أما وقد صدر الكتاب.. فهذه تقدمتي التي قدمته بها:

“عبر صفحات غنية بالوقائع، وقدرة فائقة على تحليل مضمون كتابات داخل المجال الصحفي وحوله، وعمق نظري.. يضع خالد يده على أصل الحكاية الصحفية، ويقدم روشتة علاج تتجاوز ربما حدود ما يمكن أن تقدمه هذه البلاد بتركيبتها لمعشوقته “الصحافة الحرة”.

كانت فكرتى الأولى “تقليدية”: أن أكتب عن خالد السرجاني لأستعيده حيا بيننا ولو لدقائق على الورق، فخالد متعدد ومتشعب الاهتمامات، حتى يكاد أن يكون كل فرع من اهتماماته يستغرق حياة جادة كاملة. فمن اهتمام بالسينما، التي كان ينشط وسط مؤسساتها الأهلية ويشغل مركزا إداريا في جمعية السينما،إلى اهتمام فريد بالموسيقى الشعبية لبلاد العالم وشعوبه المختلفة، والتي كان يحوز منها على مكتبة موسيقية ثرية ومتفردة كانت محل استغراب أهل المجال أنفسهم.. وعلاقته الحميمة بالكتب، فخالد ربما كان أكثر من قابلت “كتبيا”، فاهتمامه وعلاقته بالكتب حد الشغف غير العادي، كهاو لجمعها، وتكوين مكتبة ثرية تحوي بتعبيراته “الرفايع” والأساسيات من كتل التراث الفكري المصري والعربي والإنساني كلاسيكيا أو حديثا، ولكنه يمارسها كعمل، وكمهمة، حتى يكاد المرء أن يظن أنه ما من كتاب ظهر، أو في طور الظهور في كل أنحاء العالم إلا وهو يعرف عنه، وعن صاحبه، وعن موضوعه، وعن تصنيفه، وعن دور النشر وتاريخ تحريره، وظروفه حتى صدوره، ويحفظ كل هذا عن ظهر قلب بذاكرة حديدية وتفصيلية.

ولكن بعد قراءة كتابه محل التقديم الآن تنبهت لتركيز موضوعه عن مهنته التي أعطاها عمره: “الصحافة”، وأحلامه عنها، وهو لم يتعامل معها كممتهن مهنة ضمن المهن، ولكن كمهمة ورسالة، ودور في الحياة وفي الوطن.

معروف أن خالد كان من النشطاء النقابيين في المجال الصحفي، حتى إن زملاءه سموه “شيخ حارة الصحفيين”، ولكنه في كتابه تعمق فيما تعاني منه الصحافة، وعلاقتها كمجال وحقل خاص بالمجال السياسي/ الاجتماعي، يكشف عنه بعمق، وبهم للجسم الصحفي كما يسميه، وبحالة المجتمع، والشأن العام، والوقائع والأحداث الجارية، والعلاقة الجدلية بينهما، والمحطات المؤثرة في تاريخ المهنة، فيكشف أن مشكلة حرية الصحافةوحرية الرأي -وهو يركز في كتابه على أن الصحافة مهنة رأي في الأساس- ليست شأنا أو مرضا تعاني منه الصحافة وحدها، ولكن ماتعانيه الصحافة في هذا الشأن هو بحكم دورها، وطموحها المهني، وطبيعة بناء الدولة ونظام الحكم والسلطة التي تعيشه البلاد عبر مراحلها وتطورها السياسي والاجتماعي عبر تاريخها الحديث.

عبر صفحات غنية بالوقائع، وقدرة فائقة في تحليل مضمون كتابات وممارسات تحريرية وعملية عبر أحداث قريبة –قبل وبعد ثورة يناير– داخل المجال الصحفي وحوله، وممارسات السلطة مقابل العمل الصحفي، وعمق نظري، يضع خالد يده على أصل الحكاية الصحفية، ويكشف حالة الصحافة، ويقدم روشتة علاج تتجاوز ربما حدود مايمكن أن تقدمه هذه البلاد بتركيبتها وحالتها السلطوية والمجتمعية لمعشوقته “الصحافة الحرة”.

يلقي خالد الضوء على أصل معاناة الصحافة المصرية فيما سماه استكانتها لمدرسة صحافة النظم الشمولية كصحافة “إعلام تعبوي” وأحيانا يسميه إعلام الستينات، أو إعلام الحزب الواحد، وهو الذي يكون أداة في يد السلطة من أجل تدجين عقول الشعب، وحتى لما ووجهوا بالصحافة الخاصة أو المستقلة في بدايات القرن الجديد التي نشأت مستقلة عن السلطة، لم يستوعب الإعلام الحكومي التغيرات، وبدلا من تطوير أنفسهم وأدواتهم ضغطوا من أجل دخول الصحافة الجديدة في صف الإعلام التعبوي، مستهدفين إلغاء نضال كبير للصحفيين ونقابتهم، وشوق الشعب المصري من أجل صحافة حرة مستقلة.

وأصل الداء هو تجاوز القوانين الأساسية التي تحفظ حق الصحفي في المعرفة، وفي العمل المستقل بعيدا عن بطش الحكومات، وكل هذا بهدف حماية المواطن من بطش الحكومة نفسها، هذه القوانين الأساسية التي كما يقول خالد معمول بها في الدول الديموقراطية العريقة، وغير العريقة، وهنا يعمق خالد مفهوم المواطنة الذي اقتصر في أدبياتنا المتداولة تعريفها كما لو كانت متمحورة حول الصراع بين العلمانيين والإسلاميين، وبين الإخوان المسلمين والأقباط ، تلك المواطنة التي ينتهك حقها في حرية تداول المعلومات، والتي تصل إلى قوانين تجرم الموظف العمومي في حالة حجبه معلومات متوفرة لديه عن الصحافة، سواء كانت خاصة أم حزبية. بل إن تقاليد الدولة الأمنية في اعتماد أو عدم اعتماد الصحفيين لدى مؤسساتها، فمعظم الوزارات ومجلس الوزاراء، ومجلس الشعب كانت ترفض اعتماد صحفيين من الصحف الخاصة لديها إلا بعد استطلاع رأي الجهات الأمنية، مما يعطي مؤشرا عن نظرة الحكومة للصحافة والصحفيين.

القوانين المشار إليها تعتبر عدم اعتماد مندوب للصحيفة –في الدول التي تحترم حرية الصحافة– ممكن أن يجرم المسئولين عنه، لأنه يعبر عن عدم احترام للقراء المواطنين وحقهم في المعرفة الذي هو من أسس حرية التعبير في أي مجتمع متحضر. يضاف إلى ذلك توافر جهات مستقلة منوط بها مراقبة احترام الحكومة للقوانين التي تضمن عمل الصحافة بدون منغصات، وليس كما هو قائم عندنا بتأسيس “مجلس أعلى للصحافة” يعتبر جهة ملحقة بالحكومة.

في ألمانيا هذه الأيام هناك قضية مثارة حول مستشارةألمانية قامت بزيارة قاعدة عسكرية، وكان مفروضا أن تتوجه بعدها لمناسبة خاصة بها، فصحبت ابنها الطفل معها بالطائرة العسكرية، وصور الطفل نفسه داخل الطائرة، فتساءلت الصحافة الألمانية حول ركوب الطفل طائرة عسكرية، ومن صوره؟، وبأي سبب، فلما واجهتهم الجهات الرسمية سواء في الدولة أو في الجيش بما يعني “وأنتم مالكم؟” ذهبوا إلى المحكمة العليا التي ألزمت الجهات الرسمية بالرد على الصحفيين، وإعطائهم الحقائق المتعلقة بهذا الأمر، كل مافي الأمر أن المحكمة وجدت أن من حق السيدة المسئولة عدم الإفصاح عن الفندق الذي تقيم فيه هي وابنها لأنه مكان خاص.

فهكذا يربط خالد بين حالة الصحافة والحالة السياسة العامة في البلاد، والترجمة القانونية والتشريعيةلمدى تطور الحالة السياسة، وحقوق المواطنة، فالعلاقة بين حرية الصحافة والرأي متلازمة مع درجة تمتع المواطن بحقوق المواطنة والسيادة داخل الدولة.

في تغطيته لما حدث للإعلام فيما يسميه المرحلة الانتقالية بعد يناير 2011، ينهي تأملاته بكتابة دقيقة ورائقة: كان من المفترض أن مصر تنتقل تجاه ديموقراطية تعددية، وتترك خلفها نظام التعددية الصورية المقيدة، ولكي يكون لنا نظام ديموقراطي ليس مرتبطا بالحكومة ولا بالسلطة القائمة خلال عملية الانتقال فهناك –كما في أي نظام ديموقراطي- مؤسسات يجب أن تكون، وأن تظل محايدة وغير متحزبة أو منحازة لأي من الأطراف السياسية والفكرية. وعلى رأس هذه المؤسسات الإعلام الحكومي الذي نطلق عليه الإعلام القومي. كان هذا الإعلام حتى بعد مرور مايقرب من عام على ثورة 25 يناير حكوميا يحتاج أن نعيد هيكلته ليصبح قوميا بحق يعبر عن كافة أطياف المجتمع، بدلا من وضعه كمتحدث باسم السلطة أيا كانت.

وكل تجارب الانتقال الديموقراطي الناجحة كان أبرز أسباب نجاحها أنها حررت الإعلام. وهناك معايير حددتها منظمة اليونسكو، وإعلاميون قدموا اقتراحات متعددة لتحرير الإعلام الحكومي مثل: نقابة الإعلاميين تحت التأسيس، والائتلاف الوطني لحرية الإعلام، والعديد من الإعلاميين الذين قدموا مقترحات مستندة إلى تجارب ناجحة سابقا، وإلى معرفتهم بأوضاع الإعلام المصري.

وهذه المهمة كانت عاجلة لأن غياب تحرير الإعلام القومي يفقدنا عنصرا أساسيا من عناصر المنافسة الديموقراطية، لأن أحد أهم آليات السيطرة على العملية السياسية خلال الأعوام السابقة كانت سيطرة النظام الحاكم على الإعلام، واستخدامه في تزييف وعي الناس، وإعادة إنتاج الاستبداد.

ومن المهم معرفة أن هذه الإجراءات كان لابد أن تسبق أي عمليات سياسية سواء تؤديإلى قيام سلطة حاكمة أو كتابة دستور وقوانين حياة سياسية عامةلأنها كانت ستصل إلى قيام هذه الإجراءات تحت مراقبة صحافة وإعلام توصل للناس معلومات ومواقف وآراء صحيحة تعكس حالة حوار مجتمعي حر وغير موجه من أي سلطة مهيمنة. لأنه من الطبيعي أن أي سلطة تأتي حتى ولو كانت منتخبة كانت سترى أن وضع الإعلام الموالي للسلطة مناسب ومريح لها، ولن تسعى لتغييره إلى إعلام مستقل، بل كان سيكون أكثر حرصا على الاستعانة بإعلام واحد منحاز ومنتميإليه، ولن يرحب بوجود إعلام مستقل يتطلب خبراء غير منحازين لأي من التيارات السياسية.

هذه الرؤية العميقة والسديدة افتقدناها، وبفقدنا لخالد فإننا في الحقيقة افتقدنا عقلا خصبا ولامعا وكتابة رشيقة كنا في أشد الحاجة إلى أن يفكر لنا ومعنا في آليات بناء مستقبل لهذا الوطن، الذي ربما اقتصر تناول خالد لحالة الإعلام فيه، رغم تضفيره الرائع بتلازمه مع حالة المجتمع السياسي والقانوني المصري، تحت وهج ثورة كان ضمن هتافاتها في مواجهة إعلان استبدادي وقت اشتعال النضال من أجل الديموقراطية: “عيش.. حرية.. صحافة حقيقية” تلك المسيرة التي انطلقت من نقابة الصحفيين، وكان معها ومن ضمنها فقيدنا العزيز: خالد السرجاني.