في الوقت الذي يشهد فيه إقليم البحر الأحمر تنافسا إقليميا ودوليا على تعظيم مساحات النفوذ به والسيطرة على نقاطه الحيوية، تزايدت خلال الفترة الأخيرة أهمية المنطقة في التخطيط الاستراتيجي للمملكة العربية السعودية خاصة في ظل طموح ولي العهد محمد بن سلمان الرامي لتجاوز الصورة النمطية للمملكة، وتحويل اقتصادها من الاعتماد على تجارة النفط إلى اقتصاد متعدد الموارد، مع مد أذرع المملكة في محيطها الإقليمي سياسيا وأمنيا.
النفوذ السعودي المتقدم بإقليم البحر الأحمر، في وجه آخر منه بات يمثل تهديدا لمصر على المستويين السياسي والاقتصادي، أمام جموح بن سلمان الراغب في قيادة الشرق الأوسط خاصة بعد تجاوزه أزمة الحصار الذي فرض عليه بعد مقتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في اسطنبول التركية.
اقرأ أيضا.. البحر الأحمر وخليج عدن.. كيف يمكن صياغة دور مصري أوسع؟
ومن بين الدول الإفريقية والآسيوية المشاطئة للبحر الأحمر والبالغ عددها 7 دول إضافة إلى كيان الاحتلال الإسرائيلي، تعتبر مصر والسعودية ضمن الدول الإقليمية ذات الثقل الكبير في حد ذاتها، في حين أن الدول الأخرى إما ضعيفة وذات سياسة متغيّرة أو تعاني أوضاعاً داخلية متوترة، وإما فقيرة تعتمد على موارد محدودة، وتؤجر سواحلها كقواعد عسكرية، وهو الأمر الذي ربما أغرى ولي العهد السعودي بالتفكير في مد نفوذ بلاده على تلك المنطقة الحيوية، عبر تأسيس وقيادة منتدى الدول العربية والإفريقية المشاطئة للبحر الأحمر.
وأمام حالة التنافس الإقليمي، تظل مصر طرفا رئيسيا في أي حسابات دولية أو إقليمية خاصة بمنطقة البحر الأحمر، وفي أي ترتيبات مطروحة من جانب تلك القوى لتحقيق الأمن والاستقرار والتنمية المستدامة في هذا الممر الحيوي وفي الدول المطلة على قسمه الجنوبي على وجه الخصوص، خاصة أن مصر تمتلك السواحل الأطول على البحر الأحمر من بين الدول السبع.
الأهمية الاستراتيجية
استراتيجيا، يتميز البحر الأحمر بموقع جغرافي مُهم ما جعله حلقة وصل بين أربع مناطق إقليمية هي الشرق الأوسط، القرن الإفريقي، المحيط الهندي، ومنطقة الخليج، كما أنه قناة وصل بين البحار والمحيطات المفتوحة، ونظامًا فرعيًّا من إقليم الشرق الأوسط المضطرب.
ويضيف للأهمية الاستراتيجية لإقليم البحر الأحمر الموقع الذي وفر للقوى الإقليمية والدولية إمكانية الوصول إلى المحيطين الهندي والأطلسي.
طموح يهدد مصالح القاهرة
منذ أن أعلنت السعودية مطلع أغسطس/آب 2017 إطلاق مشروع سياحي عالمي في المملكة تحت مسمى مشروع “البحر الأحمر“، في الوقت الذي تسعى فيه البلاد إلى تنويع اقتصادها وتقليص اعتمادها على النفط، بات النشاط السياحي المصري خاصة في منتجعات شرم الشيخ والغردقة في مرمى الخطر، كوّن المشروع السعودي سيكون الأضخم في الإقليم.
وسيقام المشروع السعودي على أحد أكثر المواقع الطبيعية في العالم جمالا، لتطوير منتجعات سياحية استثنائية على أكثر من 50 جزيرة طبيعية سعودية بين مدينتي أملج والوجه، والممتدة على ساحل يتجاوز طوله 200 كيلو متر في البحر الأحمر.
خطورة المشروع اقتصاديا
خطورة المشروع السعودي بالنسبة لمصر تتمثل في كونه منافسا قويا للمنتجعات السياحية المصرية التي تعد مقصدا للسائحين الإقليميين خلال أشهر الصيف، حيث تعد تلك الفترة من العام الأكثر حرارة ورطوبة في دبي التي تعد المقصد الرئيسي للسياح في الشرق الأوسط.
وهو ما يؤكده مسئول شركة البحر الأحمر السعودية للتطوير جون باجانو، بقوله في تصريحات صحفية سابقة إنه “لا يتوقع أن تشكل دبي أي تحدٍّ كبير للمشروع؛ لا سيما وأن مشروع البحر الأحمر يتوقع استقبال العديد من الزوار الإقليميين خلال أشهر الصيف، وهي الفترة التي تنخفض فيها أعداد السياح في دبي عادة”.
ويوضح باجانو: “أفضلية المناخ ستلعب دورًا إيجابيًّا في اجتذاب المزيد من الزوار خلال الصيف؛ حيث يكون الطقس حارًّا وفي غاية الرطوبة؛ بينما تتميز منطقة البحر الأحمر بمناخ مختلف تمامًا، ويتراوح المعدل الوسطي لدرجات الحرارة بها عند بداية الثلاثينات، ولا تمر بفترات من الحر الشديد”، وهو ما يعني منافسة ربما تكون غير متكافئة مع مصر في القدرات والإمكانيات الاقتصادية للمملكة، والتي سيكون من الصعب على القاهرة مجاراة العروض التنافسية التي سيتم طرحها، وهو الأمر الذي لم يخفه باجانو، بالتأكيد أن الإفراط من جانب مصر في أنشطة التطوير والسياحة أدى إلى فقدان البيئة لنقائها، مؤكدا: “من جانبنا سنكون أكثر تركيزا على جانب الرفاهية في المشروع”.
ومن المقرر إطلاق المشروع في عام 2030؛ على أن يضم ما يصل إلى 8 آلاف غرفة فندقية على امتداد 22 جزيرة وستة مواقع على بر المملكة؛ على مساحة إجمالية تصل إلى 28 كم مربعًا.
المملكة مركز ثقل سياحي
ما يضاعف التهديد السعودي للمصالح الاقتصادية المصرية في نطاق إقليم البحر الأحمر، اتفاق وقعته القاهرة مع الرياض في أغسطس/ آب عام 2018، وبموجبه تعهدت مصر بألف كيلومتر مربع من الأراضي في جنوب سيناء لتكون ضمن مدينة نيوم العملاقة التي أعلنت السعودية اعتزامها إقامتها بتكلفة 500 مليار دولار.
وتعد هذه الأراضي الواقعة بمحاذاة البحر الأحمر جزءا من صندوق مشترك قيمته عشرة مليارات دولار أعلنت الدولتان تأسيسه خلال زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان للقاهرة في العام ذاته.
والجزء الخاص بالرياض سيكون نقدا للمساعدة في تطوير الجانب المصري من مشروع نيوم، الذي من المقرر أن يمتد عبر السعودية ومصر والأردن.
المشروع بهذه الصيغة، سيجعل السعودية هي مركز الثقل السياحي في المنطقة خاصة بنظرة أشمل وأكثر اتساعا لباقي التحركات السعودية في إقليم البحر الأحمر.
هيمنة سعودية
وفي 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، أكدت مجلة “إنتيليجنس أونلاين” الفرنسية المختصة بشؤون الاستخبارات، أن السعودية تسعى لتصبح قوة بحرية وازنة، وتستعد لإطلاق شركة “خطوط فرعية” جديدة في البحر الأحمر.
وأضافت أن جميع جهود صندوق الاستثمارات العامة السعودي تصب في تعزيز مصالح البلاد في منطقة البحر الأحمر لزيادة الهيمنة عليها، وتابعت: “يعمل ممثلو صندوق الاستثمارات العامة السعودي بنشاط على توظيف مستشارين من بين شركات الشحن الرئيسة التي تأسست في ميناء جبل علي بدبي وميناء خليفة في أبو ظبي”.
وأشارت إلى أن الهدف الأول للصندوق من تلك الخطوة، ترسيخ نفوذه في البحر الأحمر من خلال الوصول إلى أهم المواني الرئيسة.
اقرأ أيضًا: تركيا في البحر الأحمر| مصدر تهديد آخر لمصر وجاراتها.. ولكن
وأوضحت أن الرياض بالفعل ستصبح المهيمن الرئيس على الخطوط الفرعية لسفن الحاويات التي تمر عبر مواني مصوع وعصب (في إريتريا) وبورتسودان (في السودان) وجيبوتي وبربرة (في الصومال) والحديدة وعدن (في اليمن).
ويعمل قسم المواني والبنية التحتية للمواصلات في صندوق الاستثمارات العامة على إنشاء أسطوله من سفن “الخطوط الفرعية”، ويديره رانجيث باول الذي عمل مسئولا عن الاستثمارات اللوجستية لدى شركة “ADQ القابضة” في أبو ظبي، كما عمل لدى شركة مواني دبي العالمية.
النفوذ السعودي المتقدم في البحر الأحمر دفع رجل الأعمال نجيب ساويرس لدق ناقوس الخطر.
ففي 6 أكتوبر/تشرين الأول 2022، تحدث ساويرس خلال مؤتمر مؤتمر نظمته إحدى الإصدارات الصحفية الاقتصادية، عن الاستثمارات المتصاعدة التي تنوي الرياض تطويرها في منطقة البحر الأحمر، وقال إنها تهدد المشروعات والسيادة المصرية.
وقال ساويرس إن “الاستثمارات التي تنفذها السعودية في البحر الأحمر سواء في نيوم أو غيرها لا شك ستهدد استثماراتنا في البحر الأحمر وشرم الشيخ وهذه المناطق الاستراتيجية التي كانت تقع في زمام السيطرة المصرية”.
طموح يصطدم بنفوذ القاهرة
أمام التغيرات الجغرافية والسياسية التي تشهدها منطقة البحر الأحمر، سعت المملكة لحجز موقع القيادة السياسية والأمنية، عبر تجمع الدول العربية والإفريقية المشاطئة للبحر الأحمر، الذي استأثرت بقيادته ومقره الدائم لديها مستغلة في ذلك طاقتها المالية وحاجة الدول الأعضاء به لمساعداتها الاقتصادية.
الكيان الجديد وجدت فيه الرياض ضالتها لمواجهة النفوذ الإيراني والتركي والإماراتي المتنامي حولها، ومُحاصرة أي نفوذ من خارج الإقليم لا يحظى برضاها من خلال إلزام الدول المنضوية في هذا الكيان وقف السباق على منح قواعد عسكرية جديدة.
وبالنسبة إلى الدول التي لديها بالفعل قواعد عسكرية ونفوذ سياسي/ اقتصادي مثل (تركيا، الإمارات، إيران)؛ فلا يُستبعد أن تُمارس السعودية ضغوطاً وازنة على كل من (السودان، جيبوتي، الصومال) في سبيل إنهاء هذا التعاون أو تجميده، مُقابل ورقة المساعدات والتنمية.
ولم تكتف السعودية بتأسيس الكيان الجديد، ورعايته، بل عملت أيضا على التواجد ضمن مصاف الدول المالكة لقواعد عسكرية بالإقليم، بعدما حصلت على موافقة جيبوتي المشرفة على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، لإقامة قاعدة عسكرية على أراضيها.
اقرأ أيضًا: إقليم البحر الأحمر.. خطط إماراتية لـ “استحواذ بحري” لا يستبعد قناة السويس
والمدقق في التحركات الأمنية والسياسية السعودية في الإقليم سيتضح له من الوهلة الأولى أن الرياض لا تتعامل مع القاهرة كشريك بقدر رغبتها في تقويض نفوذ القاهرة وقدرتها العسكرية ونفوذها في الإقليم، وجعلها تابعا، يخدم طموحها الرامي لقيادة المنطقة، في مقابل دعم اقتصادي لا يتناسب أبدا مع حجم ما تريده.
وفي هذا الإطار كشف مسئول خليجي تحدث لـ”مصر 360″ عن خلاف بين القاهرة والرياض بشأن طبيعة إدارة منتدى الدول المشاطئة للبحر الأحمر، بعدما أبدت مصر رغبتها في استضافة أحد الكيانات المنبثقة عن التجمع على أراضيها، وهو كيان معني بالعمليات والدراسات العسكرية والأمنية ويهدف للتنسيق بين الدول الأعضاء فيما يتعلق بأمن واستقرار الممر المائي الأهم.
وأشار المسئول الخليجي إلى أن هذا الخلاف، إلى جانب أمور أخرى ربما يكون وراء البرود في العلاقات بين القاهرة والرياض مؤخرا.
وربما يكون ترؤس مصر لفرقة العمل المشتركة 153 في ديسمبر/كانون الأول الماضي، والتي ستقوم بموجبها بتسيير دوريات عسكرية مأهولة وغير مأهولة بما في ذلك قوارب وطائرات مسيّرة لتغطية مساحة أكبر في البحر الأحمر، جعل القاهرة تجد أن لها الأحقية في دور قيادي في المنتدى بحكم ثقلها.