من المسلمات في الفكر السياسي أن الشرعية السياسية تختلف عن الشرعية الدستورية، وإن كان الوضع الأمثل هو تطابق الشرعيتين.. لذا ابتكر الأدب السياسي الأمريكي مصطلح “البطة العرجاء” لوصف حالة التمتع بالشرعية الدستورية مع فقدان أو نقصان الشرعية السياسية. وذلك عندما يفقد ساكن البيت الأبيض قدرًا كبيرًا من الرضا، لسبب جوهري. ومن أمثلة هذه الحالة انهيار شرعية الرئيس جيمي كارتر السياسية، بسبب فشله دبلوماسيا أولا. ثم فشل العملية العسكرية لتحرير رهائن سفارته في طهران ثانيًا، وحالة الرئيس رونالد ريجان بعد كشف ما عرف وقتها بفضيحة إيران-كونترا-جيت، والتي تمثلت في تورط إدارته في تهريب مخدرات للداخل الأمريكي، وتهريب أسلحة إلى إيران، واستخدام العائد في تمويل مقاتلين موالين لواشنطن في نيكاراجوا.

ومن تلك الأمثلة كذلك حالة الرئيس جورج بوش الابن، عندما أدى انكشاف أكاذيبه وإرهاب رجاله للمعارضين لغزو العراق إلى هزيمة فاضحة لحزبه في الانتخابات النصفية التالية للكونجرس عام 2006.

ولذا أيضًا شاع استعمال مصطلح البطة العرجاء في جميع دول العالم الديمقراطية، لوصف حالة انخفاض أو تبدد التأييد الشعبي للسلطة، مع احترام حقها الدستوري في استكمال فترتها القانونية. ويبقي المدلول الأهم هو أنه إذا كانت الشرعية الدستورية ثابتة ومحصنة، فإن الشرعية السياسية تزيد وتنقص، وتتجدد أو تتبدد، وفقا لتفاعلات الرأي العام مع السياسات المطبقة، أو حكم أغلبية المواطنين عليها بالنجاح أو الفشل، لتأتي الانتخابات التالية فتسد الهوة بين الشرعيتين.

أما في الدول غير الديمقراطية، فإن مشكلة التفاوت بين الشرعية الدستورية والشرعية السياسية غالبًا ما تكون شديدة التعقيد وشديدة الخطورة، والسبب هو حرمان المجتمع من الوسيلة السلمية الوحيدة لفض الاشتباك، والتي هي الانتخابات العامة، فضلًا عن حرمانه من معظم أشكال التعبير الحر عن رأيه، أو رأي غالبية مكوناته في السياسات المطبقة، كالتظاهر، أو اقتراح البدائل في إطار مؤسسي من أول الالتماسات الموقعة من المواطنين وفقًا لنصاب يحدده القانون، حتى المشروعات التي تطرح للاستفتاء الشعبي، وأخيرًا سحب الثقة في إطار البرلمانات، أو التعبير من خلال الصحافة والإعلام إلخ.

هنا، تختلف ردود فعل السلطات الديكتاتورية من مكان لآخر، ومن تجربة لأخرى، ومن زمان إلى زمان تال، فهناك أمثلة للمراجعة والتراجع، كمحاولة لتجديد الشرعية السياسية، أو على الأقل لوقف النزيف المستمر من رصيدها. فعلى سبيل المثال، راجعت الديكتاتورية الصينية مؤخرًا سياساتها وتراجعت أكثر من مرة. فقد ألغت مثلًا سياسة الطفل الواحد القسرية، لخفض عدد السكان، وتحقيق الانطلاقة التنموية. وذلك عندما بدأت آثارها الاجتماعية المدمرة في الظهور.

كما تراجعت سلطات بكين مؤخرًا عن سياسة صفر-كوفيد، بعد أن أدت إلى تراجع كبير في معدلات النشاط والنمو الاقتصاديين، وبعد أن ظهرت بوادر تمرد شعبي ضدها. ومن قبل كانت القيادة الصينية قد تراجعت عن إسناد مهمة قيادة التنمية الاقتصادية إلى الجيش، عندما ثبت أن التجربة لم تحقق أي نجاح يذكر.

ويمكن أيضًا أن يعتبر تخفيف الرقابة على ملابس النساء، والحد من سلطة ما يسمي بشرطة الأخلاق في إيران مثلا للمراجعة والتراجع أمام الضغوط الشعبية، حفاظا على ما تبقى من الشرعية السياسية لنظام الحكم. وإن كان كل ذلك غير كاف، ليس لأنه لا يغير من طبيعة النظام الاستبدادية، فهذا له شروط لم تتوافر بعد، ولكن لأنه تراجع هزيل لايتناسب مع حجم الضغوط الشعبية، ولا مع حجم التضحيات التي قدمها المحتجون.

وفي تاريخ مصر السياسي وباختلاف طبعات ديكتاتورية نظام يوليو 1952 تكررت محاولات المراجعة أو تجديد الشرعية السياسية، وأبرزها علي الإطلاق إقرار جمال عبد الناصر بمسئوليته الكاملة عن هزيمة 1967، وإعلانه التنحي عن منصبه تبعًا لذلك، فكان هذا الاعتراف مقرونًا بالمغادرة سببًا في تجديد شرعيته السياسية بخروج الجماهير تطالبه بالبقاء، وإزالة آثار العدوان، وذلك بغض النظر عن الجدل اللاحق حول ما إذا كانت تلك التظاهرات مدبرة أم تلقائية، وحول ما إذا كان واجبًا وممكنًا تغيير النظام كلية أم لا.

ثم كان بيان 30 مارس الذي أصدره عبد الناصر بعد عامين من الهزيمة -كاستجابة لمطالب المظاهرات والاحتجاجات الطلابية والعمالية بالتصحيح وإلغاء القوانين المقيدة للحريات- هو أيضًا تراجعًا ومراجعة، ومن أمثلة التراجع استجابة للاحتجاجات إلغاء الرئيس السادات قرارات رفع الأسعار عقب مظاهرات الطعام في يناير 1977.

وأما أبرز محاولات تجديد الشرعية السياسية في تاريخ مصر القريب، فكانت تعديل طريقة اختيار رئيس الجمهورية من الاستفتاء علي مرشح واحد يسميه البرلمان، إلي الانتخابات التعددية التنافسية عام 2005. ولولا أن هذه الخطوة المهمة اقترنت بمشروع توريث الحكم -على النحو الذي لا يحتاج إلى شرح- لكان هذا التحول قد أفضى إلى نتائج بالغة الأهمية لدعم الشرعية السياسية للحكم، و جسر الهوة الواسعة بينها وبين الشرعية الدستورية. خاصة لو كانت قد أسفرت عن تغيير سلمي في رأس السلطة، بمنأى عن خطة التوريث المشئومة.

لكن هناك تجارب أخرى اختارت الديكتاتوريات فيها ألا تراجع أو تتراجع، إما اعتمادًا على القبضة الحديدية، وإما باستراتيجيات الإنكار والدعاية، وانتحال الذرائع من أول الأقدار والمؤامرات الخارجية والداخلية، إلى التغييرات الشكلية للأشخاص الثانويين في تركيبة السلطة، ثم تجميد وإدارة الأزمات كسبًا للوقت ليس إلا، وإما بالمغامرات، والهروب إلى الأمام.

وقد حدث شيء من ذلك في تاريخنا المصري أيضًا، والمثال الأوضح هنا هو ما ظل يفعله الملك فاروق منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحتى استيلاء ضباط يوليو على السلطة وطرده خارج البلاد، ثم إسقاط النظام الملكي برمته، فمن أزمة إلى أخرى حتى حريق القاهرة استنزف فاروق كل رصيده السياسي.. كما كان إقدام حكومة الوفد على إلغاء معاهدة 1936 مع بريطانيا من طرف واحد، ورعايتها لحركة الفدائيين ضد القاعدة البريطانية محاولة لتجديد الشرعية السياسية للقيادة الوفدية، ولكن بأسلوب المغامرة والهروب الأمام، وكان كل ذلك بعد فوات الأوان.

ومع ذلك، فإن هذه التجارب المصرية في التحايل لتجديد الشرعية السياسية أو الاحتفاظ بما تبقى منها بالمناورات والتجميد، أو بالإلهاء والمغامرة وأحاديث المؤامرة، أو باختراع الذرائع تعد أهون كثيرًا من حالات صدام حسين في العراق مثلًا، أو القذافي في ليبيا، أو جنرالات الجزائر في العشرية السوداء، بل وأهون كثيرًا جدًا من ثورة ماوتسي تونج الثقافية البروليتارية العظمي في الصين، التي أشعلها الرجل لاستعادة قبضته على السلطة، وبمعنى آخر استعادة ما فقد من رصيد شرعيته السياسية بعد الفشل الفاجع لمبادرة القفزة الكبريى إلى الأمام، والتي كانت تستهدف تحقيق دفعة تنموية كبرى، فأسفرت عن تدهور إنتاجي شامل وبؤس ومجاعات، ومن ثم وفيات بالملايين، خاصة في الريف الصيني. ولكن ماو هو نفسه الذي عاد وأطفأ نيران تلك الثورة الثقافية المزعومة، كما أن سوابق حكامنا في هذه الأساليب أهون أيضًا من الممارسات السوفيتية في الحقبة الستالينية علي وجه الخصوص.

على أية حال، فإن المقارنة بين درس التراجع والمراجعة والتصحيح في الصين، ودرس الإنكار والتجميد في الاتحاد السوفيتي هي ما يوضح لنا السبب الأهم في نجاح النظام الصيني في تجديد شرعيته السياسية، وذلك من خلال شرعية الإنجاز، الذي بوأ الدولة مكانتها العالمية الحالية. وهو ما يوضح لنا سبب انهيار النظام السوفيتي كأنقاض متداعية، بعد قليل من محاولة التجديد والتغيير، تحت قيادة جورباتشوف، ولكن بعد فوات الأوان، إذ كان الجمود والمماطلة والإنكار قد أضاعوا كل أمل في  التحسن، وبالتالي في تجديد شرعية النظام السياسية.

من المفهوم أن الاستعراض السابق بكل محتوياته السردية والتحليلية هو تمهيد لطرح سؤال الشرعية السياسية مقابل الشرعية الدستورية في الحالة المصرية الراهنة.

فلا يجادل إلا القلة في أن الرئيس عبد الفتاح السيسي بدأ حكمه في ظل تطابق تام وفريد بين الشرعية الدستورية والشرعية السياسية، فكما سبق التنويه في مقال سابق كانت الغالبية الشعبية ترجوه الترشح لمنصب الرئاسة. وكانت هذه الغالبية تؤمن حقا بأنه مرشح الضرورة، وبمعنى آخر مرشح الإنقاذ الوطني الشامل، وكذلك تجاوبت معه تلك الأغلبية الكاسحة في كل قراراته السياسية والاقتصادية والأمنية، بما في ذلك تخفيض دعم السلع الضرورية، ورفع أسعار السلع الاستراتيجية، وإغلاق المجال السياسي، وتغليب الاعتبارات الأمنية علي حقوق الانسان… إلى آخر تلك القرارت والسياسات، بغض النظر عن تقييمنا الخاص أو تقييم غيرنا من المعنيين أو المتخصصين في الشأنين السياسي والاقتصادي، ممن يسمون بالنخبة، بل يمكن القول إن قطاعا لا يستهان به من هذه النخبة كان مؤيدًا على بياض للرجل، استنادًا إلى ما وصفوه هم أنفسهم بشرعية الإنجاز (على الطريقة الصينية التي سبقت الإشارة إليها).

الآن لا يجادل إلا القلة في أن شرعية الإنجاز أو الشرعية السياسية المستمدة منها قد تضررت بشدة، أو تبدد قدر كبير منها، بسبب سوء الإدارة الاقتصادية في المقام الأول، فحين تتدهور مستويات معيشة هذه الغالبية الساحقة التي رحبت بالنظام الجديد، ودافعت عنه بشراسة في البداية، وحين لا يقتنع المواطن العادي بكل المبررات المطروحة، ثم لا يقتنع أيضًا بوعود احتواء الأزمة والخروج منها قريبًا، وذلك في وقت تتدهور فيه أحوال الخدمات العامة أيضًا، بالرغم من قسوة الجبايات الحكومية، والاستمرار في بيع بعض أصول الدولة الاقتصادية، نقول حين يكون ذلك كذلك، فإن النظام يكون في حاجة ماسة إلى وقف نزيف شرعيته السياسية، ثم تجديدها، ليس فقط بالحديث عن الإنجازات السابقة، التي منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو محل خلاف واسع، ولكن بسياسات جديدة تدفع النمو، وتحسن الخدمات، وترفع مستويات المعيشة، وترعى الحقوق.

وهنا، نعود لتأكيد أن سؤال الشرعية الدستورية ليس هو المطروح، فهذه الشرعية الدستورية مكفولة بالنصوص وبقوة الأمر الواقع.

لا ننكر أنه جرت وتجري محاولات في سياق تجديد هذه الشرعية السياسية، منها وثيقة ملكية الدولة ومبادرة الحوار الوطني، والاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، ولكن بعضها غير كاف، وبعضها يحتاج إلى عودة الروح. كما أنه لا تزال هناك حاجة لمبادرات أخرى تعيد مناخ الثقة والتفاؤل، بحيث تقترب مصر خطوة وراء خطوة نحو تطبيع حياتها السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، وكما يقال فهنا يغني الإجمال عن التفصيل.