الجميع على النيابة العامة والتي أمرت بحبس المحامين أربعة أيام على ذمة التحقيق وإخلاء سبيل الموظف بضمان وظيفته، وتم إحالة القضية إلى المحكمة المختصة بسرعة، والتي قضت بحبس المحامين سنتين والمراقبة مثلهما، وذلك بعد مرافعة بعض المحامين، والذين أكدوا عدم استجابة المحكمة لبعض طلباتهم الموضوعية والمتعلقة بتحقيق دفاعاهم كتفريغ كاميرات المراقبة، أو معاينة إحدى الغرف التي قيل إن هناك أحد الشهود من أعضاء الهيئة القضائية قرر بأنه قد شاهد الواقعة من خلالها، إلا أن المحكمة التفتت وقضت بمعاقبة المحامين، وقد سبق ذلك أن صدر بيان من السيد القاضي مصدر الحكم بتشديد الحراسة على القاعة، ومنع التصوير، وذلك قبل صدور الحكم.

وكانت المفاجأة في جلسة الاستئناف، والتي شهدت تغييراً كاملاً في أقوال المجني عليهم من الموظفين، حيث حضر وكيل عنهم، وأقر بأن الواقعة كانت مجرد مشاحنة بين الطرفين ولم يحدث بها تعدي من المحامين، كما أنها كانت بعد مواعيد العمل الرسمية، وهو الأمر الذي يجعل من شهادة السيد القاضي عضو الدائرة محل نظر، كما يجعل من التحريات أنها لم تكن محايدة، وأخلت الدائرة الاستئنافية سبيل المحامين وحجزت القضية للحكم لجلسة 5 فبراير المقبل.

وبعد صدور الحكم تزايد اشتعال فتيل الأزمة من خلال بيانات من نقابة المحامين سواء كانت العامة أو الفرعيات بتعليق العمل، ومنع الحضور أمام النيابات ومحاكم الجنايات، وأعقب ذلك بياناً من نادي القضاة اعتبره المحامون بمثابة تصعيد للأزمة، وذلك من خلال اللغة التي وصفها العديد بأنها لغة استعلائية. وصاحب تلك المشكلة مشكلة شخصية في إحدى المتنزهات العامة بين أحد المحامين وزوجته وأحد أعضاء السلطة القضائية وزوجته، والتي لم تنته إلا بعد أن تم التحقيق في النيابة وتم الحشد الشديد بين الفريقين، ولكن سرعان ما تم استيعاب الموقف والتصالح صبيحة اليوم التالي بين الطرفين بعد تقديم الاعتذارات اللازمة، وهو ما جاء ذكره في بيان نادي القضاة.

وأرى أن مثل تلك الأمور يكون لها أثر بالغ الخطورة على العلاقة بين السلطة القضائية وممثلي الحق في الدفاع، وهو الأمر الذي سيكون له التأثير بالطبع على حق الدفاع ذاته، وهو الحق الذي لا تستقيم المحاكمات الجنائية دون تحقيقه بشكل كامل، إعلاء لقيمته الدستورية وحفاظاً على حقوق المواطنين في المحاكمات العادلة، والتي لا يمكن أن تتحقق دون أن تستقيم العلاقة بين الطرفين (الدفاع – القضاء) أو تعود كما كانت في سابق عهدها.

أذكر منذ سنوات خلال أزمة نادي القضاة، والذي كان يترأسه المستشار زكريا عبد العزيز مع السلطة في عهد مبارك، وقف المحامون جنباً إلى جنب القضاة، ولم يتركوهم في محنتهم مع السلطة التنفيذية حتى بعد أن تم إحالة البعض إلى مجلس الصلاحية كسلطة تأديبية، وشارك المحامون القضاة حينها في اعتصامهم، ونضالهم للمطالبة بحقوقهم كاملة، كما أنه يوم المحاكمة شهدت دار القضاء العالي مظاهرة مناصرة من المحامين لم يسبق لها مثيل، حتى أن الدائرة التي كانت تنظر القضية حينها لم تستطع إثبات حضور إلا رموزاً من المحامين، لي الشرف أن كنت أحدهم رفقة أستاذ المحاماة الراحل النبيل أحمد نبيل الهلالي. فهل يفطن الجميع إلى أن افتعال تلك الأزمات لا يعود بالخير على الطرفين، ولا على المواطن العادي، فلا تستقيم العدالة دون أيهما، ولا يستقيم الوطن دون العدالة.

يقتضي تحقيق العدل من خلال القانون أن تقوم على تنفيذه سلطة قضائية محايدة، وتقتضي الوظيفة القضائية حال اشتغالها بتحقيق العدالة مثول الدفاع بكامل ضماناته وتحقيق كافة مطالبه، ضماناً لإنفاذ القانون، سعياً لتحقيق العدالة في الخصومة القضائية، وبشكل خاص في المحاكمات الجنائية، إذ أن المحاكمات القانونية التي تتوافر فيها مقومات الحق في الدفاع تعكس الموازنة بين حق الفرد في الحرية وحق الجماعة في الدفاع عن مصالحها الأساسية، وبالتالي لا يجوز ولا تستقيم المحاكمة إذا حُرم المتهم من حقه أو سلب بعض صلاحياته، وبحسب قول المحكمة الدستورية العليا: “يتكافأ في المحاكمة حق المجتمع من خلال سلطة النيابة العامة وحق المتهم من خلال ضمان الحق في الدفاع، إذ أن حق الدفاع يغدو سرابا بغير اشتماله على حق سماعه من خلال محاميه”.

وأرى أن تكرار مثل تلك المشاحنات التي باتت ترتقي إلى الصراع الدفين لا يعود بالخير على الحق في الدفاع ذاته، وتؤثر بشكل قاطع على مسار العدالة في مصر، وهي التي تئن من كثرة الظروف التي تمر بها، سواء من خلال استخدام حالة الطوارئ سابقاً، أو من خلال قوانين يتم تمريرها بطرق تميل ناحية السلطة أو تصب في خانتها، وعدم الاكتراث كثيراً بالرقابة الدستورية أو تفعيلها من قبل المحاكم غلا في الحالات القليلة.

وإذا كانت هذه المشكلات كاشفة لما هو عليه الوضع العام في مصر من حالات احتقان بين طوائف المجتمع المختلفة، ولكن وضع الخلاف بين جناحي العدالة يصبح أكثر حساسية وتأثيراً على وضع العدالة والمحاكمة العدالة بحسب كون الحق في الدفاع أهم مفردات الحق في المحاكمة العادلة، وهو ما يزيد صعوبة موقف العدالة بشكل عام في مصر. ولم يتبقى سوى أن يستعين الطرفين بالحكماء منهما من أجل القضاء على تلك المشكلات ومثيلاتها، حتى لا تكون لها أي أثر على العمل القانوني.