هناك عقود لا يحدث فيها شيء، وأسابيع تحدث فيها عقود، كأن “لينين” قرأ في كتاب “ثورة يناير” وهو يقول هذه العبارة الموجزة والعميقة، فيها الرد البليغ على أسوأ تشنيعة على الشعب المصري، وتسقط أكذوبة أنه شعب خانع، يطول سباتُه، وتكثر آهاتُه، ولكنه لا يحرك ساكنًا تجاه ما يواجهه من ظلم وقهر، وما يعيش فيه من سوء الأحوال.

تاريخ المصريين شاهد، وثورات المصريين تكذب التشنيعات، وتؤكد أن “الثورة تمثل الإيقاع الثابت في تاريخ مصر، وأن ثقافة الثورة متأصلة لدى المصري، حيث يسعى دائمًا لتحسين أحواله الاجتماعية ومواجهة الظلم أو مواجهة استعمار، بنص عبارة عبد العزيز جمال الدين، المحقق في التراث المصري في مقدمة كتابه: “ثورات المصريين حتى عصر المقريزي”.

**

تجربة المصريين الطويلة مع حكامهم أثبتت لهم أن الثورة هي طريقهم الوحيد لتغيير أحوالهم، حيث سبل الإصلاح دائمًا مسدودة، ليس أمامهم غير طريق الثورة، وسيلةً وحيدةً للتخلص من القهر والظلم والاستغلال والاستبداد والفساد.

الشعوب لا تخطط للقيام بثورات، ولكنها تُدفع إليها، فلا يصح أن نلوم شعبًا ثار لكرامته، وانتفض ضد المظالم، بل كيف نلوم شعبًا يتطلع إلى تغيير أحواله التي يُسيرها حكامه من سيئ إلى أسوأ على الدوام.

لم تكن ثورة يناير علاجًا خاطئًا لتشخيص خاطئ، بل كانت ضرورة فرضتها كرامة الشعب الذي وجد نفسه تحت وطأة نظامٍ تعامل مع مصر على أنها عزبة موروثة، ومع المصريين على أنهم رعايا لا مواطنين.

**

ثورة يناير لها ألف سبب وسبب، لم تسع إليها الملايين التي ملأت الميادين، بل دفعتهم السلطة إليها دفعًا، لم تتورع سلطة التمديد والتوريث عن اقتراف كل الجرائم في حق الشعب، من الإفقار إلى الإذلال وإهدار الكرامة، ومن تكريس الاستبداد وصيانته، إلى نشر الفساد ورعايته.

والأسوأ أنهم كانوا يتصرفون في شؤون مصر على هواهم، يفعلون فيها كل ما يحلو لهم، من دون حسيب ولا رقيب، ليس لهم همٌّ غير استمرارهم في الحكم، عبر التمديد للأب أو التوريث للنجل.

كيف يستقيم أن نعطي الحاكم الحق في التشبث بالكرسي والحكم، وننزع من الشعوب حقها في التشبث بالحرية والكرامة.

لم يكن أمام المصريين أي فرجة من الأمل في التغيير، فقد سُدت كل منافذه، في الوقت الذي ظلت أحوالهم تزداد سوءًا فوق سوء، وليس هناك أسوأ من فقدان الأمل سببًا للانفجار.

**

يثور المصريون دائمًا حين يفيض بهم الكيل، وللأسف فإن كل ثورة خاض غمارها الشعب المصري انتهت إلى نصف ثورة، أو ثورة منقوصة، وكثيرًا ما كانت القوى المضادة للتغيير تتمكن من الانقلاب على ما حققته الثورة والسير عكس الاتجاه الذي سعت إليه.

من أدق العبارات التي قدمت تلخيصًا دقيقًا لما جرى في مصر على مدار القرنين الماضيين ما قاله الدكتور غالي شكري من أن “تاريخ الثورة المضادة في مصر هو تاريخ الثورة نفسها”.

من داخل كل ثورة ومن خارجها كانت تنمو عوامل الارتداد ضدها، وتتعاظم عوامل الانقضاض عليها.

الأمر ليس مقصورًا على ثورة يناير، ستجده ممتدًا في كل مرحلة، من أول الثورة العرابية ضد الخديوي توفيق 1882، ثم ثورة مارس 1919 بقيادة سعد زغلول ضد الإنجليز، وبعدها ثورة يوليو 1952، ثم انتفاضة يناير 1977 وأخيرًا ثورة يناير 2011، هي مراحل الثورة المصرية، وكل واحدة منها تمثل محطة من محطات النضال الوطني من أجل الاستقلال والتحرر والتنمية، والتحديث.

**

واجهت ثورات المصريين القهر الأجنبي ثم الاحتلال الإنجليزي الذي وجه الضربة الأولى لمسيرة الانعتاق الوطني عند أواخر القرن التاسع عشر، كما ظلت على الدوام تواجه استبدادًا داخليًا طوال حكم أسرة محمد علي، ويكفي أن نعلم أن حزب الوفد أكبر تجسيد تنظيمي لثورة 1919 لم يحكم أكثر من سبع سنوات ونصف طيلة ثلاثين سنة تبدأ بدستور 1923 أهم إنجازات الثورة.

لم تحكم الثورة بعد واحدة من أضخم هبات المصريين في العصر الحديث، ولم تُترك لها فرصة أن تكتمل وتحقق وعودها المجهضة.

**

الأسوأ من كل تلك المواجهات هو ما شهدته ثورات المصريين من انقسامات، انقسمت الثورة العرابية من داخلها، وشهد حزب سعد زغلول انقسامات تحولت إلى أقليات، وانشقت عنه شخصيات قيادية في مراحل متتابعة.

وفي ثورة يوليو كان طبيعيًا أن ينتهي عدم التجانس بين قياداتها التي توزعت بين اليمين واليسار والإخوان المسلمين، إلى انقسامها إلى عهدين:

ـ عهد وعى أن الاستقلال الوطني يتحقق عبر شرطيه المتمثلين في التحرر والتنمية أي تحقيق الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي.

ـ وعهد وضع كل أوراق القرار الوطني في صندوق التبعية ووضع القرار الاقتصادي في أيدي خبراء البنك والصندوق الدوليين.

كان العهد الأول قصيرًا انتهى في 1974، واستمر العهد الثاني منذ ذلك الوقت إلى يومنا.

قاد عبد الناصر العهد الأول، عهد الثورة، ووضع السادات أسس العهد الثاني، عصر الثورة المضادة، وكلاهما من رجال ثورة يوليو، عبرا عن تداخل ثنائية الثورة والثورة المضادة.

وكانت تلك مأساتنا الكبرى المستمرة.

**

دائمًا كانت الثورة والثورة المضادة متجاورتين متداخلتين ومتقاطعتين ومتصارعتين، كأنهما ظاهرة واحدة مركبة، وتاريخ مصر المعاصر شاهد على ذلك.

يناير ليست بدعة من الثورات المصرية، بل هي صورة مُحدَّثة من حلقات الثورة المتتابعة، كلها شهدت النهوض والانتكاس، كأن تاريخنا الحديث هو نتاج تفاعل هذه الثنائية، الثورة والثورة المضادة، بين النهضة والانتكاس، بين التقدم والردة إلى الخلف.

وظني أن سؤال الفشل لا يجب طرحه في مواجهة ثورة يناير، لأن الإجابة الوحيدة الأكثر إقناعًا تؤكد أن ثورة يناير لم تفشل، بل لم تكتمل.

الثورة الناقصة أسوأ في نتائجها من الثورة الفاشلة، ونقصان ثورة يناير يتمثل في غياب المشروع، وغياب البديل الجاهز، ولعدم بروز قيادة مؤهلة لقيادة التغيير، وعجز قوى الثورة عن توفير أيًا من هذه الشروط اللازمة لنجاح الثورة واستمرارها.

يناير الناقصة سببها الرئيسي هو فشل كل المراحل الانتقالية التي مرت بها مسيرة الثورة في المضي باتجاه تحقيق أهداف الثورة، بل كانت كلها سيرًا في الطريق العكسي.

**

مسيرة الثورة الأحدث في تاريخ ثورات المصريين تعرجت بها السبل بين روح يناير وأخطاء فبراير وما بعده، كان أعظم ما في 25 يناير تلك الروح التي ابتعثتها، روح ارفع راسك فوق أنت مصري، إحساسك بالفخر أنك مصري، تلك هي الروح التي ظلوا وما يزالون يحاولون إزهاقها.

استطاعت تلك الروح أن تسقط الجزء الظاهر من الجدار، ولم يسقط أساسه، وساعدت أخطاء فبراير في أن يعيد الأساس بناء الجدار مجددًا.

لم تصمد روح يناير في مواجهة ألاعيب ما تبقى من نظام مبارك، الذي ضحى بالرأس وراح يحافظ بكل قوته وعنفوانه ومؤامراته على الجسد.

لم يكن أسوأ ما ارتكبه الثوار في فبراير وما بعده من أخطاء إلا تكرار الأخطاء نفسها، والأسباب كثيرة.

قلة الخبرة سبب، وغياب التنظيم الجامع لقوى الثورة سبب آخر، والفرح بغنيمة الإياب من دون أن تحرز نصرًا حاسمًا، والوقوع بسهولة شديدة وتساهل مفرط في شباك الخداع التي نصبت حول الثورة والثوار وشارك فيها الإعلام وبعض القوى بنصيب كبير.

كل هذه أسباب أدت لما انتهت إليه الأمور على ما نراه ونعيشه اليوم في الذكرى الثانية عشرة لواحدة من أنبل ثورات المصريين.

**

قامت الثورة بدون تنظيم سياسي قادر على قيادة مرحلة إسقاط النظام القديم وتثبيت أركان النظام الجديد، ولذلك كان لزامًا على قوى الثورة أن تتوجه بكل إخلاص وتصميم إلى التكتل وراء تحقيق أهداف الثورة وتشكيل جبهة وطنية موحدة خيارها الوحيد هو بناء دولة جديدة ديمقراطية ومدنية وحديثة.

افتقدت الثورة رؤية واضحة ومحل اتفاق حول النظام الجديد بعد مبارك، عكس ما جرى قبل 25 يناير حيث اتفق الجميع (قوى سياسية وحركات احتجاجية وجماعات فئوية) على رؤية واحدة جمعت بينهم ودفعت بهم إلى الميادين، أما في فبراير فتعددت الرؤى، وتناقضت، وتقاطعت، ولم يعد هناك رؤية جامعة يمكن التوافق عليها لمرحلة ما بعد إسقاط الرئيس.

تعددت الرؤى وتناقضت وضاقت الرؤية على مقاس أصحابها، ولم تطرح رؤية جامعة بمقياس المصلحة الوطنية العامة.

كان برنامج الإسقاط متفقًا عليه، وظل برنامج الإقامة مختلفا حوله.

**

والغريب والمخجل أن أكثر من استثمروا في الحالة الثورية هم الأشد عداوة للثورة، وهم أصحاب المصلحة في إعادة صياغة النظام بعيدًا عن مشروع التوريث، بما يكفل استمرار السياسات نفسها التي كانت تشكل جوهر نظام كانوا جزءًا أصيلًا منه.

استخدمت الحالة الثورية نفسها في تحجيم الثورة، وحرفها عن مسارها الطبيعي، وإدخالها في صراعات شتى، والدفع بثوارها إلى التقاسم والتشرذم ومحاربة طواحين الهواء بدلًا من استهداف أعداء الثورة وخصومها.

استطاعت نخبة النظام القديم أن تتخلص من أثقال كان مشروع التوريث قد حمَّلها للدولة وكادت تطيح بالنظام كله، وحافظت على وحدتها، وتمكنت من الحيلولة دون وجود انشقاق كبير في نخبة السلطة، وهو شرط مهم لسقوط النظام السلطوي، على الجانب الآخر لم تستطع قوى الثورة أن تتوحد على هدف الانتقال إلى نظام جديد ديمقراطي وتعددي، وفقدت الثورة شرطًا رئيسيًا لنجاحها.

ولا يمكن إغفال الدور الكبير والمؤثر الذي لعبته دول عربية وإقليمية معادية للثورة، ورافضة لأي تغيير حقيقي في مصر ربما يتسبب في زعزعة الأوضاع المستقرة في المنطقة العربية برمتها، وقد ضخت أموالًا هائلة في صناعة إعلام منهاض ومتناقض مع الثورة ومعادٍ للثوار.

**

أي نظرة موضوعية ومدققة على بعد 12 سنة إلى مجريات الحوادث من 25 يناير 2011 إلى 30 يونيو 2013 تعطينا نتيجة أولية لا يمكن إنكارها تتلخص في أننا كنا أمام إمكانية لأن تسير الأمور بشكل أفضل لو تصرفت القوى الثورية والأحزاب والقوى السياسية على نحو مختلف، ولو أن نخبة النظام القديم تصرفت بشكل مختلف.

كان مطلوبًا أن تكون قوى الثورة والتغيير أكثر خبرة وحنكة، كما كان مأمولًا أن تكون قوى النظام القديم أكثر صدقًا ونزاهة.

وهما فرضان لم يكن الواقع المتحرك والمعقد يسمح بتوافرهما، كانت قوى الثورة أقل نضجًا مما يجب، وكانت قوى الثورة المضادة أشرس مما يُتوقع.

المسئولية عن النتائج التي وصلنا إليها هي في الحقيقة مسئولية مشتركة –للأسف- بين قوى التغيير، وبين قوى تثبيت النظام القديم.

**

لم تدرك قوى الثورة طبيعة وخصائص مرحلة الانتقال إلى نظام ديموقراطي بعد عقود طويلة من استقرار واستمرار النظام الاستبدادي الفردي.

كان الهدف المنطقي الذي يجب أن تتوجه إليه قوى التغيير وقتها أن تتوافق على أسس النظام الجديد.

لم يكن ممكنًا الانتقال إلى نظام ديمقراطي إلا عبر عمليتين متداخلتين ومتكاملتين تبدأ بتكريس عناصر النظام الجديد، ولا تنتهي إلا بتقليص عناصر النظام القديم.

الهروب إلى “الغنائم” قبل إحراز النصر النهائي على نظام ظل يحتفظ بالسلطة في يديه، كانت تلك هي اللحظة التي قصمت ظهر الثورة، وانقسمت من حولها قواها، وتشتت واختلفت وتصارعت حتى سقطت كغنيمة كبرى في يد قوى النظام القديم قبل أن تبزغ شمس النظام الجديد.

تحركت قوى النظام القديم بذكاء وخبرة بدأت باحتواء الثوار وانتهت بإخماد جذوة الثورة، وكانت تلك هي وقائع المأساة التي تحولت بالنهاية إلى ملهاة محزنة.

أما عن دور الإخوان في انتكاس الثورة فذلك حديث يطول سرده، ويجب التوقف عنده.

**

مراجعات يناير ضرورة لكيلا تتحول الثورة إلى ذكرى ذات شجون، لا قيمة لها في الحاضر، ولا قيامة لها في المستقبل.

هذه المراجعات يجب أن تنصب على معرفة ما جرى في مصر، وما جرى لها طوال العقد الماضي، ولماذا؟، ومقصد المراجعات الأساسي يتلخص في استخلاص الدروس والعبر.

مراجعات الثورة بتعدد أطرافها وتباين توجهات المشاركين فيها، تحتاج بالضرورة إلى جهود جماعية، ودراسات منهجية، وورش نقاش جدية، ولا يكفي لها مقالة مهما طالت، أو دراسة مهما تعمقت، فالثورة حدث كبير، وما حققته لا يستهان به، وهي رغم كبوتها مرشحة للنهوض من جديد.

السؤال المركزي في هذه المراجعات عن ثنائية الثورة والإصلاح في دولة مثل مصر بكل تعقيداتها وبتاريخها الطويل الذي يتقلب بين ثورات ناقصة، ونجاحات بطيئة، وإنجازات مبتورة.

ولماذا جاءت الثورة من خارج السياق السياسي القائم قبلها، ولماذا كان سهلًا على جماعة محظورة أن تملأ الفراغ وتختطف الثورة؟

مراجعات يناير لابد لها أن تجيب على السؤال الملح الآن أكثر من أي وقت مضى: سؤال البديل، ولماذا فشلت قوى المعارضة السياسية في تقديم بديل لنظام كانت صلاحيته قد انتهت قبل الثورة بعقد من الزمان على الأقل.

مراجعات الثورة بكل صدق وأمانة هي وحدها التي يمكن أن تستعيد روح يناير وتتجاوز أخطاء فبراير.

**