وصل وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية أنتوني بلينكن إلى القاهرة، اليوم الأحد، ضمن زيارته الرسمية لمنطقة الشرق الأوسط، التي تبدأ بمصر. وهي زيارة يرى بين فيشمان، مساعد باحث سابق في معهد واشنطن، أنها تمنح الولايات المتحدة فرصة جيدة لتعزيز نفوذها وتقديم المساعدات. ذلك في وقت تعاني فيه القاهرة أزمة اقتصادية خانقة، تهدد استقرارها. ومن ثم تجعلها أكثر استجابة لتغيير مواقفها في ملفات عدة داخلية وخارجية، قد يكون أهمها موقفها من روسيا وملف حقوق الإنسان لديها.

يقول “فيشمان” في تحليله المنشور بـ “معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى” إن القيادة السياسية في مصر حاليًا تواجه مهمة شاقة، متمثلة في احتواء المعارضة الشعبية وتنفيذ الإصلاحات التي يطلبها “صندوق النقد الدولي”، من دون إثارة حفيظة القاعدة العسكرية الموجودة داخل البلاد.

فالمعضلة الحقيقية، وفق ما يقوله “فيشمان”، هي إلى أي مدى ستجازف القيادة السياسية بإغضاب مناصريها الأساسيين في الجيش من خلال بيع الشركات التي يديرونها أو خفض إنفاقهم على السلع المتطورة مثل الغواصات والطائرات المقاتلة المتقدمة.

لأنه حتى إذا خفّضت عمليات الخصخصة إلى حدّها الأدنى فيما يتعلق بالشركات التابعة للجيش، سيتعين على الدولة فرض ضريبةٍ أكبر على هذه الشركات، تنفيذًا للاتفاقية الجديدة لـ “صندوق النقد الدولي”. وهنا يصبح التساؤل حول عدد الامتيازات الاقتصادية التي سيفقدها الجيش قبل أن تتعرض قيادته للتهديد؟، كما يضيف “فيشمان”.

الوضع الراهن بمصر

منذ مارس/ آذار 2022، فقد الجنيه نصف قيمته، ووصل إلى 30 جنيهًا للدولار الأمريكي الواحد. يعود ذلك إلى هروب الدولارات واشتراط “صندوق النقد الدولي” اعتماد سعر صرفٍ مرن. ما أدى بالنتيحة إلى ارتفاع معدل التضخم الرسمي بواقع 15 نقطة عما كان عليه في نهاية عام 2021 ليقارب نسبة 22% في ديسمبر/ كانون الأول الماضي. وبالتالي، تنقطع الموارد بشكلٍ متكررٍ، وترتفع أسعار السلع الأساسية بنسبة 40% تقريبًا. وسيكون من الصعب ضبط ارتفاع سعر الخبز، الذي هو سلعة أساسية، لمزيد من الوقت.

في غضون ذلك، ارتفعت نسبة الدين المصري إلى “الناتج المحلي الإجمالي” إلى 95%، لتسجل رقمًا قياسيًا بلغ 100 مليار دولار من دفعات القروض المستحقة خلال السنوات الأربع القادمة. وتخصص ميزانية مصر لعام 2022-2023 أكثر من 50% لخدمة الديون وسداد القروض. وسيزداد هذا الرقم المرتفع جدًا أكثر فأكثر بمرور الوقت؛ لأن القروض محتسبةٌ بالدولار.

للخروج من هذه الأزمة المتفاقمة، وقّع “صندوق النقد الدولي” ومصر اتفاقيةً لمدة أربع سنوات بقيمة 3 مليارات دولار في 15 يناير/ كانون الثاني، بعد أسابيعٍ من التأجيل. وهي الاتفاقية الرابعة من نوعها بين الطرفين منذ عام 2016، لتصبح مصر بذلك الدولة ذات الديون الأكبر لـ”صندوق النقد الدولي” في العالم بعد الأرجنتين.

شروط الصندوق

ولأن القاهرة تجاوزت حصة الاقتراض السابقة المخصصة لها. فبالإضافة إلى اشتراط خفض الإنفاق الحكومي واتباع سياسةٍ مرنة بشأن العملة (مما يخفّض قيمة الجنيه المصري)، ينص برنامج “صندوق النقد الدولي” على تقليص الدولة دورها في الاقتصاد إلى حدٍّ كبير. بما في ذلك المصانع والشركات المملوكة للجيش. وفي المقابل، “من المتوقع أن يُحفز البرنامج الجديد تمويلًا إضافيًا بحوالي 14 مليار دولار من شركاء مصر الدوليين والإقليميين. ويشمل ذلك تمويل جديد من دول “مجلس التعاون الخليجي” وشركاء آخرين من خلال البيع المستمر لأصول الدولة. فضلًا عن الأساليب التقليدية للتمويل من جهاتٍ دائنة ثنائية ومتعددة الأطراف.

كان بعض هذه الخصخصة قد بدأ بالفعل مع شراء كل من قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أسهم في شركة “فودافون” مصر وعدة شركات أخرى (مثل شركات الأسمدة والخدمات اللوجستية). ولكن على الرغم من أن كل دولة من هذه الدول أودعت مليارات الدولارات في “البنك المركزي المصري” في وقتٍ بدأ فيه المستثمرون بسحب أموالهم في مارس/ آذار الماضي، لم تنجح إضافاتها لاحتياطات القاهرة من النقد الأجنبي في وقف التراجع السريع للجنيه المصري.

اقرأ أيضًا: زيادة الحد الأدنى للأجورلـ2700 جنيه| مستثمر: لا يكفي فردا.. نقابي: التضخم تجاوز 100%.. خبير: حتى 5000 لا تكفي أسرة

وفي عام 2021 أفاد “صندوق النقد الدولي” بأن مصر تملك ما يقرب من ألف مؤسسة مملوكة للدولة أو مشاريع مشتركة و53 هيئة اقتصادية تعمل في عدة قطاعاتٍ استراتيجية مثل الخدمات اللوجستية والزراعة والنفط والغاز والكهرباء و”هيئة قناة السويس”.

وشهد قطاع التصنيع وحده انخراط المؤسسات المملوكة للدولة في مجالات صناعة الأنسجة والطباعة والتعبئة والهندسة والمواد الكيميائية والأغذية والمشروبات والمستحضرات الصيدلانية والمعادن. ما يشير إلى مدى ضلوع الدولة في الاقتصاد، على حد قول “فيشمان”، الذي يقول إن أغلب هذه الشركات يحصل على إعفاءاتٍ ضريبيةٍ هائلة، ولا سيما تلك المملوكة للجيش.

وردًا على الضغط الخارجي بشأن هذه القضية، وافقت مصر على “سياسة ملكية الدولة” في 29 ديسمبر/ كانون الأول، بوضع أهداف جديدة للحدّ من هذه الممارسة. ولكن على الرغم من أهمية خصخصة هذه الصناعات لتعافي الاقتصاد المصري، سيكون من الصعب ضمان إنجاز هذه الخصخصة بشفافية كبيرة. فحتى عندما أعلن عن تخفيضاتٍ جديدة في الإنفاق في مختلف الوزارات الشهر الماضي، استثنيت منها وزارات الدفاع والداخلية والخارجية والصحة.

معضلات الإدارة الحالية

يقول “فيشمان” إن الإدارة المصرية واثقة من أنها تستطيع السيطرة على المعارضة الشعبية والاحتجاجات، رغم التدهور السريع في الظروف المعيشية. ويستشهد في ذلك بمرور الاحتجاجات التي كانت متوقعة خلال “مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ” في شرم الشيخ (COP27) في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، مرور الكرام، وإن كانت هناك ثمة إشاراتٍ تدلّ على ازدياد المعارضة، لا سيما عبر الإنترنت.

أما فيما يتعلق بالاعتماد على دعم دول الخليج، فهو يرى أن الوضع بات خطيرًا للغاية. إذ أن قطر والسعودية والإمارات لم تفِ إلا بجزءٍ ضئيلٍ فقط من المليارات التي تعهدت بها للإدارة المصرية في السنوات الأخيرة. وبالإضافة إلى ذلك، لم تحضر السعودية والكويت القمة التي انعقدت في 18 يناير/ كانون الثاني الجاري في دولة الإمارات مع مصر والأردن. ما قد يشير إلى تراجُع دعم الدول المانحة لمصر.

وفي حين أن بيع أسهم الشركات المملوكة للدولة إلى دول الخليج يمكن أن يساعد القاهرة على اجتياز تحدي أزمتها الدولارية. إلّا أن ذلك لن يعود بالفائدة على القطاع الخاص في مصر.

يقول “فيشمان” إنه عندما تتفاقم الأزمة في مصر، ستصعب الاستفادة من التمويل الخليجي الإضافي في الوقت المناسب لعكس مفاعيل الأزمة.

دور الولايات المتحدة

هنا، يعود “فيشمان” للحديث عن الدور الأمريكي في الأزمة المصرية. فيقول إنه لطالما ركّزت العلاقة بين الولايات المتحدة ومصر على أهمية القاهرة لأمن المنطقة، ولا سيما على دورها في الوساطة مع حركة “حماس”، وفي الحفاظ على علاقاتٍ أمنيةٍ إيجابيةٍ مع إسرائيل. وقد تعزّزت هذه الأولويات عندما أجرى مدير وكالة الاستخبارات المركزية وليام بيرنز زيارة إلى القاهرة في 23 يناير/ كانون الثاني.

ومع ذلك، يتعين على واشنطن في المرحلة المقبلة وضع استراتيجيةٍ أكثر شموليةً تجاه مصر. على أن تشمل تقديم مساعداتٍ اقتصاديةٍ أكبر، وتسهيل الاستثمار من خلال ضمانات القروض، ودراسة خيارات الإعفاء من القروض، والاستفادة من نفوذ الولايات المتحدة على “صندوق النقد الدولي”.

وقد يكون من المفيد الطلب من الشركاء الخليجيين النظر في طرق للحد من اعتماد مصر على المساعدات. وفي المقابل، يجب على القاهرة أن تتقبل إحداث تغييرٍ كبيرٍ في سياساتها بشأن روسيا والصين وحقوق الإنسان وليبيا.

اقرأ أيضًا: سد النهضة وملف حقوق الإنسان.. أين هما في الحوار المصري الأمريكي؟

فمع روسيا مثلًا، تحافظ مصر حتى الآن على موقفٍ حيادي بشأن الحرب في أوكرانيا لتفادي استفزاز موسكو ودفعها إلى قطع خط التجارة والمبيعات العسكرية والسياحة.

ويشير “فيشمان” إلى حجم التعاون الاقتصادي بين مصر وروسيا، فمشروع الضبعة، حيث تبني إحدى الشركات الروسية لمصر محطة لتوليد الطاقة النووية بقيمة 30 مليار دولار، وبتمويلٍ كبير من موسكو. بينما وضعت شركات روسية أخرى قدمها في المنطقة الصناعية في السويس. وحاولت موسكو تسهيل التجارة ودعم الجنيه المصري بربطه بالروبل.

ومع ذلك، فهو يرى أنه لا يزال بإمكان الولايات المتحدة إبعاد مصر عن روسيا من خلال تقديم حوافز إضافية إذا تفاقمت الأزمة الداخلية بها.

أما الصين، فينصح “فيشمان” بأن تُحذّر إدارة بايدن مصر من التقرب جدًا من الصين للحصول على الدعم. فالتاريخ يُظهر أن الاستثمارات الأجنبية الصينية غير موثوقة ومشروطة باستيراد العمال الصينيين في غالب الأحيان، ولن يساعد ذلك مصر في معالجة معدلات البطالة المرتفعة في مصر. علاوةً على ذلك، قد تؤدي شروط القروض الصينية إلى إغراق القاهرة في المزيد من الديون.

اقرأ أيضًا: “دام” يصدر ورقة بحثية جديدة.. مسار استراتيجية حقوق الإنسان بين الرؤيتين الرسمية والحقوقية

وفيما يتعلق بملف حقوق الإنسان في مصر، فإن “فيشمان” يرى أن استخدام ورقة “التمويل العسكري الأجنبي” للضغط على مصر، لم يحسن سجلّ حقوق الإنسان بها بشكل ملحوظ. ففي جميع الأحوال، القاهرة مضطرة إلى خفض إنفاقها العسكري. لذلك ليس من المنطقي أن تواصل واشنطن نزاعها الداخلي السنوي حول مبالغ “التمويل العسكري الأجنبي” التي لا تلبي الاحتياجات الحقيقية لمصر. وقد يركز النهج الأكثر فاعلية في دفع مصر نحو تحسين حقوق الإنسان بكيفية أن تسهل الولايات المتحدة الاستثمار في البلاد، حالما يتحسن وضع الحريات المدنية فيها بشكلٍ ملموس.

يقول “فيشمان” إن مصر لا تزال تشكّل عائقًا كبيرًا أمام إرساء الاستقرار في ليبيا. فبعد أن دعمت القاهرة خليفة حفتر في مغامراته العسكرية ضد طرابلس بين عامَي 2014 و2015 وأيضًا بين عامَي 2019 و2020، ترفض القاهرة اليوم الاعتراف بـ “حكومة الوحدة الوطنية” أو الانضمام إلى الاتفاقات الدولية التي تحدد الخطوات المستقبلية في هذا الصدد.

ويضيف أن موقف القاهرة مفهوم وهو نتاج بعض المخاوف لدى مصر، إذ تعارض بشدّة وجود تركيا في ليبيا، وتخشى عواقب انتخاباتٍ محتملة لا يمكنها السيطرة عليها. ولكن في الوقت نفسه، يمكن أن تدرّ ليبيا المستقرة ما يقدَّر بنحو 100 مليار دولار من الإيرادات إلى مصر وتمكين عشرات الآلاف من العمّال المصريين من العودة إلى وظائفهم عبر الحدود.

وبناءً على ذلك، يجب على إدارة بايدن تغيير مسار الحوار بشأن ليبيا ولفت انتباه القاهرة إلى الفوائد الاقتصادية التي تنجم عن تعزيز بناء دولةٍ مجاورةٍ مستقرة لا تعاني من صراعٍ دائم.


بين فيشمان
بين فيشمان

بين فيشمان، هو مساعد باحث سابق في معهد واشنطن، ومحرر كتاب “شمال إفريقيا في مرحلة انتقالية: النضال من أجل الديمقراطية والمؤسسات” الذي صدر عام 2015. كما عمل ضمن طاقم “مجلس الأمن القومي” الأمريكي في الفترة 2009-2013، بما في ذلك مديراً لشؤون شمال أفريقيا والأردن.