الثورات المصرية -في تاريخ ما يسمى الدولة الحديثة- هي محاولات شعبية لإصلاح ما فسد من الدولة، كلما تحللت الدولة وتعفنت نهض الشعب بثورة على أمل إعادة بناء الدولة على أساس من العدل والعقل والحق، وقد تمكنت الدولة -بعمقها التاريخي- من احتواء الثورات، ثم تفتيت صفوفها، ثم تفريق شملها، ثم تفشيلها، ثم التهامها على مهل، باستثناء ثورة 23 يوليو 1952 التي كانت عسكرية محضة، فتمكنت بفضل القوة الصلبة من سحق النظام القديم، ثم تفرغت لسحق خصومها، ثم ختمت بسحق حلفائها، ثم أسست ديكتاتوريةراسخة ضربت بجذورها في عمق الدولة ونسيج المجتمع، ودامت سبعين عاما ومازالت مستمرة، انقطع وجودها لبرهة بسيطة مع ثورة 25 يناير 2011 لكنها عادت بعد ثورة 30 يونيو أقوى بأسا وأشد تنكيلا.

ثورة 1803 – 1805 على الأتراك والمماليك جاءت بمحمد علي باشا الذي تنكر لها وانقلب عليها وأعاد تأسيس الدولة على قواعد راسخة من الديكتاتورية الحديثة، ثم ثورة 1876 – 1882 على الخديو إسماعيل وسيطرة الأجانب على اقتصاد ثم سياسة البلاد جاءت بالخديو توفيق الذي أبدى تعاطفا في أيامه الأولى مع مطالب الشعب، ثم انقلب عليها، وأسس ديكتاتورية جديدة، ولم يكتف بالقدر من التدخل الأجنبي الذي ورثه عن أبيه الخديو إسماعيل، فزاد عليه، واستدعى الاحتلال البريطاني العسكري الصريح الذي دام ثلاثة أرباع قرن، ثم ثورة الشعب المجيدة في عام 1919 التي اكتفت قيادتها بالنضال الدستوري في داخل قفصين من حديد، قفص السراي الملكي، وقفص الاحتلال، فلم تتحرر البلاد من طغيان داخلي ولا من احتلال أجنبي، ثم جاءت ثورة 23 يوليو 1952 لتتبنى وتنطلق وترفع شعارات كافة ماسبقها من ثورات وطنية مرة واحدة، ثم لم يكد يمر أقل من عامين من يوليو 1952 إلى مارس 1954، حتى انقلبت انقلابا كاملا على كل ما قبلها من ثورات، وأعادت بناء الدولة على أسس ديكتاتورية أسوأ من كل ما سبقها من ديكتاتوريات، إلا من زاوية أنها ديكتاتورية وطنية، تعاقب عليها حكام مصريون من آباء وأجداد مصريين لحما ودما، ديكتاتورية تخصصت في إنتاج الهزائم والنزول بوزن مصر في الإقليم والعالم، فبعد سبعين عاما لم تعد مصر هي الدولة الأرقى في الإقليم ولم يعد الشعب المصري هو الأول في الإقليم، بل تبدو مصر الآن دولة تدور حول نفسها في حلزون من الأزمات التي تحيط بها وتنفذ إلى عمقها، ويقف شعبها على مفترقات طرق ليس يدري أيها يصل به إلى غايته وأيها يعود به من جديد إلى حيث بدأ، ثورات تأكلها ديكتاتوريات ثم العودة إلى مربع الصفر من جديد.. بل إلى ما دون الصفر.

بعد ما يقرب من قرن ونصف على الثورة العرابية 1876 – 1882، لا يتمتع المصريون الآن، وقت كتابة هذه السطور في شتاء 2023، بالمقادير من الحرية التي انتزعوها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، كانت القاهرة مركزا لمجال عام تزدهر فيه السياسة بصورة يندر وجودها خارج أوروبا الغربية، نخبة سياسية من المتمصرين والمصريين، من الأعيان والأفندية، من المدنيين والعسكريين، صحافة سياسية من الدرجة الأولى، حركة وطنية عارمة تطلب الدستور والقانون والحريات والحكم النيابي وفصل السلطات ومساءلة الوزارات والقضاء على منابت الاستبداد ومواجهة الاستغلال الأجنبي لخيرات البلاد، روح وطنية ليبرالية ديمقراطية قريبة من الروح الأوروبية بقدر ما هي بعيدة عن موروث الطغيان المحلي والاستبداد الشرقي.روح تكررت في كل الثورات، ووصلت ذروتها في السنوات العشر الأولى من القرن ال 21 قبل ثورة 25 يناير المجيدة التي لخصت عبقريتها تراث كافة الثورات المصرية في أربع كلمات: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية.ثم انقلبت حركة التاريخ انقلابا حادا في العقدين الثاني والثالث من القرن ذاته، بحيث أصبح ما كان مباحا ومتاحا حتى في الصحيفة الرسمية للدولة المصرية وهي “الوقائع المصرية” في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، أصبح ممنوعا ومحرما والربع الأول من القرن الحادي والعشرين يوشك أن ينتهي.

 

السؤال: لماذا يتم إجهاض ثورات المصريين بشكل دوري متكرر؟لماذا نعود إلى نقطة الصفر بعد أكثر من قرنين من الثورات؟ لماذا تزداد البنية التحتية لديكتاتورية الدولة قوة؟ ولماذا تزداد قدرة المجتمع على المقاومة هشاشة ثم تفككا ثم تصير عدما؟ لماذا الدولة في الحضيض والشعب على الحديد؟ لماذا كل عهد أسوأ مما سبق؟.

***

الدولة في مصر ماكينة مستقرة مستمرة بغض النظر عن أي تغيير يلحق قيادتها أو أي تطور يلحق طبيعتها سواء في الشكل أو المضمون، من خلالها حكم نابليون مع إجراء بعض التغييرات فيها، ومن خلالها حكم محمد علي باشا مع إجراء ما يلزمه من تعديلات فيها، ثم من خلالها حكم الإنجليز ثلاثة أرباع قرن مع إبقاء كل شيء فيها على ما هو عليه باستثناء تعيين عدد من المستشارين في الوزارات وعدد فى المصالح الحكومية مع ما يلزم من توجيهات كان يطلقون عليها اسم نصائح، ثم من خلالها حكم عدد من ضباط الجيش في الثلاثين من أعمارهم وبصفر خبرة سياسية سابقة، الوحيدون الذين لم يفلحوا في فهم طبيعة الدولة هم الإخوان في عام حكم الدكتور محمد مرسي، أخفقوا رغم أن مفاتيح الدولة كانت في أيديهم، لكن كتالوج الدولة وأسرار تشغيلها لم تكن من ممكناتهم ولا من ثقافتهم، وهم لا يملكون غير خبرة التنظيم المغلق وثقافة الجماعة التي هي -بالطبيعة- في خصومة مع طبيعة الدولة، استوعبتهم الدولة بقصد التخلص منهم.

الثورة في مصر طارئة وعابرة وعشوائية والمصادفات فيها أكثر من التخطيط والمؤقت أكثر من الدائم والعفوي أكثر من التنظيم، إذا كانت الدولة أشبه بليل طويل ثقيل يطوي تحت جناحيه كل من يدركه، فإن الثورة سراج تلعب به الريح فما يكاد يضيء حتى تخبو ناره ثم ينطفئ نوره، فتبقى الدولة، وتزول الثورة، يبقى تأثير الدولة، بينما تؤول الثورة أثرا في التاريخ ثم ذكرى لم يعتبر.

باستثناء ثورة 23 يوليو 1952 كل الثورات كانت تفتقد لتنظيم سابق عليها، ثم تنظيم متماسك ينفذها، ثم تنظيم قوي يحميها. في كافة الثورات كانت توجد قوى شعبية مستعدة للتضحية، لكن دون تنظيم سابق، دائما كان التنظيم عفو اللحظة، يندمج الجميع في لحظات الغليان ثم الفوران ثم يبدأ التنظيم يندلق بعضه ويتبخر بعضه ويهدر بعضه ويتعرض الصامدون بعد فشل الثورة للتنكيل والعقاب حد العذاب.ثورة 1919 كانت حالة وسطا، قيادتها سبقتها في الظهور بعدة أشهر عندما ذهب سعد زغلول وعبدالعزيز فهمي وعلي شعراوي لمفاتحة المندوب السامي البريطاني في حق مصر في الاستقلال مع ضمان حماية المصالح البريطانية في مصر وذلك في نوفمبر 1918، ثم اندلعت الثورة في اليوم التالي لقرار بنفي سعد زغلول في 8 مارس 1919، سبق سعد زغلول بالمبادرة، ثم انفجار الثورة بعد نفيه، مصادفات غير مخطط منها ثورة، لكنها فجرت الثورة، وعبقرية سعد زغلول ليست في شيء غير أنه فهم ذلك، وكان مؤهلا لذلك من كل الجهات: بالخبرة في الدولة حيث عمل وزيرا للمعارف ثم وزيرا للعدل، ومؤهلا بالخبرة القانونية حيث عمل بالمحاماة والقضاء، ومؤهلا بالجماهيرية حيث كان عضوا منتخبا في الجمعية التشريعية ووكيلا لها، ثم كان مزودا بصلابة داخلية مقدودة من الصخور العنيدة لا غنى عنها لمن يتصدر لقيادة ثورة، صلابة شيخ في الستين من العمر عركته الأيام بما يكفي ليعرف متى يدخل في صدام ومتى يتمسك بالعناد ثم متى يناور ومتى ينزل تحت الملمات قبل أن يقع فيتهوي رأسه وتنقطم رقبته.

عبقرية القيادة لدى سعد زغلول -وهو في هذه المرحلة المتأخرة من العمر وهو يواجه ثورة مباغتة كان ينتظرها ويتوقعها- هو أنه شاد تنظيمين، تنظيما سياسيا يقود ويعارض ويناور ويفاوض هو الوفد المصري، وتنظيما ثوريا سريا من أخلص وأذكى شباب الثورة، بهذين التنظيمين حافظ على استمرارية الثورة، ثم لما وضعت الثورة أوزارها بإعلان الاستقلال الشكلي في تصريح 28 فبراير 1922 ثم بصدور الدستور في إبريل 1923 ثم بفوزه بالأغلبية وتشكيل الوزارة في مطلع 1924، بكل هذا ضمن استمرار تيار ثورة 1919 يكافح السراي والاحتلال ثلاثين عاما سلمت مصر جاهزة للتخلص من السراي والاحتلال معا لثورة 23 يوليو 1952.

هذا التنظيم الذي توفر لثورة 23 يوليو هو تنظيم الضباط الأحرار قبل وقوعها، ثم الجيش كله عند تنفيذها، ثم الدولة العميقة كلها من أمنية وبيروقراطية، وبهذا نجحت ثم تمكنت من حماية نفسها ثم حكمت ستين عاما متواصلة ولما سقطت في يناير 2011 استعادت دولتها في أقرب جولة. ثم التنظيم الذي توفر لثورة 1919 لم يمكن الثورة من التخلص من أعدائها لكنه حمى الثورة من أن تفشل ثم تقع تحت رحمة أعدائها إعداما وسجنا وتشريدا ونفيا وتنكيلا وعذابا وبيلا من كل شكل ولون، كما حدث وأكل محمد علي باشا كافة رموز الثورة الشعبية 1803- 1805 وعلى رأسهم نقيب الأشراف عمر مكرم، وكما حدث من تنكيل إجرامي برموز الثورة العرابية 1876 – 1882.

***

السياسة في ألف بائها هي التنظيم، يستحيل عمل سياسة لها تأثير في الواقع دون قوة تنظيمية على الأرض، السياسة بدون تنظيم ليست غير بخار في الهواء، ثم لو كانت السياسة في وارد الثورة فإن التنظيم أدعى وأولى وألزم وأوجب، ذلك بما أن الثورة يلزمها استعداد سابق عليها قبل انفجارها، ثم إدارة لشؤونها حين تقع الواقعة، ثم حماية لها ممن يتربصون بها من القوى المتضررة منها والمضادة لها، وهنا يلزمنا الإشارة إلى عدة نقاط:

الأولى: أن المصريين عشية ثورة 25 يناير 2011، استبشروا أن مصر سوف تكون أفضل بدون نظام حسني مبارك، لكن هذا لم يحدث، وعكسه هو الذي حدث، جاء من بالقياس به يعتبر حسني مبارك أرحم وأعقل وأرشد وأفضل عدة مرات. وقبل سبعين عاما أي قبل ثورة 23 يوليو 1952، استبشر المصريون أن مصر بدون العائلة الملكية وبدون الاحتلال سوف تكون أفضل، لكن العكس هو الذي حدث، بقيت خصائص الملوك تحت مسمى الرؤساء، وبقيت قسوة الاحتلال تحت رداء الاستقلال الوطني. ومن قبل هذا وذاك استبشر المصريون أن ثورة 1919 سوف توفر لهم حكما دستوريا وتحقق لهم استقلالا وطنيا، لكن العكس هو الذي حدث، استمر الملكان فؤاد ثم نجله فاروق يتعاملان مع الدستور باستنكار ومع الشعب بإزدراء، كما استمر الاحتلال الفعلي تحت مسمى الاستقلال الشكلي والمفاوضات غير المثمرة إلا دوام الاحتلال، ثم قبل مائة وخمسين عاما تخيل المصريون أن عزل إسماعيل نهاية للطغيان ثم فوجئوا أن نجله -الضعيف المهتز الأجوف المتردد- استمرار لطغيان والده رغم أنف الثورة، وكذلك قبل أكثر من قرنين تخيل المصريون الذين عزلوا السلطتين المملوكية والعثمانية ثم جاءوا بمحمد علي باشا، تخيلوا أن الحاكم الجديد سوف يحكم بالعدل والحق والشرع كما اشترطت الجماهير الثائرة عند توليته بإرادتها، لكن الذي حدث هو أن محمد علي باشا كان أشد طغيانا من نخب المماليك والعثمانيين الذين قامت ضدهم الثورة.

الثانية: إذا كان ذلك كذلك، فإن السؤال المشروع والطبيعي هولماذا بعد الثورات طغيان جديد ربما أشد من طغيان ما قبل الثورات؟ الجواب كامن في صميم الدولة المصرية ذاتها، في طبيعتها المتجذرة كجهاز سلطة لها وظيفتان لا ثالث لهما قديما وحديثا واليوم وإلى أجل لا يعلم منتهاه إلا علام الغيوب. الوظيفة الأولى: قهر الشعب ووضعه تحت مطلق التحكم وكامل الخضوع وتمام السيطرة. الوظيفة الثانية: استئثار أقلية الحكم بالنصيب الأوفى من خيرات البلد دون اعتراض من أهل البلد أو احتجاج من أصحابها. هذا هو جذر الدولة وقلبها الصميم ودماغها الغريزي وجهازها العصبي ودورتها الدموية وحياتها كلها في كلمتين بلا ثالث لهما: قهر أهلها واستنزاف خيرها. هذا حال الدولة المصرية كجهاز سلطة يضع يده على البلد، يضعها بالقوة، بالغزو أو الفتح، أو ما يشبه الغزو والفتح، فالمهم أنه ليس من أهلها، هو حكم وافد عليها من خارجها، ليس من ضفاف نيلها ولا من عجينها وطينها، من فرس وإغريق ورومان وعرب وترك وأوروبيين، هكذا استقرت روح الدولة باعتبارها آلة حكم وعقد ملكية، الحاكم يحكم ويملك، له سلطة الحكم وله حقوق الملكية، حتى إذا جاء الحكام من أهلها وطينها وعجينها وضفاف نيلها، سكنتهم روح هذه الدولة واستولت عليهم وجرت في دمائهم ووجهت سياساتهم ونخششت في تلافيف عقواهم وثنايا أرواحهم، فهم حكام وملاك، يحكمون الشعب ويملكون البلد. هذه هي روح الدولة المصرية كجهاز يحكم بالقوة وليس بغير القوة. فقد تمتع رئيس جمهوري مثل عبدالناصر 1918 – 1970 بسلطة مطلقة في ظل الاستقلال، لا تقل عن سلطة محمد علي باشا 1769 – 1849 وهو مؤسس استعمار عائلي حديث في مصر، ولا تقل عن سلطة أستاذ المماليك العظام الظاهر بيبرس 1223 – 1277، مع فارق أن كلا من بيبرس ثم الباشا كانوا على درجة رفيعة من النبوغ العسكري والعبقرية السياسية فكلاهما ذهب بحدود مصر إلى ما يشبه الإمبراطورية، وكلاهما لم ينسحب أمام أعدائه مرتين دون قتال، كلاهما لم تخسر مصر شبرا واحدا من أرضها تحت حكمه.

الثالثة: هذه الروح، روح الحكام الملاك، تفسر لك، الطريقة الواحدة المتكررة في تعامل الدولة مع فكرة الثورة، فكرة الثورة نقيض لفكرة الدولة من هذا النوع، كل الثورات كانت ومازالت تنشد أمرين: وضع القيود على السلطة المطلقة للحكام، ثم استخلاص حقوق الشعب المادية والأدبية التي يأكلها الحكام. هذا يجعل الصدام حتما مقضيا، لكن يخفف منه عدة حقائق: أن الثورات تظهر في وقت تضعف فيه الدولة، ثم تظهر بغتة على غير توقع حتى ممن يقومون بها فهي تفاجئ من يقوم بها مثلما تباغت من تقوم ضده، في الغالب تنشأ الثورة عن غضب كامن متراكم، ناتج عن مظالم مستمرة، فلا الظلم يتوقف، ولا الغضب يجد عاقلا في الدولة يعالج أسبابه، ثم مع واقعة عابرة يتحرك من لا يحسبون عواقب الحركة، ثم ينضم إليهم غاضبون، ثم تتسع الحركة، ثم تعجز الدولة المتعفنة عن التعامل معها، ثم تبدأ في المكر بها، ثم تتملقها، ثم تحتويها، ثم تفرق صفوفها، ثم تتخلص منها بالتدريج. محمد علي باشا كان ممن يقفون -من وراء ستار- وراء ثورة 1803- 1805 وكان يعرف كيف تم النفخ في بالونتها، وهو من أهم من نفخوا في نارها حتى يشتعل لهيبها، ومن ثم كان يعرف كيف يفرغ البالونة بمهارة عالية المستوى. ثم الثورة العرابية لها مرحلتان: مرحلة في عهد الخديو إسماعيل، وكان الخديو بشحمه ولحمه ممن يشعلونها، سواء مجلس شورى النواب أو في الجيش أو في الصحافة، كانت للخديو مصلحة في توظيف الثورة ضد التدخل الأوروبي في الشؤون الداخلية بدعوى ضبط ارتباك المالية المصرية التي أفلست تحت حكم الخديو، ثم كانت للخديو مصلحة في إسقاط وزارة نوبار باشا التي أرغم الأوروبيون الخديو على تشكيلها كما أرغموه على تعيين وزيرين أوروبيين في مجلس الوزراء. ثم الشق الثاني في عهد نجله الخديو توفيق، وهو استخدمها للتخلص من وزارة رياض، وكانت المواجهة التي جرت بين الخديو وعرابي في قصر عابدين في التاسع من سبتمبر 1881 بترتيب مسبق كما يذكر الأستاذ الإمام محمد عبده في ص 610 من المجلد الأول من مجموع الأعمال الكاملة حيث يقول: “ولكن المتظاهرين أخبروا الخديو عن المظاهرة قبل حدوثها بيوم، ووافق عليها الخديو لأنه كان يرغب في عزل رياض”.

الرابعة: إذا كانت ثورة 23 يوليو 1952 ومن قبلها ثورة 1919 توفر لهما قوة تنظيمية، عسكرية في حالة ثورة يوليو، ومدنية في حالة ثورة 1919، وإذا كانت هذه القوة التنظيمية ضمنت استمرار الثورتين ثم ضمنت عدم وقوع الثوار في يد الثورة المضادة وما تحمله من تأديب وعقاب وعذاب وتنكيل، فإن هذا لم يتوفر لغيرهما، أي لثورات 1803- 1805، ثم للعرابية، ثم لثورة 25 يناير 2011. الثورات الثلاث تعرضت للتنكيل بدرجات متفاوتة، مع عدة فوارق: الأول أن الخطر الأكبر على حكم محمد علي باشا لم يكن الثورة، كان الخطر عليه يأتي من المماليك في الداخل، ثم الإنجليز الذين يستعملونهم ضده من الخارج، ثم العثمانيين، فتعامل مع الثورة بحكمة ودهاء بما يضمن تصفيتها دون آثار جانبية تضعف موقفه في صراعاته مع المخاطر الثلاثة الأهم.الفارق الثاني: أن أطرافا في الدولة كانت لها مصالح في تسخين الثورة العرابية ثم ثورة 25 يناير، ثم هذه الأطراف ذاتها، انقلبت عليها، بعد أداء الغرض منها، ثم بعد الثورتين وقع عليهما أعلى مستوى من التنكيل المعنوي والمادي، من تشويه سمعة الثورة، وتلويث سمعة الثوار، وتجريد الثوار العرابيين من وظائفهم وأملاكهم ورتبهم وألقابهم، وتجريد ثوار يناير من كل فضيلة وطنية وأخلاقية عامة أو شخصية.

الخامسة: إذا كانت الدولة من وجهة نظر الحكام -قديما وحديثا- ماكينة قهر وآلة نهب، فإن الدولة عند عموم المصريين قدر كوني طبيعي أزلي أبدي، يثورون عليها عفوا طارئا عابرا، ثم يعودون إليها من أقرب طريق، ينفضون من حول الثورات بالسرعة ذاتها التي يلتفون بها حولها، يتركون أكتاف الثوار تأكلها دولة الطغيان، ولا يمانعون في الخوض في سيرتهم مع الخائضين.

***

الحديث مستأنف الأربعاء المقبل بمشيئة الله.