أُفضل الاحتفال بذكرى الغياب، فهي الأوقَع والأوجَع والأحَق باعتبارها ذكرى تمام الأثر وذروة الأعمال وقد آلت إلى انقطاعٍ حيث لا شيء بعد ذلك يُضَاف. والاحتفال عندى يتجاوز تلاوة مرثيات الغياب، التى يتلاشى خبرها مع انقضائها، إلى ما هو دائم ومستمر بحُكم تَجلي الأثر، حيث الحكايات التى يحملها المحبون في صدورهم لتنتقل معهم عبر المكان والزمان فى تراكُمٍ عَلَّه يُكمِل الأحلام بما تستحق.

مدفوعًا بتلك القناعة، تَعمدتُ ألا أحكي عن صاحب الأثر العظيم يوم ميلاده في الثالث من يناير، إلا أنني لم أستطع الانتظار حتى تاريخ الغياب، وها أنا ذا أفعل الآن. صحيحةٌ هي مقولة أن التاريخ يكتبه المُنتصرون لكنها في رأيي مقولة منقوصة، “فالكتابة” تصبح فِعلًا غير مُكتملٍ -وربما بلا فائدة- إن لم تُتِمُه “قراءةٌ” تُميز سمينَ “الكتابة” من الغَث. وبمرور الزمن ومع تطور مناهج البحث، يتعمق فِعل “القراءة” لتتضح الحقائق ناصعة في حياد تاريخي وإن تأخر بيانها والدروس.

كانت تلك هي بدايتي مع قراءةٍ لتاريخ صاحب الأثر العظيم “يوسف صديق” الذي أكتفى بأن أسرد للقارئ الكريم في هذا المقال ثلاث حكايات فقط من قَبس نُورِه أو أثره المُمتد الذى سعى البعض في طَمسه وبذل البعض الآخر جهدًا فى إعادة صياغته.

الحكاية الأولى: لسنا أوغادًا

“بعد اقتحامك لمقر القيادة العامة ليلة 23 يوليو 1952 وإلقاءك القبض على كل قيادات الجيش وعلى رأسهم الفريق “حسين فريد” رئيس الأركان الذي كلفه القصر بالترتيب لإحباط حركة الضباط الأحرار، وبعدما تحفظ رجالك على “جمال عبد الناصر” و”عبد الحكيم عامر” اللذين كانا يتابعان تحركات قوات الحركة في الشوارع وقد اقتربا من مقر القيادة العامة حيث كانت التعليمات تقضي بالتحفظ على أي ضابط يفوق في رتبته “البكباشي” إلى أن تتضح هويته، ألم يدُر بخلدك وقد صار القادة جميعًا (الموالون للقصر وزعيم الضباط الأحرار) تحت امرتك أن تستأثر أنت بالحكم مُنفردًا بعدما تأكد نجاح الحركة؟”، كان هذا سؤالًا طرحه عليه المرحوم الدكتور “رفعت السعيد” في لقاءٍ جمعهما في ستينات القرن الماضى ونشره الدكتور “السعيد” بمجلة اليسار في إبريل 1991، رَمَقَهُ “يوسف صديق” بنظرةِ شفقةٍ أعَقبها بعِبارةٍ من كلمتين: “لسنا أوغادًا”.

الحكاية الثانية: الوطن أولا

عَانَى “يوسف صديق” بعد نجاح حركة الضباط الأحرار معاناةً بالغةً ما بين اعتقالٍ ونفيٍ وتحديدٍ للإقامة وضيقٍ في المعايش وإقصاءٍ مرير، إلا أن تلك المعاناة لم تفقده يومًا إيمانه بدوره تجاه الوطن وبما ينبغي عليه القيام به وقت الأزمات الكبرى دون انتظارٍ للنداء ودون أية حسابات، فالوطن عند “يوسف صديق” يأتي أولًا حيث لا مجال حتى لعتاب المرارات حين يكون الوطن في خطر محدق.

مع أولى أيام العدوان الثلاثي على مصر في 1956، وفي الوقت الذي طلب فيه أحد قيادات مجلس الثورة من الرئيس “جمال عبد الناصر” أن يقوم بتسليم نفسه للسفارة البريطانية وإعلان الاستسلام، قام “يوسف صديق” المغضوب عليه والمُحَدَدَةُ إقامته بمنزله تحت حراسة مُشدَدَة بعكس ذلك تمامًا. استيقظ “يوسف صديق” من نومه، فاستمع إلى خبر العدوان بنشرة الأخبار في الراديو، ثم ارتدى زيه العسكري الكامل وخرج من المنزل كَاسِرًا تحديد الإقامة داعيًا لتنظيم الصفوف ومُتخذًا من أحد مدارس الحي مقرًا للمقاومة الشعبية في موقف وطني نبيل دفع بالرئيس “جمال عبد الناصر” حينها إلى إلغاء تحديد إقامة “يوسف صديق” وتخفيف القيود عنه بقدرٍ ما.

الحكاية الثالثة: لا يقبل منحة من أحد

يروي المرحوم الأستاذ “لطفى واكد”* في مقال له نُشِر بجريدة الأهالي في مارس 1991 أنه حين كان يرأس تحرير جريدة الشعب في 1957، هاتَفَه المرحوم الرئيس “جمال عبد الناصر” وكَلَفَه أن يتواصل مع الرجل الذي كان يمر بضائقة مالية وقتذاك للاتفاق معه على كتابة بعض المقالات في الجريدة مقابل أجر معقول شريطة أن تُعرَض على الرئيس قبل نشرها.

قام الأستاذ ” واكد” بنشر بعض مقالات الرجل لكن تعثر النشر بعد ذلك لأسبابٍ لا دخل للأستاذ “واكد” فيها حسب روايته. يقول الأستاذ “واكد” إن الرجل كان يحضر لمقر الجريدة للشجار معه متصورًا أنه المسئول عن تعطيل النشر، وكان الأستاذ “واكد” يحرص على إخفاء الحقيقة التي ما إن بدأ الرجل في تبيُنها إلا وقد امتنع عن تقاضي راتبه الذي كان في أمس الحاجة إليه. بذل الأستاذ “واكد” رحمه الله جهدًا في محاولة إقناعه بأن تأخير النشر أمر وارد، وأنه لا علاقة لذلك بحقوقه المادية فألحَ عليه وازداد هو تعنتًا ليزداد إعجاب الأستاذ “واكد” به -حسب تعبيره- بعدما قال الرجل كلمته الأخيرة: “يجب أن تعلم ويعلم سواك أن يوسف صديق لن يقبل منحة من أحد”.

تلك كانت ثلاثٌ من عشراتِ حكاياتِ النُبل والشهامةِ أعرفها عن الرجل الذى لم تفلح محاولات طمس أثره عبر سنين طوال، لينال تكريمًا مُستحقًا بعد ثلاثة وأربعين عامًا من الغياب حين ردت القيادة السياسية له حقه في 2018 بمنحه قلادة النيل، فأثر الضميرِ الطيبِ سرمديٌ لا يزول ولا يُزَال كضوء الشمس الذي قد تحجبه سحابة لبعض الوقت لا يلبث بعدها إلا وقد انقشع ساطعًا، أو كما قال سيدنا ومولانا “فؤاد حداد”: “يَستحيل إن كُنت ماشي في نْور، إن ضِلَّك يتمِحِى بالغَصّبْ”.

*أحد الضباط الأحرار، شغل منصب مدير مكتب الرئيس “جمال عبد الناصر”، وكان نائبًا لرئيس حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي.