لا يجتمع اثنان في مصر إلا وكانت أزمات ارتفاع أسعار السلع والخدمات، وعدم كفاية الدخول وتراجع مستوى المعيشة والهبوط في مستنقع الفقر هي محور حديثهما، لا يتوقف الناس عن تكرار سؤال «وماذا بعد؟.. هل هناك نهاية لما نحن فيه؟»، وبعد أخذ ورد وبحث في أُسس الأزمات المتعاقبة ومَنشئها والمسئول عن تفاقمها تُختتم المناقشات عادة بدعاء «ربنا يستر»، فكل السناريوهات مخيفة والجميع يخشى من «القادم الأسوأ».

في الكلمة التي ألقها بمناسبة احتفالية عيد الشرطة الـ71، عاتب الرئيس عبد الفتاح السيسي وسائل الإعلام لأنها تصور الشعب وكأنه مرعوب على الطعام والشراب، «والله ما يصحش كده.. إنك تبين إن الشعب مرعوب على الأكل والشرب.. كأن الدنيا آخرها هو زيادة الأسعار».

وأشار السيسي في كلمته إلى أن ارتفاع الأسعار أمر قائم بالفعل، «لكنه ليس نهاية الدنيا»، مؤكدا على أن الدولة ستظل قادرة على البقاء قوية من خلال «تضحيات شعبها».

لم تُخطئ بعض وسائل الإعلام التي أدت جزءا من واجبها بنقلها هموم الناس وآلامها، الخطأ يقع على كاهل المسئول الذي يتجاهل ضجر الشعب وأنينه من عدم القدرة على تحمل تكلفة احتياجاته الأساسية، المخطئون هم من يطالبون الناس بالتحمل والصبر والتضحية، ويعنادون ويصرون على الاستمرار في ذات الطريق.

وكما قامت وسائل إعلام ببعض واجبها وسلطت الضوء على زيادة الأعباء على كاهل المواطنين، عملت أخرى على شغل الناس بتوافه الأمور.. يتصور من يدير تلك المنصات أن قنابل الدخان التي يجري إلقاؤها في فضاء الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي ستعمي الشعب عن رؤية الواقع بكل مرارته وقسوته.

إنكار الأزمة والاستخفاف بآلام الناس سيرفع حتما من منسوب الغضب، الاعتراف بالخطأ وكشف الحقائق ومحاولة تدارك ما جرى بالشروع في تغيير السياسات التي أوصلتنا إلى هذه النقطة قد يخفف من حدة الاحتقان ويعطي أملا بأن هناك فرصة لبداية جديدة.

ألزمت الدساتير والمواثيق الدولية الحكومات بالاعتراف بحق كل مواطن في مستوى معيشي كاف له ولأسرته، وتوفير ما يفي بحاجتهم من غذاء وكساء ومأوى، وتحسين ظروفهم المعيشية، ويشتمل العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي وقعت عليه مصر على التزامات للدولة باتخاذ تدابير في سبيل مكافحة الجوع وتوفير خدمات التعليم والصحة.

تفقد الحكومات مشروعية بقائها واستمرارها في الحكم عندما تعجز عن توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية لمواطنيها. استمرار الأنظمة في مواقعها مرهون برضا الشعوب، وعندما يتحول هذا الرضا إلى ضجر فعلى الحكومات أن تعتذر لشعبها وتفسح الطريق لغيرها، وإذا عاندت وكابرت فعلى المجالس النيابية المنتخبة أن تقوم بواجبها الدستوري وتسحب الثقة من الحكومات التي نفد رصيدها لتمنحها لمن يملك القدرة على تحقيق مطالب المواطنين.

قبل يومين وجه النائب ضياء الدين داود انتقادات حادة للحكومة في الجلسة العامة للبرلمان، مطالبا بمثول رئيس الوزراء أمام مجلس النواب «أليست الأزمات التي تعرضت لها مصر على مدار 3 شهور تستدعي مثول رئيس مجلس الوزراء أمام النواب؟».

داود وهو من القلة التي لاتزال تستحق أن يُطلق عليها «نائب الشعب» تساءل في مداخلته: أين الحكومة من المشكلات التي يعاني منها الشارع المصري، وكيلو اللحمة وصل إلى 250 جنيها، والفراخ 100 جنيه، مؤكدا أن الحكومة بما فعلته بالشعب المصري «استنفدت رصيدها أمام الأغلبية قبل المعارضة».

لم يحتمل النائب أشرف رشاد ممثل الأغلبية ورئيس الهيئة البرلمانية لحزب مستقبل وطن انتقاد زميله للحكومة وطلب التعقيب من رئيس المجلس وقال: «اختلف مع الزميل فيما ذكره بشأن أن الحكومة استنفدت رصيدها مع الأغلبية»، وأضاف مخاطبا باقي نواب المجلس: «نسير مع الحكومة في طريق واحد ولا نختلف معها جذريا، ونستخدم كل أدواتنا الرقابية، وستظل الأغلبية تنقل صوت الشعب داخل قاعة مجلس النواب».

النقاش الذي دار بين نائب الشعب ورئيس برلمانية «مستقبل وطن» كاشف لحجم الأزمة التي تمر بها البلاد، فممثلو السلطة تحت قبة البرلمان لم يحتملوا نقد زميلهم للحكومة ومطالبته بمثول رئيسها أمام المجلس الموقر.

لايزال نواب الأغلبية رغم توالي الإخفاقات يدافعون عن السلطة ويذودون عن سياساتها وتوجهاتها.. لا يقومون بدروهم النيابي إلا وفقا للسيناريو الذي يعد سلفا خارج المجلس الموقر، يتبعون قاعدة «لا اجتهاد مع النص»، ولا نقد للحكومة أو وزرائها دون ضوء أخضر من أصحاب القرار الأصليين.

في بعض الأحيان تتقبل الشعوب على مضض استمرار أنظمة حكم متسلطة ومستبدة لو تمكنت تلك الأنظمة من توفير الحد الأدنى من احتياجات الناس الأساسية فيما يعرف بمعادلة «الخبز مقابل الحرية»، لكن عندما يصبح الخبز طلبا عزيز المنال والحرية محاصرة أسيرة يصبح بقاء الأنظمة معلقا على شعرة، وأيا كانت أدوات بطش النظام لا يمكن أن يستمر دون حد أدنى من رصيد الرضا الشعبي.

في منتصف أكتوبر عام 2021 أبرزت وسائل الإعلام المصرية بيان الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء الذي بشر بتراجع معدلات الفقر في مصر إلى 29.7% خلال العام المالي 2019-2020 مقارنة بـ 32.5% عن عام 2017-2018، بنسبة انخفاض قدرها 2.8%، «ما يعكس نجاح جهود الدولة، لتحقيق العدالة الاجتماعية بالتزامن مع الإصلاحات الاقتصادية التي نفذتها الحكومة وركزت فيها على البعد الاجتماعي للتنمية».

التقرير أسهب في عرض جهود الحكومة في مكافحة الفقر وتحقيق الحماية الاجتماعية للفقراء، محملا الأسر المصرية مسئولية زيادة نسب الفقر بسبب زيادة عدد أفرادها «نجد أن 80.6% من الأفراد الذين يعيشون في أسر بها 10 أفراد أو أكثر هم من الفقراء، 48.1% للأفراد الذين يقيمون في أسر بها 6-7 أفراد فقراء، مقارنة بـ7.5% بالأسر التي بها أقل من 4 أفراد».

قبل الإعلان عن تلك النتائج بعامين كشفت نتائج بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عن زيادة معدلات الفقر إلى 32.5% في العام المالي 2017-2018 مرتفعا من 27.8% في عام 2015 بزيادة بلغت 4.7%، وأرجع الخبراء تلك الزيادة إلى تطبيق الحكومة للإجراءات الاقتصادية التقشفية التي تضمنها برنامج الإصلاح الاقتصادي المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي، وهي «إجراءات ترتب أثرا سلبيا على مستويات معيشة المواطنين كما شهدت العديد من التجارب الدولية».

وعرف بحث الدخل والإنفاق الفقر بأنه «عدم القدرة على توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية للفرد أو للأسرة، وتتمثل تلك الاحتياجات في الطعام والمسكن والملبس وخدمات التعليم والصحة والمواصلات»، وأشار البحث إلى زيادة عدد المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر بما يقرب من خمسة ملايين نسمة بنسبة زيادة 4.7%، خلال السنوات الثلاث التي شهدت إجراءات الإصلاح الاقتصادي التي اتبعتها الحكومة منذ عام 2016 قبل توقيعها اتفاقا مع صندوق النقد الدولي، وهي أعلى زيادة لمعدلات الفقر منذ عام 2000، ليصبح نحو ثلث السكان حينها مصنفين رسميًا تحت خط الفقر.

خلال الشهور الأخيرة وبعد تنفيذ الحكومة لإجراءات تقشفية جديدة وتدهور قيمة العملة المحلية وفقدان الجنيه نحو 60% من قيمته، وهو ما أدى إلى مضاعفة الأعباء على كاهل المواطنين، بسبب موجات الغلاء المتوالية، وراتفاع معدلات التضخم إلى ما يقرب من 25% بحسب آخر الأرقام الرسمية، من المتوقع أن يقع نحو 50% من المصريين تحت خط الفقر.

فالطبقة المستورة التي كانت تملك القدرة على توفير الاحتياجات الأساسية باتت عاجزة عن تحقيق حد الكفاية، والطبقات الفقيرة دُهست وغرقت في مستنقع الفقر المدقع، حتى الفئة الميسورة صارت تجاهر بالشكوى بعد تأثر مستوى معيشتها، وأضطر الجميع إلى إعادة النظر في عادتهم المعيشية.

يحاول المصريون التكيف مع التفاوت الكبير بين الأسعار والدخول، بالاستغناء عن العديد السلع والخدمات، رشدت الأسر من نفقاتها وأجرت تبدايل وتوافيق على ميزانيتها الشهرية، لكن إلى متى سيتحمل الناس، فالغلاء لا يتوقف والأسعار ترتفع يوما بعد يوم، وشبح الفقر يحاصر الجميع.

استمرار الأوضاع على ما هي عليه يؤذن بانفجار اجتماعي، وهو السيناريو الأسوأ الذي لا يتمناه أحد، فالعواقب مخيفة، البديل أن تبادر السلطة بالاعتراف بالأزمة وأن تعلن مسئوليتها عن الأخطاء التي قادتنا إلى هنا، وتشرع في إجراء تغيير جذري في السياسات والشخوص، وأن تفتح الباب لممارسة ديمقراطية تسمح بتداول الآراء والأفكار دون قيد حتى تتبلور برامج وبدائل يمكن للناس الاختيار من بينها في الاستحقاقات الانتخابية القادمة.