يحمل يوم 25 يناير عددا من المشاعر المتضاربة داخل نفوس كل من شارك في الثورة، تختلط الأفكار وتتلاحق الذكريات، يعيش رواد الميدان يومهم بين الفخر بالإنجاز الأبرز في حياتهم، وبين الإحباط على ضياع الفرصة وانسحاق الأمل، تمر الذكرى ويزيل الرماد من فوق جذوة لازالت مشتعلة في النفوس، يظن كل منها أن نار الثورة قد انطفأت بداخله ولم يعد يهتم لما حدث أو قد يحدث، ثم تأتي الذكرى لتعيد لهيب الحزن الممزوج بالفخر والأمل من جديد.

اقرأ أيضا.. أسئلة يناير

وحده الحماس هو ما فقده الجميع، الحماس للمشاركة في الشأن العام وأحيانا مجرد المتابعة، المبادرة والاقدام واغفال العواقب، والمثالية الشديدة التي جعلت من جمهور الثورة يحمل روحه بين كفيه في مواجهة نظام مبارك الذي ظل في السلطة 30 عاما.

انفجرت ينابيع من الطاقة الإيجابية داخل ميادين الثورة، ارتوى الملايين من تلك الينابيع وأمنوا بقدرتهم على تغيير واقعهم، شعروا للمرة الأولى بالمعنى الحقيقي للمواطنة، امتلأت الميادين بمشاعر محبة حقيقية للوطن.

بدأ الثوار حملة من النظافة بعد رحيل مبارك، بدأت بمعناها الحرفي عبر تنظيف وتلوين ميدان التحرير، ثم امتدت الى التنظيف المعنوي عبر معارك داخل المؤسسات مع رموز الفساد والمحسوبية داخلها، حمل رواد الميدان هم تطهير الدولة من شبكات المصالح التي كانت تعمل لصالح ذوي السلطة والنفوذ على حساب الشعب، ولكن شبكات المصالح كانت أقوى لتنتهي مهمة التطهير إلى عودة الأمور إلى سابق عهدها وربما أسوأ.

حاول الإخوان استغلال الطاقة الايجابية التي خلفتها الثورة في دعم سلطتهم، واستبدال المسئولين داخل الدولة بموالين للجماعة سواء من داخل التنظيم، أو ممن يقومون بخدمة أي حاكم طمعا في الترقي، ولكن تلك الطاقة انقلبت ضدهم بعد أن استعادت الثورة زمام المبادرة في مواجهة الجماعة.

منذ يوليو 2013 وحتى الآن لازال النظام الحاكم والدولة من خلفه يبحثون عن مصدر للطاقة الإيجابية يكفي الشعب المصري، مصدر يمنح المصريين الدافع لبذل الجهد والعرق في سبيل الوطن، ويمنحهم درعا في مواجهة الظروف الصعبة والأوقات المؤلمة، سواء في مواجهة الإرهاب، أو لمواجهة آثار الأزمة الاقتصادية الحالية على حياتهم.

لازالت الدولة عاجزة عن إيجاد ذلك المصدر حتى الآن، فشلت جميع محاولات صناعة الاحتفالات عبر مكبرات الصوت والموسيقى وعدد من المدفوعين للنزول، واقتصرت تلك الاحتفالات التي لم تعد تجذب أحدا على مواسم الانتخابات، كما حاولت الدولة زرع الإيجابية عبر إعلام تعبوي يتحدث دائما وأبدا عن الإنجازات والمشروعات.

فشلت الدولة في محاولتها أيضا، فكانت الحجة أن السبب في تراجع الطاقة الإيجابية لدى المصريين هو “المشككين”، ممن يتربصون بالدولة ويشككون في جدوى المشاريع، يبحثون عن مواطن القصور والخطأ وينشروه بين العامة، ومن هنا جاءت فكرة القبض على الآلاف بتهمة إذاعة الأخبار الكاذبة، ونشر المناخ التشاؤمي.

ولكن كان الواقع أقوى من الخطاب الإعلامي، وكانت التجربة أوسع انتشارا وأكثر تأثيرا من الخبر، فلم يعد المشككون خطرا على النظام، بعد أن توقف أغلبهم عن النشر خوفا من السجن، وفي الحقيقة لم يعد للكلام أو حتى التحريض أهمية، بعد أن عاش الجميع تجربة التضخم وارتفاع الأسعار.

مستويات الطاقة السلبية داخل المجتمع باتت تنذر بالخطر، المصريون لا ينتظرون ضوءا في آخر النفق ولا يعولون على مخلص، فقط يلقون مصيرهم في صمت، يحاولون النجاة من الحاضر عبر ضغط نفقاتهم والاستدانة، بينما تنخلع قلوبهم عند التفكير في المستقبل واحتمالات زيادة حدة الأزمة.

وحدها الإفراجات هي الأخبار السعيدة في حياة الشعب المصري حاليا، فرحة صادقة من القلب تظهر عند ظهور صورة لأحد المحبوسين بين أهله وأحبابه، حتى أكثر اليائسين والمتشائمين تنتابه السعادة ويحدوه الأمل، تختفي تلك الفرحة تدريجيا مع تذكر أن ثمة آخرين لايزالون في السجون ولكن يظل الأمل في قرب الفرج.

لم يعد الخطاب الإعلامي عن الإنجازات، وحفلات افتتاح المشروعات، والوعود بمرور الأزمة وتحسن الأحوال القريب، قادرا على أن يصل إلى قلب المواطنين، الواقع أكثر قسوة والظروف صعبة، وتكرار استخدام هذه الأدوات أفقدها مصداقيتها وتأثيرها.

فكرت مليا خلال الأيام الماضية في القرار الذي يمكن أن تقدم عليه السلطة الحالية، بهدف إعادة البسمة لوجوه الملايين، وتخفيف وطأة الأزمة التي يعيشها أغلب المصريين بسبب ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة الجنيه، لم أجد قرارا من الممكن أن يحدث ذلك الأثر إلا “العفو العام” عن الآلاف من السجناء السياسيين، عفوا يتضمن المحبوسين احتياطيا على ذمة قضايا لن تتم إحالتها للمحاكمة، والمحكومين ممن قضوا سنوات في السجون -سوف تصل خلال شهور إلى عشر سنوات بالنسبة لأحمد دومة على سبيل المثال– وحده هذا القرار هو ما يمكن أن يمنح مصر ساعات من السعادة وجرعة أمل.